في القدس، لا يبدأ سؤال الوجود للأصلاني من الأرض ولا من الذاكرة، إنما من ورقة تُثبت أنك هنا، أنك ما زلت هنا، وأن حياتك بتفاصيلها الصغيرة، تستحق أن تُعاش داخل حدود المدينة التي وُلدت فيها. وبين الورقة والمدينة، يتحدد مصير الفلسطيني: مقيم، ومهدد، أو"غير شرعي" في المكان الذي يعرفه أكثر مما تعرفه الدولة نفسها.
لا يمكن فهم القدس اليوم خارج البنية الأعمق للاستعمار الاستيطاني، تلك التي وصفها باتريك وولف بأنها بنية تهدف إلى الإزالة. وليست الإزالة بالضرورة مادية، بل تُمارَس هنا كإقصاء إداري، وتفريغ قانوني، وإنتاج للذات الأصلانية بصفتها وجوداً موقوفاً بين القانون واللا-قانون.
تعمل السلطة على تحويل الفلسطيني إلى موضوع للمراقبة: جسد يقاس حضوره عبر الإحداثيات، وسجِل يُحدَّث باستمرار، وبيت يُفحَص كما تُفحَص المستودعات. هذا النمط من السيطرة ليس مجرد عنف، بل هو أيضاً ما يسميه مبيمبي "سياسات الموت"، إذ إن إدارة الحياة عبر التحكم بالموت المدني، وسحب الإقامة، وإنتاج عجز قانوني تجعل الأصلاني قابلاً للإلغاء في أي لحظة.
وفي سياق ذلك، لا يُنظَر إلى القدس كفضاء عمراني فحسب، بل هي كذلك مختبر لحداثة استعمارية تُعيد تشكيل الأصلاني باعتباره وجوداً مشروطاً، وكياناً تُحدّد قيمته عبر ولائه، وعبر مدى قابلية بقائه للانضباط.
مقدمة
منذ أكثر من 5 عقود، يعيش الفلسطيني في القدس داخل معادلة فريدة تُحاكي الاحتلال بكل أشكاله، لكنها تتجلى هنا في أكثر صورها الاستعمارية هدوءاً وعمقاً وتأثيراً: الإقامة؛ إذ تحولت في المدينة التي تُعدّ مركزاً سياسياً وروحياً وتاريخياً، وهي أبسط مكون في علاقة الإنسان بمكانه، إلى أداة تُعيد المنظومة عبرها تعريف الفلسطيني وموقعه وحقه في البقاء.
منذ سنة 1967، اعتمدت المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية معيار "مركز الحياة" لتحديد مَن يحق له أن يكون مقدسياً قانوناً، بل وضيفاً دائماً. لكن هذا المعيار لم يبقَ ثابتاً؛ فقد أصبح مع الزمن آلية تفتيش مستمرة، تتحرك من مكاتب الداخلية إلى غرف النوم، ومن الأوراق الرسمية إلى تفاصيل الحياة اليومية. ومع التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر2023، اتخذت هذه السياسة منحى أكثر حدةً واتساعاً، فجعلت من الإقامة ساحة لإعادة تشكيل علاقة الفلسطيني بالمدينة وحدودها ومعنى الانتماء إليها. وكما يشير فرانس فانون في تحليله لبنية السيطرة الاستعمارية، فإن الاستعمار لا يعمل فقط عبر العنف المباشر، بل أيضاً عبر تحويل الحياة اليومية نفسها إلى مادة للفحص والانضباط، بحيث يصبح الفرد مطالباً دوماً بإثبات شرعيته ووجوده في مكانه الطبيعي. وفي هذا السياق، يساعدنا هذا المنظور على فهم كيفية تحول الإقامة في القدس إلى آلية تُخضع الفلسطيني لفحصٍ دائم، لا بصفته مواطناً، بل بصفته حالة قيد التقييم المستمر.
لا تأتي هذه المقالة من موقع الرصد الخارجي، بل من تماس مباشر مع التجربة. فقصص الناس، والمشهد اليومي في مكاتب الداخلية، وطرقات البيوت التي تُفتح فجراً أمام لجان التفتيش، أو ما يُسمى بالتأمين الوطني، والتجارب الشخصية التي تقود المرء أحياناً إلى صفة "مقيم غير شرعي" في مدينته، جميعها تشكِل خلفية هذا النص. وهي قصص لا تُقرأ بصفتها وقائع فردية، إنما بصفتها أجزاء من بنية سياسية وقانونية تُعيد إنتاج علاقة الفلسطيني بمدينته عبر ما يظهر في ظاهره على أنه إجراءات إدارية.
بهذا المعنى، ليست الإقامة في القدس وثيقة تُجدَّد، بل هي حيّز يُنتَزع ويُفحَص ويُعاد تفسيره باستمرار. والمقالة التي بين أيدينا تحاول الاقتراب من هذه البنية عبر سرد يربط بين المشاهد الحياتية اليومية والتحولات السياسية الأوسع التي تحوّل الفلسطيني، في كل مرة، إلى كائن مطلوب منه أن يثبت وجوده في المكان الذي هو جزء أصيل منه.
1.مكاتب الداخلية: البيروقراطيا الاستعمارية بصفتها جهاز فحص وجودي
في مكاتب وزارة الداخلية في وادي الجوز، يحمل الفلسطينيون فواتير الأرنونا، والماء، والكهرباء، وعقود الإيجار، بالإضافة إلى صور لبيوتهم، كأدلة على الإقامة الفعلية؛ إذ تكشف هذه المشاهد عن دور البيروقراطيا في إخضاع الفلسطيني لفحص دائم، بحيث يعامَل المواطن بصفته "مشروع سحب محتمل" لا صاحب حق ثابت.
جلستُ في أحد مكاتب وزارة الداخلية في وادي الجوز، في قاعة الانتظار التي يعرفها كل مقدسي حيث تلتقط أذناك حوارات لا يمكن أن تحدث في مكان آخر؛ حوارات تكسر الحاجز بين العام والخاص، بين الدولة المحتلة وبين اللحظة الأكثر حميمية في حياة الإنسان.
يسأل الموظف الزوجين المهددين بسحب هويتهما: "هل تنامون معاً في الغرفة نفسها؟" يجيب الرجل: "نعم".
يتأمل الموظف الأوراق ثم يقول:"لكن هناك سريران في الغرفة." يرد الرجل محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه: "نعم، لكنهما متلاصقان." في تلك اللحظة، يصبح شكل السرير وصيغته حبل النجاة الأخير الذي يقف عليه مستقبل العائلة. زنزانة صغيرة من الأسئلة، والناس مضطرون إلى الإجابة لكي يحموا حقهم في البقاء في مدينتهم.
تتدخل الموظفة وتسأل الزوجة: "هل تنامين معه أم في الصالون؟" ترتبك، وتتلعثم، وتبحث عن إجابة صحيحة... لكن في دائرة تهدف إلى نزعك من مدينتك، لا توجد إجابة صحيحة.
توثق تقارير لمؤسسات حقوقية أن هذه الأسئلة ليست فردية، إنما هي جزء من بروتوكولات تفتيش قائمة منذ سنوات وتم تحديثها في 2024 لكي تشمل عناصر أكثر تفصيلاً تخص الحياة الخاصة.
2.التفتيش الميداني: تحويل المنزل إلى مسرح إثبات إقامة
تدخل لجان التأمين الوطني ووزارة الداخلية البيوت فجراً أو ليلاً. فتُفتح الخزائن والثلاجات، وتُعدّ القمصان، وتُصوَّر الأسِرّة والزوايا. وتحوِّل هذه الزيارات ما هو يومي وعابر إلى مادة للفحص القانوني. كما تشير تقارير الأمم المتحدة لسنة 2024 إلى أن هذه الزيارات تضاعفت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، وشملت أكثر من 4200 منزل فلسطيني في القدس وحدها خلال عام واحد.
في بيت آخر، فُتحت خزانة الزوج: "إنت عندك خمس قمصان بس... وين باقي أغراضك؟ شكلك عايش برا."
احتج الرجل أن وضعه المادي صعب وأنه لا يملك سوى القليل. لكن الفقر نفسه أصبح إدانة.
روت عائلة أُخرى أن المفتشين دخلوا فجأة، وطالبوا بتصوير غرفة النوم فوراً:
"بدنا نشوف السرير مش نضيف... إذا نضيف يعني ما بتنام هون."
اضطرت الزوجة إلى أن ترفع الغطاء لإثبات وجود آثار نوم على الوسادة. تلك اللحظة التي يفترض أن تكون أكثر حميمية، أصبحت دليلاً إدارياً. وفي حالة أُخرى، دخلت لجنة التفتيش بيت رجل مريض بالقلب. سأله الموظف: "ليش دواءك مش على الكومدينا؟ إذا كنت ساكن هون لازم يكون جنبك." أجابهم: "بنحطّه بالمطبخ عشان نتذكر."
كتبوا ملاحظة: "عدم وجود دواء المريض في غرفة النوم يثير الشك في إقامته الفعلية."
في حادثة سنة 2024، وثقتها عبر مقابلة مع ت. ح.، والذي طلب عدم كشف اسمه، زارت لجنة التفتيش منزلاً في بيت حنينا. لم تجد سرير الطفل في الغرفة، لأنه ببساطة كان سريراً قابلاً للطي، أخذته الأم معها عندما خرجت صباحاً.
ومع ذلك، دوّنت اللجنة أن"غياب السرير يدل على عدم الإقامة الفعلية"، فصدر قرار بسحب الهوية خلال أسابيع.
تُظهر هذه الحالة مدى هشاشة الإقامة المقدسية؛ إذ يمكن أن يؤدي غياب قطعة أثاث متنقلة إلى شطب وجود قانوني يمتد عقوداً.
3.هشاشة الوضع القانوني: شهادة شخصية
سُحبت هويتي سابقاً بذريعة سياسية، وتحولت إلى مقيم غير شرعي في مدينتي. عشت عامين من دون هوية، ثم أصبحت أحمل إقامة موقتة تُجدَّد كل بضعة أشهر. هذا الشكل من الإقامة الهشة الذي عشته شخصياً، ليس استثناءً؛ إذ تشير دراسات حديثة نُشرت في 2024 إلى أن إسرائيل تستخدم الإقامة الموقتة كآلية من أجل إعادة تشكيل العلاقة القانونية للفلسطينيين بالمدينة. وتؤكد منظمة هموكيد في تقريرها لسنة 2025 أن الوضع القانوني للمقدسيين لا يجب أن يكون عرضة للانتهاء أو السحب، سواء بذريعة خرق الولاء أو غيره، وأن طرد السكان من وطنهم نتيجة تغيير مفروض في وضعهم القانوني هو فعل غير مشروع بالكامل.
4.الموظفون العرب: وظيفة الوسيط المحلي في جهاز السيطرة
يشكل حضور الموظفين العرب في مكاتب وزارة الداخلية وفي طواقم التفتيش واحدة من أكثر الظواهر تركيباً في بنية السيطرة الإسرائيلية في القدس. فهذا الوجود ليس تفصيلاً إدارياً عابراً، بل جزء من هندسة دقيقة للعلاقة بين السلطة والسكان الفلسطينيين، بحيث يسنَد تنفيذ أكثر الإجراءات حساسية إلى أفراد من المجتمع نفسه. في هذا الموقع، يتجلى ما وصفه فرانز فانون بالوسيط المحلي؛ ذلك الشخص الذي لا يصوغ القرار، لكنه يتحول إلى الواجهة التي تمر عبرها سلطة الدولة، فيخفف الاحتكاك المباشر بين القوة الاستعمارية والمستعمَر.
تظهر هذه الوظيفة بوضوح في التجربة اليومية للمقدسيين. فعندما يدخل المواطن مكتب الداخلية، ويواجه موظفاً عربياً يسأله عن تفاصيل منزله، وغرفة نومه، وعدد الأسِرة، أو يرافق لجنة تفتيش لبيته فجراً، فإن الإجراءات القمعية تتخذ شكلاً "أليفاً" ومألوفاً، وكأنها جزء من إجراءات مؤسساتية طبيعية. هنا، تتنقل السلطة عبر وجه يشبهك، ويتحدث لغتك، ويعرف بيئتك، فتبدو الممارسات العنيفة وكأنها معاملة إدارية لا أكثر.
لكن خلف هذا التطبيع تكمن بنية كاملة تُعيد توزيع الأدوار بما يخدم استمرار مشروع السيطرة. فمع محدودية فرص العمل وارتفاع نسب البطالة، يصبح انخراط بعض الفلسطينيين في هذه الوظائف نتيجة ضغط اقتصادي، لا اختيار سياسي. وعلى الرغم من أن هؤلاء الموظفين لا يملكون سلطة القرار، فإن وجودهم عند نقطة الاحتكاك الأولى يجعلهم جزءاً من عملية ربما تغيّر مصير أسرة كاملة: سحب إقامة، أو رفض لمّ شمل، أو تقرير تفتيش يُستخدم من أجل إثبات عدم الإقامة الفعلية.
وتنشأ هنا علاقة شديدة التعقيد: فلسطيني يقف أمام فلسطيني لكي يسأله عن خصوصيته، بينما السلطة الحقيقية موجودة في مكان آخر؛ إذ لا يشرِّع الموظف المحلي القوانين، ولا يقرر نتائج الملفات، لكنه يتحول إلى أداة داخل منظومة تعيد تشكيل الوجود الفلسطيني عبر التفاصيل اليومية الصغيرة. وفي هذه العملية، يصبح -كما يقول فانون- امتداداً للسلطة داخل الجسد الاجتماعي، لا من موقع الاقتناع، لكن من موقع قسري تفرضه بنية استعمارية تتحكم بالأرض والعمل والسكن والموارد.
وبهذا، يتحول الموظف المحلي إلى جزء من جهاز الضبط، وتتحول البيروقراطيا إلى مساحة يتقاطع فيها الألم الشخصي مع حاجة الناس إلى العيش. ففي مدينة كالقدس، يصبح هذا التداخل بين الوظيفة والسلطة، وبين الضرورة الاقتصادية والمنظومة السياسية، جزءاً أساسياً من فهم كيفية إعادة إنتاج السيطرة على السكان داخل حياتهم اليومية.
ويشكل هذا الدور المزدوج بين التنفيذ والإخضاع علاقة معقدة داخل المجتمع نفسه. فالأسرة الفلسطينية التي تواجه تحقيقاً عن نومها، أو طريقة توزيع الأثاث في بيتها، أو مصادر دخلها، تجد نفسها أمام وجهٍ يشبهها، لكنه يمارس سلطة مستمدة من نظام يستهدف وجودها ذاته.
إنه ما تسميه الأدبيات المعاصرة بـ "الإدارة عبر المجتمع نفسه": تحويل بعض أبناء المجتمع إلى جزء من جهاز الضبط، عن قصد أو بدافع الحاجة الاقتصادية، في سياق معيشة تفتقر إلى البدائل يناقش مبيمبي في كتابه: On the Postcolony، كيف تستخدم الأنظمة الاستعمارية "الوسيط المحلي" أو "الأفراد من المجتمع نفسه" في إنتاج السيطرة، ليس كاختيار فردي، إنما كبنية يعاد فيها صوغ الأدوار. فهو لا يقول العبارة حرفياً، لكنه يقدم الإطار النظري العميق: "السلطة الاستعمارية لا تعمل فقط عبر أدواتها المباشرة، بل أيضاً عبر دمج بعض أبناء المجتمع المستعمَر في آليات الحكم؛ إذ يصبحون قنوات لنقل الانضباط، من دون أن يمتلكوا سلطة القرار."
ولا ينبغي فهم دور الموظفين العرب على أنه تعاون فردي، إنما هو نتيجة بنية عمل تعيد توزيع الوظائف بما يخدم نظام السيطرة. فالجهاز الإداري يستفيد من هشاشة الطبقة الفلسطينية العاملة، ومن غياب فرص التوظيف، ليشكل نمطاً يعمل فيه العربي كأداة تقنِّن العلاقات بين الفلسطيني والدولة، وتحوِّل الإجراءات القمعية إلى جزء من المعاملة اليومية، لا كحدث استثنائي.
5.الاستعمار العمراني وسحب الإقامة عبر مراقبة الحركة والسكن
لا يمكن فهم سياسات الإقامة في القدس بمعزل عن البنية الاستعمارية الأشمل التي تتحكم في الحيز العمراني للمدينة. فإسرائيل، بصفتها قوة استعمارية، لم تكتفِ بسحب الهويات أو إخضاع السكان لآليات التفتيش فقط، بل أعادت كذلك تشكيل الجغرافيا نفسها بما يضمن تقليص الوجود الفلسطيني وتوسيع المستوطنات.
فمنذ عقود، تصادر الدولة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية في القدس الشرقية لصالح المشاريع الاستيطانية، وتفرض قيوداً صارمة على البناء الفلسطيني، إذ يُعدّ الحصول على رخصة بناء أمراً شبه مستحيل؛ إذ يواجه الفلسطينيون في القدس الشرقية سياسات تخطيط تمييزية؛ فلا يتاح لهم سوى 13% من مساحة المدينة للبناء، كما أن الحصول على رخصة بناء يكاد يكون مستحيلاً، ويتطلب تكاليف باهظة. حتى في الحالات التي تستوفي الشروط الهندسية والإدارية. وإن مُنحت الرخصة، فإن كلفتها المالية تكون باهظة إلى حد يجعلها خارج قدرة معظم المقدسيين.
وفي ظل هذا الخناق العمراني، يجد كثير من الفلسطينيين أنفسهم مضطرين إلى الانتقال إلى الضفة الغربية بحثاً عن سكن متاح وميسور. بيد أن هذا الانتقال، الذي تفرضه أحوال القهر العمراني، يُعاد تأويله من جانب الداخلية الإسرائيلية بصفته انقطاعاً عن مركز الحياة، ومن ثم سبباً لسحب الإقامة.
وتعمل إسرائيل على تحويل هذا الانتقال السكني القسري إلى أداة من أجل إعادة فرز السكان عبر شبكة مراقبة واسعة. فالكاميرات الموضوعة على الحواجز -وهي كاميرات ذات قدرات تحليلية متقدمة- تُستخدم لتتبع حركة سيارات الفلسطينيين وتسجيل مواقع وجودهم بصورة دورية، ثم تُضمِّن هذه البيانات في ملفات سحب الإقامة؛ إذ تستخدم السلطة الاستعمارية الإسرائيلية شبكة واسعة من كاميرات المراقبة لتتبع حركة الفلسطينيين داخل القدس وخارجها، وتُستخدم هذه البيانات بصورة دورية للتشكيك في الإقامة. ولا تقتصر المراقبة على الطرقات فحسب؛ بل تشمل أيضاً مراقبة الهواتف النقالة وتحليل بيانات الاتصال لتحديد مكان التواجد الغالب، وهو إجراء وثقته منظمات حقوقية مؤخراً باعتباره جزءاً من بنية المراقبة غير المعلنة.
وتتجاوز منظومة المراقبة المستوى الرقمي لكي تصل إلى ما هو أبعد؛ إذ تعتمد إسرائيل على موظفين عرب يدخلون مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة، ويتنقلون في القرى والمدن لتصوير السيارات المركونة أمام البيوت، وتوثيق نمط استخدامها على مدار أيام أو أسابيع. وتُستخدم هذه المواد البصرية لاحقاً كقرائن على أن المقدسي يقيم فعلياً خارج حدود المدينة، وهو ما يفتح الطريق لسحب هويته. بهذه الطريقة، لا تنفصل إجراءات المصادرة العمرانية ومنع البناء عن سياسات الإقامة؛ إنما تتكامل معها لتنتج بنية متكاملة تُحكِم السيطرة على الوجود الفلسطيني في القدس عبر الأرض، والسكن، والحركة، والمراقبة اليومية.
6.ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر: مرحلة جديدة من إعادة تشكيل الإقامة المقدسية
شكل تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نقطة انعطاف حادة في سياسة الإقامة في القدس. فعلى الرغم من أن إجراءات مركز الحياة وسحب الإقامة لم تكن جديدة، فإن الأشهُر التي تلت الحدث اتسمت بتغيير نوعي في حجم الإجراءات ووتيرتها ومنطقها، بحيث لم تعد الإقامة مسألة قانونية ثابتة نسبياً، إنما أصبحت جزءاً من منظومة أمنية يجري تشكيلها تحت حالة طوارئ مفتوحة.
وقد كان الاعتماد الموسَّع على الصلاحيات الإدارية أحد أبرز مظاهر هذا التحول من أجل سحب الإقامة في قضايا تُعرَّف بأنها "تهديد أمني" أو "دعم للإرهاب". وعلى الرغم من غياب إدانة قضائية في العديد من الحالات، فإن السلطات استخدمت هذه الصلاحيات لفتح ملفات جديدة كي تسحب الإقامة استناداً إلى مؤشرات فضفاضة أو نشاط رقمي في الفضاء الإلكتروني. وقد وثّقت منظمات حقوقية عدداً من الحالات التي ارتبط بها سحب الإقامة بتعليقات أو تفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعكس انتقال السياسة من منطق الإقامة كحق إلى منطق الإقامة المشروطة بالسلوك المقبول. كما رصدت مؤسسة الحق تزايداً ملحوظاً في استخدام قوات الاحتلال ومنظومة الداخلية لمنشورات الفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها التعبير السياسي الرمزي، كأحد الأسس لفتح ملفات تحقيق أو اتخاذ إجراءات إدارية يمكن أن تصل إلى سحب الإقامة أو منع تجديدها.
وبالتوازي، شهدت ملفات لمّ الشمل تجميداً شبه كامل؛ إذ بقيت الأغلبية الساحقة من طلبات لمّ الشمل المقدسية من دون رد خلال عامَي 2024–2025، الأمر الذي أبقى آلاف العائلات في حالة قانونية معلّقة. ولا يمكن فهم هذا التعطيل من زاوية النظرة الأمنية فحسب، بل ينسجم أيضاً مع توجّه ديموغرافي طويل الأمد يهدف إلى الحد من توسع العائلات الفلسطينية داخل القدس.
أمّا على المستوى الميداني، فقد ارتفع عدد زيارات التفتيش المنزلية بصورة غير مسبوقة، بحيث تحولت إلى ممارسة روتينية تمسّ تفاصيل الحياة اليومية: توزيع الأسرة، ووجود مواد غذائية للأطفال، واستهلاك الكهرباء والماء... وهي تفاصيل تُعامَل باعتبارها أدلة محتملة على مكان الإقامة الفعلي. ويعكس هذا التوسع دمج الإقامة المقدسية داخل منظومة مراقبة شاملة تعيد تقييم الوجود الفلسطيني في المدينة بصفته مسألة قابلة للقياس والمراجعة المستمرة.
وبصورة موازية، برز اتجاه آخر يتمثل في سحب الإقامة الجماعية في سياقات سياسية، وخصوصاً في القضايا التي تتعلق بالخطاب العام أو التعبير السياسي. وقد أشارت تقارير حقوقية إلى أن مزيداً من الفلسطينيين وجدوا أنفسهم أمام تهديد سحب الإقامة استناداً إلى تعبيرات رمزية أو مواقف عامة، الأمر الذي يدل على أن منطق الإقامة يتحرك بالتدريج نحو اشتراط الولاء السياسي.
ونتيجة إلى هذه التحولات، لم تعد الإقامة في القدس حالة قانونية مستقرة، بل تحولت إلى وضع قابل للإلغاء تعيد الأجهزة الأمنية والإدارية تقييمه بصورة متواصلة. وهكذا، أصبح الفلسطيني المقدسي يعيش في علاقة قانونية هشة تُعامل وجوده في المدينة بصفته موضوعاً للمراجعة السياسية، لا امتداداً طبيعياً لحقه في المدينة وهويته المتجذرة فيها.
خاتمة
تكشف القصص المتراكمة، وشهادات الناس، والوثائق الرسمية، أن الإقامة في القدس لم تعد إطاراً قانونياً ثابتاً، بل باتت آلية يعاد صوغها في استمرار ضمن مشروع سياسي أوسع من أجل إعادة تشكيل المدينة وحيّزها البشري. فسياسات مركز الحياة، والتفتيشات المنزلية، وعمليات سحب الهويات، وما تلا 7 تشرين الأول/أكتوبر من توسع في تشريعات الولاء، كلها تؤكد أن الفلسطيني المقدسي يعامَل باعتباره حالة قابلة للمراجعة، ووجوده في المدينة يعاد تقييمه وفق معايير أمنية وإدارية متغيرة.
ومع ذلك، فإن هذا النظام على الرغم من اتساعه وتعقيده، فإنه لا ينجح في اختزال علاقة الفلسطيني بالقدس في وثيقة إقامة أو قرار إداري. فالإقامة، كما تُمارَس رسمياً، تختلف جذرياً عن الإقامة كما يعيشها الفلسطيني في حياته اليومية؛ إذ إن الأولى مشروطة وموقتة، والثانية متجذرة، وممتدة في المكان، وفي الذاكرة، وفي التاريخ الاجتماعي للنسيج المقدسي نفسه.
ولعلّ المفارقة الأكبر أن الإجراءات التي تهدف إلى ضبط الوجود الفلسطيني تكشف، من حيث لا تقصد، عن عمق هذا الوجود ورسوخه. فكل تفتيش للثلاجة أو لغرفة النوم، وكل محاولة لإثبات مركز الحياة، تعكس أن العلاقة بين الفلسطيني والمدينة ليست وليدة وثيقة، بل هي علاقة متتجددة على الرغم من القوانين، ومستمرة على الرغم من محاولات التقييد.
وبهذا المعنى، لا تمثل الإقامة شرط البقاء فحسب، بل تُصبح مرآة لطبيعة الصراع على تعريف مَن يحق له أن يكون في المدينة، ومن يعامَل كضيف موقت وغير مرغوب فيه، ومَن يُنظر إليه بصفته امتداداً لتاريخ طويل لا يمكن فصل المدينة عنه. وفي مواجهة هذا المنطق، يبقى حضور الفلسطيني في القدس، بكل هشاشته القانونية، حضوراً يستمد قوته من جذور لا تستطيع البيروقراطيا اقتلاعها، ومن انتماء لا يُختزل في بطاقة ولا يُختبر في زيارة تفتيش.