• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58
news-details
أبحاث

ورقة بحثية: مستقبل توتر العلاقات الصينية – الأمريكية في عهد بايدن


تعكس زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في 2 أغسطس تحولاً نوعياً في العلاقات الأمريكية – الصينية، بوصفها خطوة محتملة نحو انتقال الصراع والتنافس بين البلدين من دائرة الفعل “الاقتصادي والسياسي” إلى دائرة “العمل العسكري”، بعدما حشدت الصين قواتها العسكرية وأجرت مناورات عسكرية غير مسبوقة في محيط تايوان. كما أن التداعيات الجيواستراتيجية للزيارة لن تقتصر على الأطراف الثلاثة (الصين وأمريكا وتايوان) ولكنها ستطال بلا أدنى شك دول جنوب وغرب آسيا أيضاً، وإذ ما تطورت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، فإنها ستشمل العالم برمته.

وفي هذا الإطار، لابد أن يؤخذ في الاعتبار عند تناول زيارة بيلوسي الحالية لتايوان ما يلي:

 أولاً، أنها ليست الزيارة الأولى لمسؤول أمريكي رفيع المستوي إلى تايوان، إذ سبق لنيوت جينجريتش، رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق، زيارة تايوان في عام 1997.

ثانياً، أن رد الفعل الصيني يعبر عن مخاوف شديدة لديها، بأن هذه الزيارة سوف تشجيع المزيد من كبار المسؤولين الغربيين على القيام بزيارات مماثلة لتايوان. خاصة، وقد سافر من قبل عامين ميلوس فيسترسيل، رئيس مجلس الشيوخ التشيكي، إلى تايبيه. كما أجرى نائب رئيس البرلمان الأوروبي نيكولا بير، محادثة هاتفية مع مسؤولين في تايوان في وقت سابق من هذا الشهر، الأمر الذي يرفع مكانة تايوان الدولية، أو يشجعها على الاستقلال.

ثالثاً، أن هذه الزيارة تمثل واحدة من أهم حلقات مسلسل الأزمات المتتالية حول تايوان، حيث كانت هناك ثلاث أزمات لمضيق تايوان قبل ذلك؛ اثنتان في الخمسينيات والثالثة في التسعينيات. وتعتبر بكين أي اتصال رسمي مع تايوان بمثابة اعتراف بحكومتها المنتخبة ديمقراطياً، والتي يقول البر الرئيسي إنها لا تملك الحق في إقامة علاقات خارجية.

رابعاً، تنظر الصين إلى تايوان باعتبارها جزءاً منها ومقاطعة منفصلة تتعهد باستعادتها بالقوة لو تطلب الأمر، إلا أن قادة تايوان يقولون إنها أكثر من مجرد مقاطعة، ويجادلون بأنها دولة ذات سيادة. وقد بدأت قصة الخلاف بين الصين وتايوان منذ نهاية الحرب الأهلية الصينية عام 1948، عندما فرت الحكومة الكومينتانج الخاسرة إلى جزيرة تايوان وأسست حكومة جمهورية الصين في المنفى، بينما أسس الحزب الشيوعي الصيني في البر الرئيسي للصين جمهورية الصين الشعبية. وبدءاً من سبعينيات القرن العشرين، بدأت العديد من الدول في تغيير علاقاتها الرسمية من حكومة الصين في المنفى إلى بكين، والآن، أصبح أقل من 15 حكومة حول العالم فقط تعترف بتايوان كدولة. واللافت للنظر أن بكين لم تحكم تايوان قط، ومنذ نهاية الحرب الأهلية تمتعت الجزيرة باستقلال فعلي. وعلى الرغم من التوتر بين بكين وتايبيه فإن العلاقات بينهما قد زادت بشكل كبير؛ فالشركات التايوانية استثمرت نحو 600 مليار دولار في الصين، كما يعيش نحو مليون تايواني في الصين، ويدير العديد منهم مصانع تايوانية.

خامساً، أن هذه الزيارة التي دار حولها جدل أمريكي حول أهميتها، جاءت بترتيب مسبق من قبل أركان إدارة الرئيس جو بايدن، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الأمريكية، الاستخبارات والجيش، على عكس ما أعلنته وسائل الإعلام الغربية حول وجود خلاف بين أركان الإدارة من جدوى الزيارة. والشاهد أن هذه الزيارة مخطط لها ومتفق عليها، وكانت مدرجة في أجندة زيارة رئيسة مجلس النواب، الأمر الذي كشفت عنه جريدة فاينانشال تايمز.

وفي هذا الإطار، سوف تتناول هذه الورقة بالرصد والتحليل: أولاً، زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان من حيث الأهداف وردود الفعل والتداعيات المحتملة عليها، ثانياً، الحوار بين الرئيسين الأمريكي والصيني. ثالثاً، عوامل التوتر ومؤشراته، بين الولايات المتحدة والصين، التي برزت مؤخراً خلافاً لما كان يُتوقع بأن تشهد العلاقة بين البلدين تحسناً في عهد بايدن. رابعاً وأخيراً، مستقبل الصراع أو التوتر بين البلدين في عهد جو بايدن، الذي من المرجح أن يحظى بفترة رئاسية واحدة، نظراً إلى جملة من العوامل وعلى رأسها تقدمه في العمر، والمشكلات الداخلية المتزايدة التي يشهدها الداخل الأمريكي، من تضخم وارتفاع في الأسعار.

أولاً، زيارة بيلوسي إلى تايوان.. ثلاثية الأهداف وردود الفعل والتداعيات:

تعتبر الزيارة تحولاً استراتيجياً في موقف الولايات المتحدة من قضية الوحدة الصينية. فعندما اتجهت الولايات المتحدة للاعتراف بحكومة بكين، وعدم الاعتراف بجمهورية الصين في تايوان، وذلك في عام 1979، ذكرت الولايات المتحدة أن حكومة الصين الشعبية كانت الحكومة القانونية الوحيدة للصين؛ ما يعني أن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الصين الوحيدة، مع عدم الاعتبار للحكومة الموجودة في تايوان ككيان منفصل له سيادة. وظلت واشنطن تحتفظ بعلاقات رسمية مع بكين وعلاقات غير رسمية مع تايوان. كما أن سياسة الصين الواحدة التي تم الاعتراف بها من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة ضمنت الحفاظ على الاستقرار في مضيق تايوان، وسمحت لكلٍّ من تايوان والبر الرئيسي للصين بمواصلة الانتقالات السياسية والاقتصادية الاجتماعية غير العادية في سلام نسبي. ومع ذلك لم تتوقف الولايات المتحدة عن تقديم أسلحة دفاعية لتايوان بموجب قانون العلاقات مع تايوان الذي يعود لعقود، إلا أنها تلتزم بموقف غامض بشأن ما إذا كانت ستدافع عن الجزيرة في حال غزو الصين. وفي عام 1995، أدت زيارة رئيس تايوان لي تينج هيو للولايات المتحدة إلى أزمة كبرى في مضيق تايوان. وأطلقت الصين صواريخ في المياه المحيطة بتايوان ولم تنته الأزمة إلا بعد أن أرسلت الولايات المتحدة مجموعات قتالية وحاملات الطائرات للمنطقة في استعراض للقوة لدعم تايبيه.

- أهداف الزيارة:

 هناك مجموعة من الأهداف الأمريكية، المعلنة وغير المعلنة، من زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايبيه، حيث تتمثل الأهداف المعلنة في أمرين: أولهما تأكيد واشنطن التزامها القوي حيال تايوان، التي تتمتع بحكم ذاتي وتعتبرها الصين جزءاً من أراضيها. الهدف الثاني هو تكريس التزام الولايات المتحدة الثابت بدعم “الديمقراطية النابضة في تايوان، كما أسمته رئيسة مجلس النواب الأمريكي، وهو أحد التوجهات الرئيسية التي أعلن عنها الرئيس جو بايدن إبان توليه سدة الحكم. وفي هذا الإطار، أرجعت بيلوسي زيارتها إلى تايوان لعدة أسباب، منها: قانون العلاقات مع تايوان، وقالت إنه “قبل حوالي 43 عاماً، أقر الكونجرس الأمريكي بأغلبية ساحقة قانون العلاقات مع تايوان، وهو أحد أهم أسس السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي”. وأضافت أن القانون حدد التزام أمريكا بتايوان ديمقراطية، الأمر الذي وفر إطاراً لعلاقة اقتصادية ودبلوماسية باتت فيما بعد شراكة استراتيجية. كما عزز القانون، وفقاً لبيلوسي، صداقة عميقة متجذرة في المصالح والقيم المشتركة: تقرير المصير والحكم الذاتي، والديمقراطية، والحرية، وكرامة وحقوق الإنسان. وتابعت: “أوجد القانون تعهداً رسمياً من قبل الولايات المتحدة لدعم الدفاع عن تايوان، عبر نصه: “النظر إلى أي جهد لتحديد مستقبل تايوان بطرق أخرى غير الوسائل السلمية [على أنه] يعتبر تهديداً للسلام والأمن في منطقة غرب المحيط الهادي، ومثيراً للقلق الشديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة.” وأضافت بيلوسي: "اليوم، يجب على أمريكا أن تتذكر ذلك العهد. يجب أن نقف إلى جانب تايوان، وهي جزيرة الصمود".

ومن الأسباب التي ذكرتها بيلوسي أيضاً في مقال لها أنه في السنوات الأخيرة، كثفت بكين التوترات بشكل كبير مع تايوان، وعززت من دوريات القاذفات والطائرات المقاتلة وطائرات المراقبة بالقرب من منطقة الدفاع الجوي التايوانية وحتى فوقها، ما دفع وزارة الدفاع الأمريكية إلى استنتاج أن الجيش الصيني “يستعد على الأرجح لحالة طوارئ لتوحيد تايوان مع جمهورية الصين بالقوة. واتهمت بيلوسي الصين بأنها نقلت المعركة إلى الفضاء الإلكتروني، وشنت عشرات الهجمات على الوكالات الحكومية التايوانية بشكل يومي. كما تضغط بكين اقتصادياً على تايوان، وتضغط على الشركات العالمية لقطع العلاقات مع الجزيرة، وتعمل على ترهيب الدول التي تتعاون مع تايوان، وتضييق الخناق على السياحة الواردة من الصين. وأوضحت بيلوسي أنه: "في ضوء كل هذا، فإنه يجب أن يُنظر إلى زيارة وفد الكونجرس لتايوان على أنها تصريح لا لبس فيه بأن أمريكا تقف إلى جانب تايوان، شريكنا الديمقراطي، وهي تدافع عن نفسها وعن حريتها".

وقالت رئيسة مجلس النواب: "إن تضامن أمريكا مع تايوان أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى، ليس فقط من أجل 23 مليون شخص في الجزيرة، ولكن أيضاً للملايين الآخرين المضطهدين والمهددين من قبل جمهورية الصين الشعبية".

أما الأهداف غير المعلنة، فهي تُقَسَّم بدورها إلى: أولاً، تعتبر الزيارة وتداعياتها على الأرجح بمثابة خطة إشغال للصين حتى تتوقف عن أي دعم لروسيا في إطار حربها الدائرة في أوكرانيا. ثانياً، “اختبار للقوة” الصينية، فمن المحتمل أن تكون هذه الزيارة بمثابة اختبار من قبل الولايات المتحدة للقوى العسكرية الصينية، فخلال الفترة الماضية تحدثت الكثير من التقارير عن رفع الصين قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق. وهنا تريد الولايات المتحدة أن تتعرف على حقيقة ما وصلت إليه الصين في هذا المجال.

ثالثاً، قد يكون من الأهداف المرسومة لهذه الزيارة تعطيل مشروع الصين “الحزام والطريق” عبر استنزاف قدرات الصين داخلياً، أو جعل الدول الأخرى، التي قطعت شوطاً كبيراً في علاقاتها مع الصين في إطار هذه المبادرة أن تتشكك في جدواها. وأن يتأكد الجميع أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على التحكم في مفاتيح “اللعبة الدولية”، وأن التحالف معها هو الأكثر موثوقية من غيرها.

- ردود الفعل المغايرة حول الزيارة:

تنوعت ردود الفعل الرسمية حول الزيارة بين الرافضة والمؤيد لها، وانقسمت دول العالم حول الموقف الصيني والأمريكي. بداية، وبالرغم من ذلك، فإن ردود الفعل حول الزيارة جاءت كما كان متوقعاً.

فعلى صعيد الموقف الصيني، أكدت بكين بأن زيارة بيلوسي تتعارض مع مبدأ “الصين الواحدة” الذي تعهدت واشنطن بالالتزام به. وجاء رد الفعل غاضباً من كل المؤسسات الصينية، خاصة الخارجية والدفاع، حيث قامت وزارة الخارجية باستدعاء السفير الأمريكي، وتقديم احتجاج للولايات المتحدة على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان. كما أكد وزير الخارجية الصيني وانج يي، قائلاً: “ستتخذ الصين بالتأكيد جميع الإجراءات اللازمة لحماية سيادتها وسلامة أراضيها بحزم”. وأدانت الخارجية الصينية أيضاً ما أسمته “الخيانة الأمريكية المتعمدة” لمبدأ “الصين واحدة”، مشيرة إلى أن الأمريكيين يلعبون بالنار في قضية تايوان. واعتبرت أن الولايات المتحدة باتت أكبر تهديد للسلام في العالم، مؤكدة أن الصين لن ترضخ أبداً لمثل هذه التحركات الأمريكية في تايوان. وقالت بكين إن زيارة بيلوسي لتايوان تحمل تداعيات كبيرة على العلاقة مع واشنطن، وإن الزيارة ترسل إشارات خاطئة للقوات الانفصالية في تايوان. وذكرت الصين أن زيارة بيلوسي تقوض السلام والاستقرار في مضيق تايوان، وإن “الجانب الأمريكي سيتحمّل المسؤولية وسيدفع الثمن في حال المساس بمصالح الصين الأمنية السيادية

كما أعلنت وزارة الدفاع الصينية أن الجيش سيشن عمليات عسكرية رداً على الزيارة، وأنه سينشر قواته بشكل متناسب مع تهديدات العدو. كما حظرت الصين التعامل مع مؤسسات مالية تايوانية، وأوقفت صادراتها من الرمال إلى تايوان.

وصعَّدت الصين من رد فعلها على زيارة بيلوسي، وقد تمثل ذلك فيما يلي:

1. ألغت الصين محادثات رسمية مع الولايات المتحدة تضمنت قيادات ميدانية، وتنسيقاً لسياسة الدفاع والمشاورات البحرية العسكرية؛ الأمر الذي أدانه مسؤولون في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين والبيت الأبيض، وقد وصفوا ذلك بأنه رد فعل مبالغ فيه وغير مسؤول.

2. فرضت بكين عقوبات اقتصادية على تايبيه، مكثفةً الجهود لعزلها، وهي خطوات من شأنها أن تزعزع الوضع القائم في مضيق تايوان. وحظرت بكين أكثر من 2000 منتج غذائي من تايوان؛ رداً على زيارة بيلوسي. ورغم أن الصين تعد أكبر سوق تصدير لتايوان، وتمثل 42% من إجمالي صادراتها، إذ بلغ حجم التجارة الثنائية بينهما العام الماضي 328.3 مليار دولار، فإن الضرر ليس فقط في الشراكة الغذائية، وإنما الضرر الأكبر في الشراكة التكنولوجية فيما بينهما، حيث قررت الصين حظر المؤسسات والشركات والأفراد الصينيين من التعامل مع الشركات التايوانية، بما في ذلك شركتا "سبيد تيك إنيرجي" و"هاويب تكنولوجي". وكان القرار الأهم هو قرار تعليق “تصدير الرمال الطبيعية”؛ حيث إن الصين تعدُّ المورّد الرئيسي للرمل الطبيعي لجارتها.

3. إجراء مناورات عسكرية غير مسبوقة، حيث قدمت المناورات العسكرية الصينية الواسعة في محيط تايوان تصوراً أولياً لما قد تمثله حملة عسكرية فعلية لبكين على جارتها الصغيرة. وللمرة الأولى نفّذ الجيش الصيني مناورات تدريبية في الجانب الشرقي من تايوان، وهي منطقة استراتيجية بدرجة كبيرة للإمدادات الوافدة إلى الجزيرة، بما في ذلك قوات دعم أمريكية محتملة. ورسالة هذه المناورات مفادها أن الصين تستطيع منع الدخول أو الخروج من الجزيرة لأي سفينة أو طائرة، عسكرية كانت أو مدنية. وربما كان تدرب جيش التحرير الشعبي الصيني، لأول مرة على عمليات تهدف إلى حصار الجزيرة، ربما يمثل الخطوة الأولى على طريق القيام بغزو. ولأول مرة أيضاً، حلقت صواريخ فوق الجزيرة وعبرت السفن الخط الفاصل غير الرسمي، الذي يقسم مضيق تايوان، والذي حددته الولايات المتحدة في الخمسينيات، لكن بكين لم تعترف قط به رسمياً. ومع سكون غبار التدريبات العسكرية الصينية حول تايوان، والتي استمرت لمدة 6 أيام، أصبحت الرسالة واضحة؛ وهي أن الجيش سيدعم مطالب الصين بالسيادة على الجزيرة، في تحدٍّ للولايات المتحدة من شأنه أن يبقي على تصاعد التوتر ويزيد من مخاطر المواجهة. كما أدت هذه الزيارة على الأرجح إلى حدوث تحول في الحسابات العسكرية للصين، وعززت وجهة نظر في الصين تقول: إن الوحدة مع تايوان ربما لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الوسائل القسرية.

4. اصدرت الصين “الكتاب الأبيض” لاستعادة تايوان، وهو يشرح بالتفصيل كيف تخطط بكين لاستعادة السيطرة على تايوان عبر حوافز اقتصادية، متعهدة بعدم ترك “أي هامش للمناورة” لدى مؤيدي استقلال الجزيرة، مؤكدة أن “استخدام القوة” لاستعادتها مازال مطروحاً “كملاذ أخير”. وقد جاء في الوثيقة، التي تبدو بمنزلة يد ممدودة للسلطات التايوانية، أن “الصين على استعداد لخلق مساحة واسعة للتعاون، من أجل تحقيق إعادة توحيد على نحو سلمي”. لكنها أضافت بحزم: “لن نترك أي هامش مناورة للأعمال الانفصالية التي تستهدف استقلالاً زائفاً لتايوان، أيا كانت”. وذكرت بكين في “كتابها الأبيض”، وهو الأول حول هذا الموضوع منذ عام 2000، “أننا لسنا ملتزمين بالتخلي عن استخدام القوة، لكنها ملاذ أخير في ظروف قاهرة”. وأكدت أيضاً بالقول “سنضطر إلى اتخاذ إجراءات صارمة في مواجهة استفزازات الانفصاليين، أو قوى خارجية إذا تجاوزوا خطوطنا الحُمْر”. ويتضمن الكتاب الأبيض وعوداً بازدهار اقتصادي بعد “إعادة التوحيد”، إذ تقترح الصين تعزيز العلاقات الثقافية، وفي مجال الضمان الاجتماعي والصحة، وحتى تعزيز “التكامل” الاقتصادى بشكل أفضل، خصوصاً عبر “سياسات تفضيلية”. ويؤكد النص أنه "بوجود وطن قوي يعتمد عليه، سيكون مواطنو تايوان أقوى وأكثر ثقة وأكثر أماناً، وسيحظون بقدر أكبر من الاحترام على الساحة الدولية".

ورغم أن تأكيد الصين على التوحيد السلمي مع تايوان يُظهر أنها لا تخطط لغزو وشيك، فإن تعليق بعض قنوات الاتصالات العسكرية بعد زيارة بيلوسي قد أضعف وسائل منع نشوب صراع غير مقصود مع الولايات المتحدة؛ ما زاد من المخاطر العسكرية الطويلة الأمد.

أما رد الفعل الأمريكي، وفي محاولة للتخفيف من حدة رد فعل الصين على زيارتها، أكدت نانسي بيلوسي، وهي أرفع مسؤول أمريكي منتخب يزور تايوان منذ 25 عاماً، أنها لا تتعارض بأي شكل مع السياسات الأمريكية التي تعترف بـ “صين واحدة”، والتي لم تعترف رسمياً بتايوان كدولة مستقلة كما أعلن الناطق باسم البيت الأبيض إن لبيلوسي الحق في زيارة تايوان، وصرح بأنه ما من سبب لتقوم بكين بتأزيم هذه الزيارة التي لا تخلُّ بالعقيدة الأمريكية العائدة إلى زمن طويل. وكانت الولايات المتحدة قد أكدت أنها لن تخيفها “قعقعة السيوف” الصينية بشأن التلميحات لاستهداف بيلوسي، وأنها قادرة على التعامل مع أية احتمالات. وفي هذا الإطار، فقد تم تجهيز حاملة الطائرات المتمركزة في اليابان مع سفينة الصواريخ الموجهة أنتيتام والمدمرة هيجينز في عملية انتشار عسكرية. كما أوضح مسؤول بالبحرية الأمريكية أن سفينة الهجوم البرمائي تريبولي تتجه أيضاً إلى المنطقة في أوائل مايو من مينائها الأصلي في سان دييغو.

وكرد فعل على المناورات العسكرية الصينية قامت تايوان بمناورات شبيهة. كما قامت الولايات المتحدة بتدريبات عسكرية في محيط جزيرة سومطرة الإندونيسية، وتشارك فيها قوات عسكرية من أستراليا وسنغافورة واليابان، إضافة إلى إندونيسيا. كما يشارك فيها مراقبون من المملكة المتحدة وكندا وفرنسا والهند وماليزيا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وبابوا غينيا الجديدة وتيمور الشرقية

ومن جانبه أكد كبير مستشاري الرئيس الأمريكى لشؤون آسيا كورت كامبل أن القوات الأمريكية ستواصل رغم التوتر “التحليق والإبحار والقيام بعمليات، حيثما يسمح القانون الدولي بذلك، بما يتوافق مع التزامنا الطويل الأمد بحرية الملاحة”. وأضاف أن هذا يشمل القيام بعمليات عبور بحرية وجوية اعتيادية في مضيق تايوان خلال الأسابيع المقبلة. ولفت كامبل إلى أن بلاده سترد على “الاستفزاز” الصيني بشأن تايوان، من خلال تعزيز التجارة مع الجزيرة المتمتعة بحكم ذاتي، على أن تكشف عن خطة تجارية بين واشنطن وتايبيه خلال الأيام المقبلة.

أما حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون، فقد نقلت مجلة “بوليتيكو” الأمريكية موقفهم عبر تأكيدها أن الدول الأوروبية تستعد لتداعيات التصعيد الخطير بين واشنطن وبكين على خلفية زيارة بيلوسي، وأن الحرب الكلامية المتدهورة بين الولايات المتحدة والصين بخصوص تايوان تثير القلق بسبب مخاطر تصعيد عسكري محتمل. وأن دول الاتحاد الأوروبي تعتبر أي مواجهة عسكرية بين الصين وواشنطن نزاعاً خارجاً عن السيطرة. وقد حذّر نائب رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن بوريس روغ الدول الأوروبية من عدم الاستعداد لسيناريو مواجهة أمريكية – صينية، وذلك بدعم تايوان، إضافة إلى المحافظة على اتصال وثيق مع بكين بهدف تهدئة التوتر.

ومن جانبها استدعت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس سفير الصين في لندن وطالبته بتقديم تبرير لتصرفات بكين تجاه تايوان بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي. وقالت تراس إن تصرفات الصين “عدوانية وتهدد السلام والاستقرار في المنطقة”. وسارعت السفارة الصينية بالتنديد بما وصفته بالتصريحات البريطانية “غير المسؤولة”، وأكدت أن “تايوان جزء لا يتجزأ من أراضي الصين ولا يحق لأي دولة أجنبية، بما في ذلك المملكة المتحدة، التدخل في الشؤون الداخلية للصين”.

أما كوريا الشمالية وروسيا، حلفاء الصين فقد أعلنوا دعمهم الكامل لبكين، حيث انتقدت كوريا الشمالية، ما وصفته بـ “التدخل الوقح” للولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للصين بشأن زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية في كوريا الشمالية إن بيونغ يانغ “ستدعم بالكامل” موقف بكين، وأضاف أن التدخل الوقح للولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى واستفزازاتها السياسية والعسكرية المتعمدة هي السبب الأساسي لتعكير السلام والأمن في المنطقة. واعتبر أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين وقضيتها تتعلق بالشؤون الداخلية للبلاد، مؤيداً احتجاج بكين الشديد على الزيارة وحق الدول ذات السيادة بـ “اتخاذ إجراءات مضادة”. كما تجلى الموقف الروسي من خلال ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، “بأن تسوية الوضع في مضيق تايوان هي مسألة صينية داخلية، وأن موسكو متمسكة بمبدأ “صين واحدة”، وأن زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان عمل استفزازي آخر للإدارة الأمريكية التي ترغب في ممارسة ضغط إضافي على بكين”. وتابعت: إن "حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين بأكملها، وتايوان جزء لا يتجزأ من الصين".

- التداعيات المحتملة للزيارة:

هناك جملة من التداعيات التي سوف تترتب على هذه الزيارة، ويأتي على رأسها ما يلي:

 أولاً، سباق تسلح محتمل، فمن تداعيات هذه الزيارة احتمالية نشوب نزاع مسلّح بين الصين من جانب، والولايات المتحدة وحلفائها في منطقة جنوب شرق آسيا من جانب آخر.

ثانياً، مزيد من التوتر في بحر الصين الجنوبي، حيث ستصل التوترات في مضيق تايوان إلى مستوى مرتفع جديد، إذا اتخذت الصين إجراءً عسكرياً ضد تايوان، خاصة بعد عمليات اقتحام عميقة للمجال الجوي والمياه الإقليمية لتايوان من قبل الجيش الصيني. كما قد تؤدي تكتيكات الضغط الصينية في المنطقة الرمادية الحدودية إلى نزاع عسكري مباشر بين تايوان والصين.

 ثالثاً، دور أكبر للصين في الفعل السياسي للعلاقات الدولية. ربما تكون الأزمة التي ولدتها زيارة بيلوسي إلى تايوان سبباً في إثارة الكثير من الغيوم على الموقف الصيني في العلاقات الدولية، فقد وصلت الصين إلى مكانة دولية مهمة، فلها علاقاتها المتوازنة مع دول العالم بين روسيا والدول الأوروبية، وفي الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران والدول العربية، وفي آسيا بين الهند وباكستان، وبين دول البريكس وبقية العالم. كما أن موقفها الراهن من الأزمات العالمية، وفي مقدمتها الأزمة الأوكرانية بكل نتائجها الاستراتيجية والاقتصادية أعطى الصين مكانة خاصة في العمل على حلها. ومن ناحية فإن الصين لها مصلحة كبرى في حل الأزمة لأنها قطعت طرقاً عديدة على مسار الصين في اكتساب مكانة الدولة العظمى إلى جانب الولايات المتحدة في قيادة النظام العالمي الذي بات محتاجاً بشدة للمنهج (الاقتصادوي) القائم على الإنجاز والعمل الشاق والمنضبط واقتصاديات السوق المفتوحة. ومن ناحية أخرى، فإن للعالم مصلحة في الوصول إلى تسوية للأزمة الأوكرانية تبقي أوكرانيا دولة ذات سيادة، وتهدئ من الروع الروسي من التوسعية الأطلسية.

 وخلاصة القول أن تعزيز الانتشار العسكري في وقت التوتر يزيد من مخاطر وقوع حوادث، حتى لو لم يكن أي طرف يريد صراعاً فعلياً، وأنه من الأفضل للصين والولايات المتحدة وتايوان محاولة احتواء تداعيات هذه الزيارة بدلاً من اللجوء إلى التهديد العسكري.

ثانياً، حوار بلا نتائج ملموسة:

تأتي المكالمة التي أجراها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بنظيره الصيني، شي جين بينغ، في 28 يوليو الماضي في غاية الأهمية، وهي الخامسة بينهما منذ أن تولى بايدن سدة الحكم، ذلك لأن العلاقات بين الدولتين تشهد توتراً متصاعداً في الآونة الأخيرة بسبب عدم توافق أكبر اقتصادين في العالم حول ملفات عدة، بدءاً من سيادة تايوان وزيارة رئيسة مجلس النواب لها، مروراً بملف حقوق الإنسان، وصولاً إلى نشاط بكين العسكري في بحر الصين الجنوبي. وفاقم من هذا التوتر المعلن موقف بكين من النزاع الروسي – الأوكراني أيضاً.

وقد تمثل الهدف الرئيسي من المكالمة التي جرت بين الزعيمين، كما أعلن البيت الأبيض، في وضع “ضمانات” للدولتين العظميين من أجل تجنب الصراع المفتوح رغم خلافاتهما وخصوماتهما الجيوسياسية، وأن الرئيس “بايدن” كان يريد أن يتأكد من أن خطوط الاتصال لاتزال مفتوحة مع الرئيس “شي” بشأن القضايا جميعها، سواء كانت قضايا متفقاً عليها أو قضايا يواجه البلدان صعوبة كبيرة حولها، وأنه لايزال بإمكانهما التواصل هاتفياً بهدوء.

اللافت للنظر، خرجت التصريحات كلها التي أعقبت الانتهاء من الحوار التليفوني بين الرئيسين لتؤكد أنها لم تحرز أي تقدم يذكر أو نقلة نوعية في تخفيض مستوى التوتر في العلاقات بين البلدين. وقد تناولت المكالمة الهاتفية، التي استمرت أكثر من ساعتين و17 دقيقة، عدداً من القضايا:

أولها، الوضع في تايوان: حيث أكد الرئيس الصيني ضرورة التزام الولايات المتحدة بمبدأ الصين الواحدة فيما يتعلق بتايوان، مشدداً على معارضة بكين لاستقلال تايوان وأي تدخل خارجي. وفي هذا الإطار، حذرت بكين من تداعيات زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، لتايوان، وهي خطوة ستكون استعراضاً كبيراً، إن لم يكن غير مسبوق، للدعم الأمريكي للجزيرة التي تقول إنها تواجه تهديدات عسكرية واقتصادية صينية متزايدة.

وفي الوقت الذي لا تقيم فيه واشنطن علاقات رسمية مع تايوان وتتبع سياسة “صين واحدة”، فإنها مُلزمة بموجب قانون الولايات المتحدة بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها، وقد تزايد الضغط في الكونغرس لتقديم دعم أكثر وضوحاً لها. ومع ذلك فإن الرئيس بايدن أبلغ نظيره الصيني بأن السياسة الأمريكية حيال تايوان لم تتغير، وأن واشنطن تعارض بشدة أي جهود أحادية لتغيير الوضع الراهن أو تقويض السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. وهناك مخاوف داخل إدارة الرئيس بايدن بشأن خطط الصين تجاه تايوان، حيث كثفت بكين خطابها وأعمالها العدوانية تجاه الجزيرة خلال الشهور الأخيرة، بما في ذلك إرسال طائرات حربية إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي لتايوان مرات عدة. وقد أعرب مسؤولون أمريكيون عن مخاوفهم من أن تلك الخطوات قد تكون مقدمة لخطوات أكثر عدائية حتى للصين خلال الشهور المقبلة والتي ترمي إلى تأكيد سلطتها على الجزيرة.

وثاني القضايا التي استحوذت على نصيب من الحوار الهاتفي، هي الحرب الروسية – الأوكرانية، ففي الوقت الذي أعلن فيه البيت الأبيض أن الرئيس بايدن، لم يتطرق خلال محادثاته الهاتفية مع الرئيس الصيني، إلى تحديد سقفٍ لأسعار النفط الروسي، فإن الحرب الروسية – الأوكرانية احتلت مساحة من النقاش بين الزعيمين.

أما ثالث القضايا في أجندة الحوار فكانت في قضايا التغير المناخي والأمن الصحي، حيث كلف الزعيمان فرقهما بمواصلة متابعة الأمور التي تم طرحها في محادثة اليوم، وخاصة معالجة تغير المناخ والأمن الصحي.

واللافت للنظر أنه لم تخرج أي تصريحات حول إذا ما كان الرئيس بايدن سيرفع العقوبات عن بعض رسوم الاستيراد البالغة 25% التي فرضها سلفه ترامب على منتجات صينية بمليارات الدولارات أم لا، وهو الأمر الذي بالتأكيد سيكون أكثر وضوحاً في الفترة المقبلة

ثالثاً، أدوات بايدن الجديدة للتعامل مع الصين:

بداية، أجريت المكالمة في وقت يشعر فيه الرئيس بايدن بأنه يمتلك مزيداً من مفاتيح القوة حيال الصين، خاصة في ظل التغير الجوهري لموقف دول الاتحاد الأوروبي تجاه السياسات الصينية في منطقة جنوب شرق آسيا وفي العالم. ففي الوقت الذي حاولت فيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الضغط على دول الاتحاد الأوروبي برفع معدلاتها في الإنفاق العسكري، وتقاسم أعباء تكلفة نفقات حلف الناتو، ومواجهة النفوذ الصيني المتصاعد اقتصادياً وعسكرياً أيضاً، كانت هذه المحاولات تُقابل بالرفض تارة، وبالمماطلة تارة أخرى في ظل الأسلوب الخشن الذي كانت تتبعه الإدارة الجمهورية مع الدول الأوروبية. لكن يبدو أن الأمر قد اختلف مع صعود الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن. والسؤال هنا: ما عوامل تبنّـي الموقف الأوروبي للسياسات الأمريكية تجاه الصين؟ وما الجديد الذي يمتلكه الرئيس بايدن من أجل احتواء الصين؟ وللإجابة عن هذا السؤال، نشير إلى ما يلي:

1. الحرب الروسية – الأوكرانية: إذ ساعدت هذه الحرب الإدارة الأمريكية الحالية في جعل دول الاتحاد الأوروبي تتخذ سياسات أكثر تشدداً تجاه الصين خوفاً من إقدامها على تقديم مساعدات عسكرية للروس في حربها مع أوكرانيا. كما أن هذه الحرب أظهرت مدى الضعف الذي اعترى دول الاتحاد في عدم قدرتها على اتخاذ سياسات مستقلة بمنأى عن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لمواجهة تداعيات الحرب الروسية فقط، بل والعقوبات المفروضة عليها أيضاً، والتي أثرت بشكل كبير في دول الاتحاد نفسه، وخاصة في مجالي أمن الطاقة والغذاء.

والجدير بالقول، كان لدول الاتحاد الأوروبي موقف مغاير عن الولايات المتحدة حيال الصين، وأن العلاقات الصينية – الأوروبية كانت بمنأى، إلى حدٍّ ما، عن التوترات الأمريكية – الصينية. ففي الرمق الأخير من ولاية ترامب وقبيل أيام من تنصيب بايدن، تم الإعلان عن “الاتفاق الشامل بشأن الاستثمارات” بين الصين والاتحاد الأوروبي، الذي وصفته مفوضية الاتحاد بأنه “الأكثر انفتاحاً من قِبل الصين التي خفّضت العوائق أمام الشركات الأوروبية”. ولكن العلاقات تضررت بين الجانبين بسبب الحرب الروسية – الأوكرانية. وفي محاولة من الصين للسيطرة على الضرر الذي لحق بعلاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، خاصة مع دول أوروبا وشرقها، أرسلت مبعوثها في جولة مكوكية بين بودابست وبراج ووارسو على أمل استمالتها إليها من جديد ولكن هذه المحاولة قوبلت بفتور أحياناً وبتوبيخ في بعض الأحيان بسبب الدعم الصيني غير المشروط لروسيا. فمع بداية الحرب، أعلنت بكين تأييد دعوة موسكو لقوات حلف الناتو العودة إلى حدود عام 1997 وإخراج دول، مثل: التشيك وبولندا وسلوفاكيا من تحت مظلة الحلف رغم أنهم حلفاء للصين في مجموعة (16+1) وهو تحالف تجاري يضم 16 دولة من دول شرق أوروبا ووسطها إلى جانب الصين. وقد تزايد الإحباط الأوروبي من بكين مع تبريرها العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بسبب ما وصفته بتوسع حلف الناتو في الجناح الشرقي من القارة الأوروبية. فعلى سبيل المثال، عبّـرت ألمانيا، وهي شريك من أكبر شركاء الصين وأهمهم في القارة، عن امتعاضها من الموقف الصيني خلال الحرب الروسية على لسان وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك التي قالت: إن الحرب أظهرت أن التحالفات الاقتصادية من جانب واحد تجعل برلين عرضة للخطر.

واللافت للنظر أن الحرب الروسية – الأوكرانية ليست السبب الوحيد في تردي العلاقات الصينية – الأوروبية حيث أدى تشدد بكين في معاقبة أي دولة أوروبية تعترف بتايوان إلى ضيق أوروبي وصل إلى حد خروج ليتوانيا من تحالف (16+1)، ذلك رغم مرور نحو عقد كامل على تأسيس التحالف الذي لطالما استخدمته الصين كورقة سياسية ضد الغرب والولايات المتحدة في مواجهة الحرب التجارية تارة وملف حقوق الإنسان وتايوان تارة أخرى. ومن الملاحظ هنا أنه رغم قوة العلاقات الصينية – الروسية أيضاً؛ فإن بكين لم تعترف بضم موسكو شبه جزيرة القرم حتى الآن.

وبالنظر إلى مجالات التعاون المحتملة بين روسيا والصين، فإن شراء بكين الطاقة من روسيا وزيادة التبادل بين البلدَين بالعملة المحلية في ظل العقوبات الأمريكية على موسكو سيكون أمراً مهماً، خصوصاً أن الرئيس الصيني يؤيد موقف نظيره الروسي في معارضة توسع الناتو شرقاً، وفي المقابل سيكون دعم الصين لروسيا مغامرة ليس في علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة فقط؛ ولكن مع جيرانها في اليابان والهند وأستراليا أيضاً، الأمر الذي سينعكس على الأمن والاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى بعض العقوبات السياسية والاقتصادية نتيجة التعاون مع روسيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاتصالات التي تمت بين الجانبين الأوروبي والصيني تُظهر أملاً في تعزيز التواصل والتعاون والبحث عن نقاط تعاون جديدة، وحل النزاع بين روسيا وأوكرانيا، وذلك لوضع الأساس للخطوة التالية من التعاون بين الصين والاتحاد الأوروبي.

2. المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو لعام 2022: يقوم المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو لعام 2022 على ثلاثة مرتكزات أساسية، وهي: أولاً، الردع والدفاع: من خلال الاستعداد المبكر للأزمات، والحفاظ على السلام الدولي، وضمان مصداقية أمن الردع النووي وفعاليته وسلامته. ثانياً، منع الأزمات وإدارتها: من خلال العمل مع الشركاء، وتخصيص الموارد للتدريب والقيادة والسيطرة. ثالثاً، الأمن التعاوني من خلال فتح باب العضوية، والحوار مع الشركاء الاستراتيجيين، وزيادة إنفاق الدفاع كوسيلة لحماية دول الحلف، ولضمان الاستمرار والنجاح في المهام الأساسية للحلف.

وفي هذا الإطار، احتلت الصين مكانة لا تقل أهمية عن روسيا في الوثيقة الجديدة للحلف، التي أكدت بالقول “إن الطموحات المعلنة لجمهورية الصين الشعبية وسياساتها القسرية تتحدى مصالحنا وأمننا وقيمنا، فالصين تستخدم مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة وجودها العالمي، بينما تظل غامضة بشأن استراتيجيتها ونياتها وحشدها العسكري، وتستخدم العمليات الهجينة والسيبرانية الخبيثة. إن الصين وخطاب المواجهة والمعلومات المضللة تضر بأمن التحالف والحلفاء. وهي تسعى إلى التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد. كما أنها تستخدم نفوذها الاقتصادي لخلق التبعات الاستراتيجية وتعزيز نفوذها، وتسعى جاهدة لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد بما في ذلك المجالات الفضائية والإلكترونية والبحرية. إن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا ومحاولاتهما المتعاضدة لتقويض النظام الدولي القائم على قواعد راسخة – هذه المحاولات تتعارض مع قيمنا ومصالحنا.

كما أكد المفهوم الجديد أن على دول الناتو مواجهة التحديات النظامية التي تفرضها الصين على الأمن الأوروبي والأطلسي، خاصة تلك المتعلقة بتوسيع ترسانتها النووية، أو تطويرها لأنظمة توصيل متطورة بشكل متزايد دون زيادة الشفافية، وضرورة انخراطها بحسن نية في الحد من الأسلحة أو الحد من المخاطر أيضاً. كما أكدت الوثيقة الجديدة، أنه في ظل العلاقة الفريدة التي تجمع الناتو والاتحاد الأوروبي، فإن عليهما معاً مواجهة التهديدات الإلكترونية والهجينة ومعالجة التحديات النظامية التي تفرضها الصين على الأمن الأوروبي الأطلسي، وذلك بالتعاون مع الشركاء الجدد والحاليين في منطقة المحيطين الهندي والهادي لمواجهة التحديات عبر الإقليمية والمصالح الأمنية المشتركة.

3. العلاقات الاقتصادية: وقع بايدن مشروع قانون يهدف إلى تعزيز تصنيع الرقائق الأمريكية المعروف بقانون “شيبس والعلوم” الذي يستثمر أكثر من 200 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة في محاولة لمساعدة الولايات المتحدة على استعادة مكانتها الرائدة في تصنيع الرقائق الإلكترونية. ويهدف إلى مواجهة النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين، وخفض تكلفة السلع، وجعل الولايات المتحدة أقل اعتماداً على التصنيع الأجنبي وتخفيف اضطرابات سلسلة التوريد في أعقاب جائحة كورونا، ووصف بايدن القانون بأنه "استثمار يحدث مرة واحدة في الجيل في أمريكا نفسها".

واللافت هنا أن العلاقات التجارية والاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة باتت مهولة وغير مسبوقة في التاريخ. وإذا أخذنا التبادل التجاري مثالاً فسوف نجد في آخر تقرير رسمي صيني صادر في 9 مايو الماضي عن الإدارة العامة للجمارك أنه قد ارتفع ما بين يناير وإبريل 2022 بنسبة 10.9% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضى. ويُتوقع أن يصل إجمالي حجم التجارة بين الدولتين في نهاية العام إلى ما يقرب من تريليون دولار، بعد أن بلغ نحو 755 مليار دولار عام 2021. ومازالت الصين هي المستفيد الأول من الارتفاع المستمر في معدلات هذا التبادل، إذ تحقق فائضاً بشكل منتظم، برغم الرسوم الإضافية التي كانت قد فرضتها إدارة ترامب عام 2018 على بضائع صينية قيمتها نحو 250 مليار دولار. ولأن لدى الصين الكثير مما تخسره اقتصادياً، مثلها في ذلك مثل أمريكا، في حالة الصدام الشامل رداً على زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، فالمتوقع أن تتجنب الدخول في حرب اقتصادية ضد الولايات المتحدة، وفق ما يمكن استنتاجه بعد أسبوع تقريباً على هذه الزيارة.

4. تزايد الإنفاق العسكري الأسترالي: إن العلاقات الأمريكية – الأسترالية تتجه إلى مزيد من التعاون في مواجهة الصين. في هذا الإطار، أعلن رئيس الوزراء الأسترالي خططاً لإنشاء قاعدة غواصات جديدة بقيمة 10 مليارات دولار أسترالي (7.4 مليار دولار) بهدف مواجهة القوة العسكرية المتنامية للصين بالحرب في أوكرانيا. وفي 8 يونيو الماضي أكدت أستراليا أن طائرة مقاتلة تابعة لقواتها الجوية كانت في المجال الجوي الدولي خلال مهمة استطلاعية أيضاً، عند اعتراضها من قِبل مقاتلة صينية قامت بإطلاق سحابة من قشور الألمنيوم التي تستخدم لتضليل الصواريخ. ورد رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز باقتضاب عندما سُئل عن الخلاف بين كانبيرا وبكين بشأن حادث 26 مايو الذي وصفته الحكومة الأسترالية بأنه “خطير للغاية” وقد دخلت الصين وأستراليا في خلاف منذ ذلك الحين حول حادث الطائرة وطموحاتهما الدبلوماسية والأمنية في منطقة جنوب المحيط الهادي. وتوترت العلاقة بين البلدين في العامين الماضيين بعد أن دعت كانبيرا إلى إجراء تحقيق مستقل في نشأة فيروس كورونا، إضافة إلى حظرها شبكات الجيل الخامس لعملاق الاتصالات الصيني هواوي. وردت الصين أكبر شريك تجاري لأستراليا بفرض رسوم جمركية على العديد من السلع الأسترالية وهنا يجب التأكيد أنه كلما توترت العلاقات الأستراالية – الصينية، كان ذلك في صالح الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعاً، مؤشرات تزايد التوتر في العلاقات بين واشنطن وبكين:

هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد زيادة مستوى التوتر بين واشنطن وبكين، ومنها ما يلي:

الطابع العسكري المتزايد للتحالفات الأمريكية في القارة الآسيوية: إن التحالفات الاستراتيجية التي عقدتها الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة، مثل تحالفها الثلاثي (أوكوس) مع كلٍّ من بريطانيا وأستراليا، والاتفاق الرباعي (كواد) مع الهند وأستراليا واليابان، والتحالف الذي أعلن عنه مؤخراً “I2-U2″، والذي يعرف باسم “تحالف غرب آسيا الرباعي”، وإن كان هدفه الرئيسي توسيع التعاون التجاري والسياسي في الشرق الأوسط وآسيا، إلا أنه يضم شريكاً مهماً للولايات المتحدة في مواجهة الصين، وهي الهند. بالإضافة إلى الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة لدفع الدول المتشاطئة مع الصين في بحر الصين الجنوبي، مثل: فيتنام وإندونيسيا والفلبين، للصراع العسكري مع الصين حول الجزر وحق المرور في هذا البحر الذي تنظر له الصين على منطقة نفوذ خاصة، وحائط أمان استراتيجي لها. وفي المجمل إن هذه التحالفات الأمريكية كلها، وغيرها، هي بالأساس من أجل تطويق الصين، عسكرياً واقتصادياً.

الفكر الاستراتيجي لإدارة بايدن: هذا الفكرالذي لم يختلف كثيراً عن الإدارات السابقة، حيث حدث تحول كبير في الفكر الاستراتيجي الأمريكي منذ بداية القرن الجديد للتركيز على منطقة المحيطين الهادي والهندي Indo-Pacific من أجل احتواء الصين. الأمر الذي اتضح من الوثائق الأمريكية الرسمية كلها، والمؤتمرات الانتخابية للحزبين الديمقراطي والجمهوري خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي تركز بالأساس على منطقة جنوب شرق آسيا من أجل احتواء الصعود العسكري والأمني الصيني، وليس الاقتصادي فقط، وذلك بعد تنامى القدرات العسكرية الصينية بشكل كبير، حيث وصلت الميزانية العسكرية الصينية لهذا العام (230 مليار دولار)، وبذلك فإن الصين تمنح نفسها ثاني أكبر ميزانية دفاعية في العالم بعد الولايات المتحدة (740 مليار دولار لعام 2022). وقد زادت أهمية منطقة المحيطين الهندي والهادي في حلبة التنافس والصراع بين الولايات المتحدة والصين، في ظل التغيرات التي طرأت عليها، حيث تزايد ثقلها السياسي والاقتصادي والديموغرافي بشكل متسارع ما جعلها واحدة من أهم المناطق التي ستسهم في تشكيل خريطة التفاعلات وشكل النظام العالمي الجديد ومستقبله خلال المرحلة المقبلة من عمر النظام الدولي.

النشاط العسكري الأمريكي المتزايد: اللافت للنظر هو زيادة التحركات والأنشطة العسكرية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادي وبحر الصين الجنوبي، والموافقة على العديد من صفقات السلاح لدول هذه المنطقة أيضاً، والتي كان من ضمنها الموافقة على حصول تايوان على 66 طائرة حديثة، فضلاً عن نشر صواريخ متوسطة في آسيا، وإبحار المدمرة الأمريكية المزودة بالصواريخ الموجهة “يو إس إس بينفولد” عبر المياه المتنازع عليها في مضيق تايوان في 16 يوليو 2022 الماضي. وبالمناسبة، لم تكن هذه المرة الأولى التي تبحر فيها المدمرة “بينفولد” في بحر الصين الجنوبي هذا العام، فقد سبق لها أن أنجزت 4 عمليات إبحار، وذلك بعد نجاح الصين في الانتهاء من عملية تحويل 3 جزر اصطناعية، تقع في بحر الصين الجنوبي، إلى قواعد عسكرية، تضم ترسانة من الأسلحة، مثل: أنظمة الصواريخ المضادة للسفن، والصواريخ المضادة للطائرات، بالإضافة إلى معدات الليزر والتشويش، والطائرات المقاتلة، مما يؤكد أن التحرشات العسكرية بين الصين وواشنطن وحلفائها سوف تزداد خلال الأيام المقبلة. كما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز أسطولها العسكري بسفن غير مأهولة لضمان تفوقها في مواجهة روسيا والصين. وأفاد تقرير للبحرية الأمريكية أنها تتوقع أن يتألف أسطولها في المستقبل من أكثر من 350 سفينة مأهولة ونحو 150 سفينة غير مأهولة وسط آمال بأن تسهم التكنولوجيا في خفض تكاليف التشغيل بينما تستعد لمواجهة الأسطول الصيني المتنامي. وتمتلك البحرية اليوم 298 سفينة في “قوتها القتالية” بما لا يشمل العشرات من سفن إعادة الإمداد واللوجستيات. وطلبت ميزانية البحرية المقترحة للسنة المالية 2023 مبلغ 27.9 مليار دولار لتمويل بناء ثماني سفن جديدة، منها: غواصتان هجوميتان من طراز فرجينيا، ومدمرتان من طراز أرلي بيرك، وفرقاطة كونستليشن.

ونتيجة للنشاط العسكري الأمريكي المتزايد اتهمت بكين واشنطن في 29 يوليو بـ”التنمر الملاحي” في بحر الصين الجنوبي وحذرت من اشتعال المواجهة بينهما.

زيادة التدريبات العسكرية المشتركة: كشفت وزارة الدفاع الأمريكية عن خطة استئناف برامج التدريب الميداني المشتركة على نطاق الوحدات أو على نطاق واسع بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، بما يشمل تدريبات حاملات الطائرات، والتدريب على الهبوط البرمائي. وكان قد تم تعليق هذه التدريبات عام 2018، في ظل مجهودات إدارة مون جيه-إن لتسهيل الدبلوماسية مع بيونج يانج. وقالت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية: إنها “ستدفع من أجل تعزيز الموقف الدفاعي المشترك بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي من خلال تطبيع التدريبات والتمارين المشتركة التي تم إلغاؤها أو تأجيلها أو تقليصها وتعديلها”. كما كشفت عن الاسم الجديد للتدريبات الصيفية المزمع عقدها ما بين 22 أغسطس والأول من سبتمبر وهو “أولشي فريدوم جارديان” أو “حارس الحرية أولشي” (UFS)، وهي تتكون من تدريب مركز القيادة بالمحاكاة على الكمبيوتر، ومناورات ميدانية وتدريبات أولشي في حالات الطوارئ، ما يمثل إحياء لتدريبات “حارس الحرية أولشي” التي تم إلغاؤها عام 2018. وكجزء من الجهود المبذولة لتعزيز تدريبات الحلفاء، تخطط كوريا الجنوبية والولايات المتحدة لتنظيم 11 جلسة تدريب ميداني مشتركة بين أغسطس وسبتمبر، بما في ذلك برنامج على مستوى الوحدة في مركز التدريب القتالي الكوري التابع للجيش في إنجيه، على بعد 165 كيلومتراً شرق سول.

التصريحات الرسمية للمسؤولين الأمريكيين: إن كل التصريحات التي تخرج حيال الصين تتجه نحو التصعيد؛ فقد أعلن مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن في المحيطين الهندي والهادي، إيلي راتنر، مؤخراً، “أن تصرفات الصين في بحر الصين الجنوبي تهدد بوقوع “حادث خطير” في آسيا والمحيط الهادي”. وقال في كلمة خلال ندوة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: “على مدى السنوات الخمس الماضية، زاد عدد عمليات اعتراض الجيش الصيني غير الآمنة للطائرات والسفن العسكرية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وشركائها الذين يعملون بشكل قانوني في المجال الجوي الدولي فوق بحر الصين الجنوبي بشكل كبير”. كما أضاف أنه “إذا استمر الجيش الصيني باستخدام هذا النموذج من السلوك، فإن وقوع حادث كبير في آسيا سيكون مجرد مسألة وقت”. كما أشار الرئيس بايدن نفسه إلى أن الصين هي أكبر منافس للولايات المتحدة، وهو ما أكده وزير خارجيته أنتوني بلينكن. ويعتقد بعض علماء السياسة أن التقليد في تبنّـي النهج نفسه بين الإدارات، هو نتاج الأفكار التقليدية والتفكير الجماعي الناشئ عن مؤسسة السياسة الخارجية المكونة من الحزبين في واشنطن، التي أطلق عليها نائب مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق، باراك أوباما، بن رودس، الاسم الساخر “النقطة الغبية”.

خامساً، سيناريوهات مستقبل توتر العلاقات في عهد بايدن:

في الوقت الذي قال فيه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق المخضرم، هنري كيسنجر، إن الجغرافيا السياسية تتطلب اليوم “مرونة نيكسونيا” للمساعدة في نزع فتيل النزاعات بين الولايات المتحدة والصين، لكنه حذر من أن الصين لا ينبغي لها أن تصبح مهيمنة عالمياً، وأنه يجب على الرئيس جو بايدن أن يكون حذراً من ترك السياسة الداخلية تتدخل في “أهمية فهم ديمومة الصين”. وقال كيسنجر “بايدن والإدارات السابقة تأثرت كثيراً في الجوانب المحلية لوجهة نظر الصين.. من المهم بالطبع منع هيمنة الصين أو أي دولة أخرى”.

وفي هذا الإطار، هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل توتر العلاقات الصينية – الأمريكية في عهد جو بايدن. وقبل تناولهما، فإنه يمكننا القول إن السيناريوهات الثلاثة تقع على خط مستقيم، وأن المرور بأحد هذه السيناريوهات لا يعني عدم المرور بالاثنين الآخرين، وأن هناك عدداً من العوامل الأخرى، بالإضافة إلى المؤشرات السالفة الذكر، ستعلب دوراً في تحقيق أي من هذه السيناريوهات والتي من بينها، نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي المقبلة، وطريقة انتهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، والتوسع الأفقي والرأسي المتوقع لحلف الناتو في أوروبا، والشراكات التي تعقدها الولايات المتحدة والصين في منطقة القارة الآسيوية، وحتى القارة اللاتينية أيضاً، حيث يتزايد الدور والنفوذ الصينيين.

وبناء عليه، فإن السيناريوهات الثلاثة المتوقعة للتوتر أو الصراع بين الدولتين، هي:

السيناريو الأول، تصاعد التوتر: وهو سيناريو متوقع في حال استمرار المناوشات العسكرية بين البلدين، خاصة بعد قيام رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، بزيارة تايوان، واستمرار الولايات المتحدة في بناء القواعد العسكرية بالقرب من البر الصيني، وعقد مزيد من التحالفات والتمارين العسكرية مع دول الجوار الصيني، خاصة الهند وأستراليا وكوريا الجنوبية. وفي ظل هذا السيناريو، فإن الصين لن تقف مكتوفة الأيدي حيث ستعمل على زيادة إنفاقها العسكري، وتطوير قواعدها البحرية، خاصة بعد أن أقامت، مؤخراً، ثلاث قواعد بحرية جديدة في بحر الصين الجنوبي، وسوف تصعّد من مراقبة القطع البحرية الأمريكية المارة في بحر الصين الجنوبي وملاحقتها، وزيادة التعاون العسكري مع كلٍّ من روسيا وباكستان وإيران وكوريا الشمالية، وربما تعمل الصين على زيادة الدعم العسكري المباشر لروسيا لحسم حربها ضد أوكرانيا.

السيناريو الثاني، وهو التوتر المنضبط: أو بقاء الوضع على ما هو عليه، حيث تعمل إدارة الرئيس جو بايدن فيما بقي من عمرها على استمرار الاتصالات والمشاورات بين البلدين، وربما يكون هناك لقاءات مباشرة بين الرئيسيين خلال الفترة المقبلة، وذلك من أجل الاتفاق على قواعد عدم الصدام العسكري، وإبقاء التوتر بين البلدين تحت السيطرة، ومحاولة حل الخلافات الاقتصادية. وفي ظل هذا السيناريو سوف يتحكم الطرفان في فعلهما السياسي تجاه بعضهما، بحيث لا تصل درجة استفزاز الطرف الآخر إلى الحدود القصوى، وهنا سوف يكون هناك المزيد من التنسيق المشترك حيال العديد من القضايا المتعلقة بالعمل على إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية، ودور فاعل لدول الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا وألمانيا، للتعاون الغربي – الصيني في قضايا التغيرات المناخية، والتبادل التجاري، والاتفاق على القضايا الخلافية في منطقة المحيطين الهادي والهندي.

السيناريو الثالث، خفض التوتر، وهو سيناريو متفائل، وهو ليس في مصلحة الدولتين فقط، ولكن في مصلحة الفاعلين الدوليين كلهم في العالم. وفي ظل هذا السيناريو فإن الولايات المتحدة ستقدم مزيداً من الضمانات حول موقفها من سياسية “الصين الموحدة” بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان. كما ستعمل أمريكا على خفض أو توقيف عمليات الإبحار في بحر الصين الجنوبي، وربما ترفع القيود عن السلع والصادرات الصينية التي فرضها ترامب، خاصة في ظل التضخم وارتفاع الأسعار في الداخل الأمريكي. وهو ما سيؤدي إلى أن ترتفع الرغبة المشتركة بين البلدين في تنمية العلاقات التي سوف تركز على فكرة الاعتماد المتبادل، والمحافظة على تبادلات طبيعية، واتباع منهج الاحترام المتبادل.

وإجمالاً؛ إن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وصحة الرئيس بايدن، وطريقة توقف أو عدم توقف الحرب الروسية – الأوكرانية، سوف تساعد على تحقيق حدوث أيّ من السيناريوهات الثلاثة، كما أسلفنا القول.

وفي النهاية، يمكننا القول إن سيناريو بقاء الوضع القائم هو الأقرب للواقع أثناء فترة تولي الرئيس جو بايدن سدة الحكم في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن هناك حاجة ملحة، بل وضرورية، إلى أن تنتقل لغة الحوار بين البلدين من دبلوماسية الهاتف إلى الدبلوماسية المباشرة لمعالجة الكثير من القضايا الاستراتيجية العالقة من أجل ضبط الإيقاع لعملية إدارة القواعد التي تقود النظام الدولي الحالي.