مقدمة
أطلق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال حفل إفطار الأسرة المصرية في شهر رمضان الماضي، دعوة إلى جميع الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية إلى إجراء حوار وطني جامع، يهدف إلى بلورة رؤية مجتمعية كلية، تطرح حلولاً ومقترحات مقبولة وممكنة للإشكاليات والقضايا المصيرية التي تواجه الدولة المصرية في هذه المرحلة الانتقالية المعقدة من عمر النظام الدولي. وعملياً، لاقت دعوة الرئيس ترحيباً من القوى الوطنية بدرجات متفاوتة، وقد تم إسناد تنظيم وإدارة هذا الحوار لـ “الأكاديمية الوطنية للتدريب”، التي تعهدت والتزمت بإدارة الحوار بكل موضوعية وحياد. وأشار الرئيس السيسي في دعوته إلى أنه سيشارك في بعض جلسات الحوار؛ ما أعطى دعوته مصداقية وقبولاً من القوى الحزبية والسياسية والشبابية، خاصة وإن الدعوة تكللت بإعادة تفعيل “لجنة العفو الرئاسي”، والتي تم من خلالها إصدار عفو، بالفعل، عن عدد من النشطاء السياسيين، الذين كانوا يحاكَمون على ذمة قضايا عدة.
ومنذ أن أطلق الرئيس السيسي دعوته، كُتبت العديد من المقالات والدراسات، التي أكدت أن الحوار هو أحد أهم الملامح المميزة لاتساع المجال العام، والأخذ بمزيد من الممارسة الديمقراطية، لذا لابد أن يمثَّل فيه أصحاب المصالح والاتجاهات الاجتماعية والسياسية القائمة، حتى يصل المجتمع إلى توافق أو رضاء عام حول أهداف وأولويات المرحلة التي يمر بها. واللافت أن هذه المقالات والدراسات أجمعت على أمر واحد، ألا وهو: “أنه لا حوار مع من رفع السلاح في وجه المصريين”، بل وذهب بعضها قدماً لتؤكد على ذلك، اعتقاداً خاطئاً أو تخوفاً غير مبرر، من أن جماعة الإخوان المسلمين قد تكون طرفاً في هذا الحوار، أو أن يكون ترحُّم الرئيس عبدالفتاح السيسي لأول مرة علناً على الرئيس الراحل محمد مرسي مؤشراً على أن الحوار سيشمل الجماعة أيضاً.
وقد أثار تصريح الرئيس السيسي المفاجئ بشأن مرسي تكهنات وجدلاً بشأن موقع جماعة الإخوان المسلمين من الحوار السياسي، خصوصاً أنه لم يشر إلى الجماعة بوصفها “أهل الشر” كما اعتاد في أحاديثه السابقة، بل وصفها بـ “القوة غير الجاهزة لقيادة دولة بعد 2011”. وقد عزز ذلك قول السيسي خلال احتفالية بعيد الفطر في الثاني من مايو الماضي، إنه بقي لمدة 7 سنوات لا يذكر اسم جماعة الإخوان المسلمين، ولا يشير إليها إلا بعبارة “أهل الشر”، حتى يعطي فرصة لهم للتراجع عن الشر، داعياً الله بالهداية للجميع “ربنا يهدينا كلنا”.
في هذا الإطار، ستتناول هذه الورقة البيئة الداخلية التي يتم فيها الحوار للدولة والجماعة معاً، كما تحاول الإجابة عن عدة أسئلة مثارة في الداخل المصري، والخارج أيضاً، ومنها: ما حقيقة موقف جماعة الإخوان المسلمين من الحوار؟ ولماذا ترحب الجماعة بالحوار بهذا الشكل بعدما ناصبت الدولة المصرية كل أنواع العداء؟ ولماذا لا يمكن الحوار مع الإخوان؟ وأخيراً، ما السيناريوهات المتوقعة للحوار بين الإخوان والدولة المصرية؟
أولاً: بيئة الحوار
يأتي الحوار الوطني في ظل أزمات وأوضاع سياسية حرجة، ومركبة، لكل من الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين معاً. وبالرغم من أنه لا يمكن المقارنة بين الجماعة والدولة المصرية من الناحية النظرية، إلا أننا سوف نشير إلى مؤشرين يتم الحوار في أجوائهما، وربما دفعا أيضاً إليه.
1- على صعيد الدولة المصرية: بالرغم من الطفرة الكبيرة التي شهدتها مصر خلال المرحلة الماضية من إقامة بنية أساسية في مختلف المجالات، وإنشاء مدن جديدة، والقضاء على الأماكن والبؤر الاجتماعية الأشد خطراً، ونجاح الأجهزة والمؤسسات الأمنية في مواجهة الإرهاب، وإقامة مشروعات قومية لتطوير قرى الريف المصري “مبادرة حياة كريمة”، وغير ذلك من الإنجازات الكبيرة، فإنه يمكن القول إن الدولة المصرية “غير محظوظة” بطبيعة التفاعلات الدولية الجارية في البيئة الاستراتيجية الدولية والإقليمية. فما لبثت الدولة في الخروج والتعافي من التداعيات السلبية لأزمة كوفيد – 19، والتي أثرت بشكل سلبي على حجم الاحتياطي الأجنبي، حتى جاءت تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية أشد وطأة، ليس فقط بسبب سرعة ظهور التداعيات الجيواستراتيجية والاقتصادية للحرب، ولكن أيضاً لأنها كانت لحظة كاشفة عن “تهديدات الأمن الغذائي المصري”، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدّري القمح إلى مصر، التي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم، إذ بلغت نسبة الواردات المصرية من القمح الروسي عام 2021 نحو 50%، ومن القمح الأوكراني 30%؛ أي إن مصر تحصل على 80% من وارداتها من القمح من هاتين الدولتين.
إن التحديات الاقتصادية وكيفية مواجهتها من القضايا المهمة التي يدور حولها الحوار بهدف الوصول إلى أفضل الطرق الناجعة لمواجهتها، خاصة تلك التي تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم، وأسعار المواد الغذائية والطاقة، وارتفاع معدلات البطالة، وإيجاد فرص العمل، وطبيعة ودور القطاع الخاص في المرحلة المقبلة، ومواجهة وعلاج ارتفاع معدلات الدين العام. يضاف إلى ذلك بالطبع، التحديات والقضايا الأمنية والسياسية والاجتماعية التي ستكون حاضرة على أجندة القوى المجتمعية والسياسية المتحاورة، والتي لن تقل أهمية عن القضايا الاقتصادية.
2- على صعيد جماعة الإخوان المسلمين: تمر الجماعة داخلياً بظروف وأوضاع في غاية الصعوبة، لم تمر بها من قبل، وهي ليست خافية على أحد، حيث تعاني من جراء الصراع والانقسام والتشرذم، والتشتت أيضاً. كما تعاني من الاتهامات المتبادلة بين أعضائها حول ما وصلت الأمور إليه داخلها. وخارجياً، فهي ليست أفضل حالاً، فهي جماعة محظورة، قانونياً وقضائياً، في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وتصارع من أجل البقاء، وباتت منبوذة من القوى المجتمعية والسياسية، وهي أيضاً ملاحقة أمنية في العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، فضلاً عن الأزمات المتتالية للفروع، واختفاء القيادات التاريخية للجماعة.
وفي ظل هذه البيئة الداخلية الغامضة، شكلت دعوة الحوار الوطني في مصر فرصة لتحقيق العديد من الأهداف: أولها، التأكيد على الموقف المجتمعي الموحد الرافض لجماعة الإخوان المسلمين، التي قامت بالاستقواء بالخارج، وتشويه سمعة مصر عبر اختلاق الكثير من الأزمات المفتعلة التي لا وجود لها على أرض الواقع. وقد كانت حالة الرفض المجتمعي لمشاركة الجماعة في الحوار، بمثابة استفتاء شعبي، وتجديد للعهد على عدم وجود موطئ قدم للجماعة مرة أخرى في العملية السياسية في المستقبل القريب، والبعيد أيضاً. وثانيها، استثمار طاقات القوى السياسية والشبابية، واستخراج أقصى قدر لديها من الأفكار الإيجابية التي يمكن أن تسهم في دفع القضايا كافة للأمام، وإيجاد حلول مبتكرة لها. فلاشك في أن الحوار سيكون بمثابة تحدى أو اختبار حقيقي للقوى السياسية من أجل أن تثبت لنفسها أولاً ثم للمسؤولين وللرأي العام ثانياً، أن لديها القدرة والرؤية التي تتيح لها دوراً مهماً في عملية البناء والتنمية، وأن المطلوب منها ليس مجرد الحضور والمشاركة، ولكن كيف يمكن أن يكون لهذا الحضور قيمة مضافة. وثالثها، إعادة الحياة للقوى السياسية والمدنية عبر حالة الدينامية التي أوجدها الحوار الوطني في المجتمع من خلال اشتراك كل المؤسسات الوسيطة والأحزاب السياسية في تقديم رؤاها، ليس لحل المشاكل الآنية فقط، ولكن لما يجب أن تكون عليه الأوضاع مستقبلاً.
ثانياً: موقف جماعة الإخوان المسلمين من الحوار
برغم أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن مدعوة إلى الحوار أو مرحباً بها من الأصل، فإن الجماعة لم تستطع بلورة موقف موحد من الحوار في ظل الخلافات والنزاعات التي تعانيها، فقد أبدت الجبهتان الرئيسيتان في الجماعة (جبهة اسطنبول بقيادة محمود حسين، وجبهة لندن بقيادة إبراهيم منير) استعدادهما للحوار بمجرد خروج كلمات الرئيس السيسي حين قال إن “مصر تتسع للجميع، والاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، معلناً إطلاق “حوار سياسي، مع كل القوى بدون استثناء ولا تمييز”. أما الجبهة الثالثة، والذي يطلق عليها مجموعة “المكتب العام”، وهم بقايا مجموعة “محمد كمال”، الذي كان يدير الجماعة في الفترة من 2013 وحتى قبيل مقتله في 2016، والمعبر عنها “محمد منتصر” المتحدث الرسمي الأسبق للجماعة، فقد رفضت دعوة الحوار، وهو ما سنعرض له بشيء من التفصيل فيما يلي:
1- موقف جبهة إبراهيم منير: استخدمت هذه الجبهة تكتيك المراوغة، حيث لم تعلن موقفها من الحوار بشكل مباشر، بل عبر عنه “يوسف ندا” القيادي التاريخي والمفوض الدولي باسم الجماعة سابقاً، وأعلن قبوله الحوار مع الدولة المصرية بعد ما أسماه بـ “رد المظالم”، وهو أسلوب وتكتيك يسهّل التنصل من أي التزامات في حالة رفض الدولة المصرية الحوار مع الجماعة، ولرفع حرج القيادة أمام أتباعها، بالادعاء أنه تصرف فردي من يوسف ندا، حيث أكد إبراهيم منير من قبل أن الجماعة لن تعقد صفقة مهما كانت مع نظام الرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، مشيراً إلى أن انتظار الجماعة وقوع أحداث تساعد في إسقاط النظام هو أمر طبيعي.
واللافت أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يطرح فيها هذا الفريق إمكانية الحوار مع النظام المصري من خلال يوسف ندا، والذي أعلن أنه يطرح للمرة الثانية إمكانية الحوار مع “هرم السلطة في مصر”. وقد جاءت المرة الأولى خلال رسالة وجهها ندا في 14 سبتمبر 2021، تحت عنوان “مصر إلى أين؟”، قال فيها إن الباب مفتوح للحوار مع “رئاسة النظام المصري”، ويفسده وضع شروط مسبقة[11]، أما المرة الثانية، فقد جاءت بعد أيام من دعوة السيسي إلى إطلاق حوار بين كافة القوى السياسية “دون تمييز ولا استثناء”، حيث نشر ندا رسالة بعنوان “رسالة ثانية مفتوحة لمن تردد في الرد على الرسالة الأولى”، في إشارة لعدم تلقيه رداً على رسالته الأولى في سبتمبر 2021. وقال “نحن – الإخوان المسلمين – تعلمنا من كتاب الله قصة ابنَيْ آدم”، الذي قتل أحدهما أخاه، مضيفاً: “فشـلت شياطين الغدر أن تـقنعنا بـأن ندخل فـي طريق الثأر”. وأضاف متسائلاً: “هذه صفحة من تاريخ مصرنا العزيزة لم تطوَ بعد، فهل طويناها إلى غيرها أنقى وأنصع يحيطها الـتسامـح والـغفران؟”. وتابع: “هـل بـدأنـا المـسيرة بـرد الـظالـم ووقـف الـعدوان، وإنـهاء مـعانـاة المسجونين مـن الـنساء والـرجـال، ومـعانـاة أسـرهـم بـتنفيذ مـا نـصت عـليه المـادة 241 مـن الـدسـتور الـمصري الـحالـي (تسمح بإصدار قانون للمصالحة وتعويض الضحايا)”. وختم يوسف ندا، حديثه قائلاً: “سأظل أقول إن بابنا مفتوح للحوار والصفح بعد رد المظالم”.
2- موقف جبهة محمود حسين: جاء موقف هذه الجبهة من الحوار عبر مجموعة من النشطاء المنتمين لها أو المقربين منها، حيث نشروا بياناً على موقع “change.org” وطالبوا بتوقيع الجماهير المصرية عليه، وهذا التكتيك يسمى بـ “حصان طروادة” أي الولوج إلى الحوار من داخل حركة نشطاء تدعي المعارضة المدنية، فاذا انطلت الحيلة على النخب أو على الجماهير ففي هذه الحالة ترفع مطالب الإخوان (جبهة حسين)، وفي حالة رفض الدولة لشروطهم، أو تجاهلها يمكن الادعاء أنهم ليسوا إخواناً. ويلاحظ على هذه المجموعة أنها قبلت الحوار بشروط تعجيزية؛ مثل إعادة تقييم للأحكام القضائية التي صدرت منذ 24 يوليو 2013، وفي كل القضايا ذات الطبيعة السياسية التي صدرت فيها أحكام أو الجاري نظرها؛ والتعهد بإعادة محاكمة كل القضايا التي صدر فيها حكم من محكمة أمن الدولة طوارئ أو صدر فيها حكم عسكري ضد مدنيين، مع إقرارهم بشرعية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والنظام، كما يلاحظ أنهم تحدثوا كفصيل سياسي معارض لما أسموه سياسات التخوين والقمع للمعارضين ومنتقدي توجهات النظام السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ونتيجة ذلك أنه لم يوقع على بيانهم إلا نحو 500 شخص.
3- موقف جبهة “المكتب العام”: كانت هذه المجموعة أكثر تشدداً، حيث أعلنت رفضها التام للحوار في بيان على صفحتهم على الفيس بوك وعلى التليجرام، انطلاقاً من إيمانهم بأن ما حدث في مصر في 30 يونيو 2013 “انقلاب” وليست ثورة، بل وأخذوا يدعون الجماهير إلى استمرار النهج الثوري المسلح، أو ما يطلقون عليه العمل الثوري المبدع (وهو تعبير أطلقه القيادي المقتول محمد كمال، وكان يقصد به العمل المسلّح).
وخلاصة القول، وبغض النظر عن موقف أجنحة الجماعة من الحوار، فقد تجاهل النظام المصري عروض الإخوان المتكررة للحوار والمصالحة بالنظر إلى ما أحرزه من نجاحات لافتة على مستوى الاستقرار الأمني ومكافحة الإرهاب، مقابل الضعف الذي طرأ على الجماعة وتشتتها في المنفى بين لندن واسطنبول وواشنطن والدوحة وكوالامبور، كما أن قبول مسار كهذا يعني منح الجماعة طوق نجاة والاعتراف بشرعيتها، وهي التي باتت منبوذة ومعزولة ومصنفة كمنظمة إرهابية في العديد من الدول.
ثالثاً: أسباب رغبة “الإخوان” في المشاركة بالحوار
لا شك أن جماعة الإخوان المسلمين ترحب بأي شكل من أشكال الحوار، سواء أكان علنياً أم غير علني، مع الدولة المصرية، بل وترغب في المشاركة فيه، وذلك لأسباب عدة؛ منها:
- البحث عن الشرعية: إن مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في أي اجتماعات رسمية أو غير رسمية يعطيها مرة أخرى “قبلة الحياة”، وشرعية التواجد ليس فقط في الداخل المصري ولكن في الخارج أيضاً. الأمر الذي يعطيها الحق في استئناف أنشطتها في الداخل، حتى ولو تم الاتفاق على عدم الانخراط في العمل السياسي، وربما تنجح في إعادة جزء مما تم مصادرته من ممتلكاتها. وتستطيع الجماعة في هذه الحالة، بما تمتلكه من خبرات، أن تقفز في لحظات معينة من العمل الخيري والاجتماعي إلى العمل السياسي، كما حدث في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، حين عملت على توسيع نشاط الفعل السياسي لها، بدءاً من المشاركة في الانتخابات حتى القفز على السلطة. إن الجماعة تكافح في ظل خلافات ونزاعات داخلية غير مسبوقة منذ إطاحتها من حكم مصر في يوليو 2013، من أجل البحث عن موطئ قدم لها واستمرار أنشطتها وسط القيود التي فُرضت عليها.
- الافراج عن المعتقلين: إن أحد الأسباب الرئيسية التي تدعو جماعة الإخوان المسلمين إلى فتح نافذة للحوار مع النظام، هو ملف المعتقلين من قيادات الجماعة. فهناك ضغط مستمر ومتنامٍ من قبل المعتقلين وأسرهم من أجل العمل على الإفراج عنهم، حتى ولو تطلب ذلك تقديم تنازلات من الجماعة للنظام.
- إعادة توحيد الجماعة: إن مشاركة جماعة الإخوان المسلمين في أي حوار مع النظام سوف يتيح لها حرية الحركة في الداخل المصري، كما سلف القول، الأمر الذي قد يؤدي إلى إعادة اللحمة لها مرة ثانية، فلاشك في أن قدرة أي جبهة على فتح نافذة للحوار مع النظام سوف يكسبها الشرعية الفعلية داخل الجماعة، ويجعلها قادرة على اكتساب تأييد كل “إخوان الداخل”. وهنا، يمكن القول إن ما تشهده جماعة الإخوان من معارك دائرة بين جبهاتها المتصارعة على قيادة الجماعة، هو أمر غير مسبوق في تاريخها، ويحمل في طياته أكثر من مجرد أزمة يمكن حلها بلجنة مصالحة؛ لأن الجماعة تحولت بالفعل إلى كيانات متصارعة.
وبغض الطرف عن حقيقة الأسباب التي تجعل جماعة الإخوان المسلمين راغبة في الحوار، وبأي شكل، فإن أزمة الجماعة الحالية أعمق من أن تكون بين الدولة المصرية وبينها، وهو ما يجعل محاولات الدخول على خط الدعوة الرئاسية للحوار الوطني محاولة لقراءة واقع مختزَل للأزمة باعتبارها بين الإخوان والنظام الحالي.
رابعاً: أسباب استحالة إجراء حوار بين النظام و”الإخوان” في مصر
هناك العديد من الأسباب الجوهرية التي تؤكد استحالة إجراء أي حوار بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين حالياً، ومستقبلاً أيضاً؛ ومنها ما يلي:
1. منهجية العنف: أظهرت أحداث ما سمي بـ “الربيع العربي” أن الأداة الرئيسية التي تتعامل بها جماعة الإخوان المسلمين مع القوى السياسية الأخرى هي العنف الممنهج بمفهومه الشامل، المادي والمعنوي، الأمر الذي ظهر بوضوح في ممارسة الجماعة قبل وبعد ثورة 25 يناير، في مصر وتونس وأغلب الدول التي شهدت تلك الأحداث، وهو ما اتضح جلياً من خلال المشاهد المسربة في مسلسل “الاختيار3″، والاغتيالات التي تمت بمباركة من الجماعة للنشطاء الذين كانوا يرفضون سيطرتها على المجتمع والحكم في تونس ومصر. إن العنف بمختلف أنواعه، هو أداة مؤسسية في البنية الفكرية والتنظيمية للجماعة منذ التأسيس حتى الآن، ومن ثم فإنه من الصعوبة بمكان أن تتخلى عنه حالياً ومستقبلاً. وفي هذا الإطار يقول إريك تراجر، زميل واغنر في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: لم تكن الجماعة حالة استثنائية في محاولاتها الاستيلاء على السلطة والانفراد بها، وممارسة العنف ضد المعارضين والتنكيل بهم، وإجراء تعديلات دستورية تخدم الصالح الخاص وليس العام، والاستحواذ على المجالس المنتخبة، والسلطة التنفيذية بهدف تمرير السياسات الأحادية التي تسعي للانفراد بالسلطة إلى أبعد مدى ممكن. والأهم على الإطلاق أن الجماعة أثبتت أنها غير مهيأة للحكم وتفتقر إلى أجندة سياسية
2. العداء للمجتمع وللدولة: يخطئ من يعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين لديها “ثأر” أو تناصب العداء للنظام السياسي الحالي فقط، فمن يلاحظ أو يدقق في الحوارات أو التصريحات الإخوانية، للقيادات العليا أو الوسطى، أو حتى الإخواني العادي، يجد أن الجماعة تناصب العداء لكل ما هو مصري، الأمر الذي يظهر جلياً في “حفلات الشماتة” التي تقام من قبل أعضاء الجماعة في حالة وفاة أحد رموز الفن، أو القيادات التي أيدت ثورة 30 يونيو، أو حتى في حالة خسارة المنتخبات الرياضية المصرية، وكذلك في هجومهم المتتالي على “محمد صلاح” لاعب نادي ليفربول الإنجليزي. إن الجماعة تترقب كل حدث وتجمع وطني، يلتف حوله المصريون، فتحاول إفساده عبر كتائبها الإلكترونية التابعة لها، الوكيل الحصري لإشعال نار الفتن، بما يخدم مصالحها ويحقق الهدف المنشود وهو إفساد فرحة المصريين ومحاولة التقليل من قيمة هذا الحدث الوطني.
3. تزايد الدعم الإقليمي والدولي لمصر في مواجهة الإرهاب: إن أحد التوجهات الرئيسة للدولة المصرية الآن هو مواجهة الجماعات الإرهابية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي أعطى النظام دفعة ومساندة إقليمية ودولية، ومن خلالها نجح الرئيس السيسي في الاستمرار في تجفيف بؤر الإرهاب في الداخل وملاحقة الجماعات الإرهابية في الخارج، ومن هنا جاءت مشاركة مصر في تجمع الساحل والصحراء لمواجهة الجماعات الإرهابية في القارة الإفريقية برمتها. وبتعبير آخر، يحظى النظام المصري بدعم إقليمي ودولي كبير لمواجهة الإخوان والجماعات الإرهابية عموماً؛ ما يؤكد على عدم مشاركة الجماعة في أي حوار مع النظام.
4. ضعف المؤسسات الوسيطة في المجتمع: إن حالة الضعف والوهن، التنظيمي والفكري، للمؤسسات الوسيطة في المجتمع تحتم على الدولة الاستمرار في حظر جماعة الإخوان المسلمين وعدم فتح أي حوار معها، إذ إن حالة الضعف هذه قد تستغلها الجماعة مرة أخرى حال عودتها إلى المشهد، خاصة وأنها تمتلك من الأدوات التي تستطيع من خلالها التغلغل وإعادة السيطرة سريعاً على تلك المؤسسات، وهو الأمر الذي يجب ألا تسمح به الدولة مرة أخرى.
5. الخبرة التاريخية السلبية للحوار: إن التاريخ يؤكد أن تجربة الحوار، والمهادنة، مع جماعة الإخوان المسلمين لا تأتي بثمارها، بل العكس هو ما يحدث تماماً، فقد سعى عبدالناصر إلى التقارب مع الجماعة في بداية ثورة 1952 لكنها أعلنت العداء له وحاولت قتله، كما جرب الرئيس “السادات” الإفراج والحوار مع الجماعة فانقلبت عليه، وخرجت منها جماعات تحمل السلاح وتتبنى العنف من بينها جماعة شكري مصطفى التي اغتالت الشيخ الذهبي، ثم الجماعة الإسلامية التي تورطت في اغتيال الرئيس الراحل. وسمح لهم “مبارك” بالعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكنهم انتهزوا ثورة 25 يناير لينقلبوا عليه.
6. أحكام القضاء: إن انخراط جماعة الإخوان المسلمين طوال السنوات الماضية في قضايا إرهاب وغسل أموال وتخابر، إضافة إلى قيادتها لتنظيمي “حسم” و”لواء الثورة” الإرهابيين، ووقوفها وراء العديد من الهجمات الإرهابية التي قُتل فيها رجال شرطة وجيش ومدنيون خلال السنوات الماضية. ومنذ نهاية عام 2013 صنف القضاء المصري الجماعة منظمة إرهابية، وحظر أنشطتها، وجمد أصولها وأموال عدد من منتسبيها.
7. كشف زيف خدعة المراجعات: أثبتت التجربة والممارسة العملية أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقم على مدار تاريخها بمراجعة حقيقية للفصل ما بين الديني والسياسي، أو بمراجعة الخلل الفكري والعقائدي لديها، بل العكس تماماً ما يحدث، حيث تقوم بتوظيف ما هو ديني من أجل الوصول إلى السلطة، وحتى عندما وصلت للحكم وسيطرت على أركانه استغلت الدين من أجل توطيد أركان حكمها، والعصف بكل التيارات الدينية والمدنية الأخرى من أجل أن تظل منفردة متحكمة في عملية صنع القرار، الأمر الذي أدي في النهاية إلى خروج التيارات المدنية بل وخروج التيارات الدينية الأخرى عليها أيضاً، والمشاركة في بيان 3 يوليو 2013 الذي كان بمثابة الرمح الذي وُجّه إلى قلب الجماعة إلى الأبد.
خاتمة
إن رحلة صعود جماعة الإخوان المسلمين وسقوطها السياسي والاجتماعي جديرة بكثير من التقصي والبحث؛ لأنها لا ترتبط بفكرهم وأدائهم السياسي فقط، لكنها وثيقة الصلة أيضاً باختلالات كثيرة في النسق السياسي والاجتماعي في بعض الدول العربية. فغداة اندلاع ما سُمي بأحداث الربيع العربي في عام 2011، كانت المنطقة العربية تبدو وكأنها في طريقها لتصبح ساحة خالصة لنفوذ “الإسلاميين”، تُستعاد فيها أحلام “الخلافة”، وتظهر في ثناياها إرهاصات “الإمبراطورية” الموعودة.
غير أن الشاهد أن العديد من الدول العربية قد سعت إلى معالجة تلك الاختلالات في محاولة لتجفيف البيئة التي تنمو فيها جماعات الإسلام السياسي عموماً، وذلك من خلال محاولة تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية تغلق المجال تماماً أمام هذه الجماعات. وخلاصة القول، إن السياسات الحالية لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين في مصر قد آتت أكلها، وأثرت في بنية الجماعة وهيكلها، الأمر الذي يؤكد ضرورة استمرار هذه السياسات التي تستهدف تجفيف البيئة الملائمة لنمو هذه الجماعة، ورفع شعار “لا حوار مع من أشهر السلاح وقتل، واستعان بالخارج”. وأخيراً، إن أقل ما يوصف به موقف الدولة المصرية تجاه جماعة الإخوان المسلمين هو أنه موقف “اِستاتيكي” ثابت، حيث لا حوار مع الجماعة آنياً ولا مستقبلاً.