أشار تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" الاميركية، إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن ستُرسل في أبريل المقبل، طائرات هجومية قديمة من طراز “إيه–10” إلى منطقة الشرق الأوسط، لتحل محل الطائرات القتالية الأكثر تطوراً المتعددة المهام بالمنطقة؛ وذلك ضمن خطة أمريكية أوسع تتضمن أيضاً الإبقاء على قوات بحرية وبرية محدودة بالشرق الأوسط، في إطار جهود الإدارة الديمقراطية لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الهندوباسيفيك وأوروبا؛ لردع الصين وروسيا باعتبارهما التحديَين الاستراتيجيَّين للولايات المتحدة راهناً.
أسباب متعددة
كان وراء قرار الإدارة الأمريكية نقل طائرات قتالية حديثة متعددة المهام من الشرق الأوسط إلى آسيا وأوروبا، مقابل إرسال طائرات هجومية قديمة إلى المنطقة، جملة من الأسباب يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– تزايد الجدل حول أهمية الشرق الأوسط في الولايات المتحدة: ثمة جدل دائر في الداخل الأمريكي حول أهمية الشرق الأوسط لواشنطن، مع وجود اتجاه يرى أن المنطقة لم تعد منذ عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ذات أهمية لواشنطن، في إطار الاستراتيجية الأمريكية للاتجاه نحو آسيا (محور آسيا)، باعتبارها المنطقة الأكثر أهميةً للولايات المتحدة خلال العقود القادمة، كما يرى هذا الاتجاه أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وكذلك إدارة الرئيس جو بايدن، اتبعتا هذا النهج.
ويستشهد أنصار هذا الاتجاه باستراتيجية الأمن القومي للإدارة الأمريكية، التي صدرت في 12 أكتوبر الماضي، والتي أوضحت أن التحدي الرئيسي للولايات المتحدة خلال العقد القادم يتمثل في التهديد الروسي والصيني، في ظل جهود الإدارة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والنجاحات الأمريكية في هزيمة تنظيمَي القاعدة وداعش، وانتهاء السياسات الأمريكية لبناء الدول، وفرض الديمقراطية بالقوة بعد إخفاقات الحرب الأمريكية في أفغانستان والعراق، وانسحاب إدارة الرئيس بايدن من أفغانستان في 31 أغسطس 2021 قبل الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر الإرهابية.
2– سيطرة سياسات منافسة القوى العظمى على تحركات إدارة بايدن: بعد عامين من رئاسة جو بايدن، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الأزمات السياسية والأمنية الداخلية والخارجية التي تتزامن مع عودة سيطرة سياسات منافسة القوى العظمى على الاستراتيجية الأمريكية، وخاصةً مع احتدام المنافسة مع روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق، والصين التي تنظر إليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية وديمقراطية، على أنها الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. وقد وضعت إدارة جو بايدن، منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، مواجهة بكين على رأس أولوياتها باعتبارها القوة الدولية التي لديها القدرة على تهديد القيادة الأمريكية الأحادية للنظام الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق ونهاية الحرب الباردة.
ولذلك تأتي الخطوة الأمريكية لنقل طائرات متعددة المهام من منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا في ظل احتدام سياسات منافسة القوى العظمى التي تسيطر على سياسات إدارة الرئيس جو بايدن، وخاصةً مع تصاعد التوتر الأمريكي من روسيا والصين، سواء لسياساتهما كلٌّ على حدة، أو لتحالفهما في أعقاب زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى موسكو، والخلافات الأمريكية–الصينية المتصاعدة حول تايوان، وملف التجسس الصيني على الولايات المتحدة، سواء من خلال البالونات أو تطبيق تيك توك.
3– قدرة طائرات “إيه–10” على التعامل مع تهديدات الشرق الأوسط: تغيَّرت السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط من القتال ضد الجيوش النظامية إلى التركيز على مواجهة الفاعلين من غير الدول، مثل الميليشيات المسلحة، ووكلاء إيران المسلحين في المنطقة الذين يهددون القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، وحلفاء الولايات المتحدة التقليديين بالمنطقة، وهي مهام يمكن تنفيذها من خلال طائرات “إيه–10″، التي يبلغ عمرها أربعة عقود. أما التركيز على مواجهة القوات العسكرية الروسية والصينية ذات القدرات العسكرية العالية والمتطورة، فيتطلب نقل الطائرات المقاتلة الحديثة، مثل إف–22 وإف–16 إلى مناطق المنافسة الجديدة للولايات المتحدة.
وقد سبق أن استخدمت الولايات المتحدة تلك الطائرات في تحرير الكويت من الغزو العراقي في فبراير 1991، وفي الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003، والتخلص من نظام معمر القذافي في ليبيا في عام 2011، والهجمات العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق. وبموجب الخطة الجديدة، سيكون هناك سرب من طائرات إيه 10 في المنطقة بجانب سربين من طائرات إف– 15E وطائرات إف–16.
4– توافر البدائل العسكرية الأمريكية في المنطقة: هناك بدائل أمريكية متعددة لتعويض نقل طائرات مقاتلة حديثة متعددة المهام من منطقة الشرق الأوسط لمواجهة الصعود الروسي والصيني من خلال نشر طائرات بدون طيار جوية وبحرية، والعمل مع الشركاء الإقليميين لمواجهة التحديات الأمنية التي تهددهم، وكذلك أمن ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة؛ فعلى سبيل المثال، أجرت القوات الأمريكية والإسرائيلية مناورات عسكرية كبيرة في يناير الماضي تضمنت أكثر من 140 طائرة، وهي المناورات التي كانت تهدف إلى إظهار قدرة الولايات المتحدة على زيادة قواتها في المنطقة وقت الأزمات، مع استمرار مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول المنطقة لتكون أكثر قدرةً على مواجهة التحديات الأمنية بالمنطقة، والحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليميين في ظل نقل واشنطن المهام والأعباء الأمنية إلى شركائها وحلفائها بالشرق الأوسط.
5– الاستقرار الإقليمي عقب الاتفاق السعودي–الإيراني: ترجع العديد من التحليلات قرار الإدارة الأمريكية نقل طائرات حديثة من الشرق الأوسط إلى آسيا وأوروبا إلى التوقعات بأن تشهد المنطقة حالة من الهدوء والاستقرار الإقليمي عقب الوساطة الصينية بين المملكة العربية السعودية وإيران في العاشر من مارس الجاري، والاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ عام 2016، بعد تعرض السفارة السعودية في طهران، وقنصليتها في مدينة مشهد الإيرانية لاعتداءات من قبل محتجين على إعدام الرياض رجل الدين السعودي الشيعي المعارض نمر النمر، وإعادة فتح سفارتيهما وممثليتاهما خلال شهرين.
ومن المقرر أن يُنهي الاتفاق التنافس الطويل الأمد بين الرياض وطهران الذي كان مصدر العديد من الصراعات الإقليمية. ومع معالجة هذا الصدع الأساسي، ستُعيد الولايات المتحدة الأمريكية استثمار مواردها وقدراتها العسكرية لمواجهة الصعود الصيني، وتحدي روسيا قواعد ومبادئ النظام الدولي الذي أسَّسته الولايات المتحدة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.
دلالات عديدة
يحمل قرار الإدارة الأمريكية نقل طائرات مقاتلة حديثة ومتعددة المهام من الشرق الأوسط لمواجهة التحديَين الروسي والصيني في آسيا أوروبا، العديد من الدلالات، ومن أهمها:
1– إعادة تموضع القوات الأمريكية وليس انسحابها من الشرق الأوسط: أثار قرار الإدارة الأمريكية العديد من الهواجس للعديدين داخل المنطقة وخارجها؛ بأنه يُؤشر على خطوات أمريكية فعلية للانسحاب من الشرق الأوسط، لكنه في حقيقة الأمر إعادة تموضع للقوات الأمريكية حول العالم، في ظل تغيُّر أولويات الأمن القومي الأمريكي، فضلًا عن أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بوجود عسكري قوي يُمكِّنها من الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها الأمنية؛ حيث لا يشتمل تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة حاملات الطائرات، وكذلك تحتفظ الولايات المتحدة بكتيبتين مضادتين للصواريخ من طراز باتريوت بالمنطقة، وبنحو 2500 جندي أمريكي في العراق، تقتصر مهمتهم على تقديم الدعم والمشورة للقوات العراقية، ونحو 900 جندي في سوريا لمساعدة حلفائها من الأكراد لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي.
فيما سيبقى أكثر من 30 ألف عسكري أمريكي في المنطقة. وتحتفظ القوات الجوية الأمريكية بمراكز عسكرية رئيسية في قاعدة العديد الجوية بقطر، وقاعدة الظفرة الجوية بالإمارات، وقاعدة علي السالم الجوية بالكويت. وسيتمركز في تلك المواقع الثلاثة أكثر من 17 ألف جندي أمريكي.
2– بدء حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين: يتوقع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر تحوُّل المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين إلى حرب باردة ثانية، لكنها ستكون أكثر خطورةً من الحرب الباردة التي اتسمت بها المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية بين واشنطن والاتحاد السوفييتي السابق، حتى سقوط الأخير مع بداية التسعينيات من القرن المنصرم. وقد حذر وزير الخارجية الصيني وانج يي، من أن بدء حرب باردة بين واشنطن وبكين سيكون بمنزلة كارثة للعالم بأسره، وهو ما أكده كيسنجر في السابق؛ حيث ذكر أن أي صراع عسكري بينهما سيجعل العالم أسوأ مما كان عليه بعد الحرب العالمية الأولى.
3– تزايد الانتقادات لسياسات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط: يرى العديد من العسكريين الأمريكيين المتقاعدين، أن نهج الإدارة الأمريكية لتقليل الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط يحد من فاعلية السياسات الأمريكية للتعامل مع التحديات الأمنية المستمرة والمحتدمة في المنطقة؛ فقد أشار تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال” السابقة الإشارة إليه، إلى أنه سبق أن رفض قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا، في مذكرة سرية إلى الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة، اقتراح بعض مسؤولي الدفاع المدنيين خلال العام الماضي إجراء تخفيضات كبيرة في القوات البحرية ومنظومات باتريوت المضادة للصواريخ في الشرق الأوسط، في إطار الخطة الأمريكية لإعادة انتشار قواتها حول العالم.
4– استمرار الدعم الأمريكي العسكري لأوكرانيا: على الرغم من المعارضة داخل الكونجرس الأمريكي حول ضرورة استمرار المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، التي أثرت كثيراً على مخزون الولايات المتحدة الأمريكية من الأسلحة، مع صعود تيار بين المشرعين الأمريكيين، ولا سيما الجمهوريين بعد فوزهم بالأغلبية في مجلس النواب عقب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أجريت في نوفمبر الماضي، وهو التيار الذي لا يرى أن الحرب الروسية–الأوكرانية أولوية أمريكية؛ فإن نقل طائرات أمريكية متعددة المهام من الشرق الأوسط إلى أوروبا يأتي في ظل استمرار التزام الإدارة الأمريكية بدعم أوكرانيا وحماية الأمن الأوروبي الذي يُعَد مصلحة أمريكية، وفي ظل قناعة أمريكية باستمرار الحرب الروسية–الأوكرانية، التي دخلت عامها الثاني، واحتمالات التصعيد الروسي، ولا سيما مع توقعات أمريكية بتقديم الصين أسلحة لموسكو تعزز وضعها العسكري.
5– مواصلة التزام الولايات المتحدة بأمن الحلفاء الآسيويين: يأتي قرار نقل طائرات متعددة المهام إلى منطقة الهندوباسيفيك في ظل مساعي الإدارة الأمريكية لتعزيز شراكاتها وتعاونها الأمني مع حلفائها الآسيويين لمواجهة الصين، باعتبارها التهديد الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة الأمريكية راهناً، وفي ظل الجهود الأمريكية لاستعادة ثقة حلفائها باستمرار الالتزام الأمريكي بأمنهم، بعد الهواجس التي انتابتهم عقب عملية الانسحاب الفوضوي من أفغانستان قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر بدون التحاور مع الحلفاء الأوروبيين. وينظر إلى القرار الأمريكي الأخير على أنه رسالة طمأنة لحلفاء الولايات المتحدة بمنطقة الهندوباسيفيك بدعم عسكري أمريكي متقدم لردع التهديد الصيني لأمنهم ولحرية الملاحة ببحر الصيني الجنوبي.
تدخل مرن
خلاصة القول: يأتي قرار الإدارة الأمريكية نقل أسلحة متقدمة متعددة المهام من منطقة الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا لحاجة الولايات المتحدة إلى قدرات عسكرية (جوية وبرية وبحرية) متقدمة لمواجهة الصعود الصيني والتهديدات الروسية المتزايدة للأمن الأوروبي، في وقت يتوقع أن تهدأ فيه التهديدات بمنطقة الشرق الأوسط عقب التوصل إلى اتفاق سعودي–إيراني على إعادة العلاقات الدبلوماسية بوساطة صينية؛ الأمر الذي يتطلب تدخلاً أقل من الولايات المتحدة.