بعد حضور طويل وغياب قصير عن السلطة يعود بنيامين نتنياهو إلى واجهة الأخبار مع تكليفا رسميا من الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بتشكيل الحكومة الجديدة، في تأكيد للنتائج المتوقعة من الانتخابات المبكرة الخامسة والعشرون للكنيست، والتي أجريت في الأول من نوفمبر 2022. وفي حين لم تحمل النتائج في صورتها العامة، والخاصة بفوز نتنياهو، الجديد وفقاً للمؤشرات السابقة واستطلاعات الرأي العام، إلا أنها حملت تغييرات أساسية على صعيد تفاصيل النتائج وما حملته من توجهات تتعلق بشكل الحكومة الجديدة وما يمكن أن يرتبط بها من تحركات وينتج عنها من سياسات.
ولم تتوقف النتائج عند حدود فوز نتنياهو أو حصول حزب الليكود الذي يرأسه على العدد الأكبر من المقاعد، ولكنه تجاوز هذا الوضع بحصول الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة ضمن كتلة نتنياهو اليمينية على العدد المطلوب من الأصوات لتشكيل حكومة أغلبية من اليمين. وبعد المخاوف الإسرائيلية من أن تؤدي نتائج الانتخابات الخامسة منذ 2019 إلى انتخابات سادسة قريبة، ساهمت عدة عوامل في فوز الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة، ومن تلك العوامل: المشاركة الكبيرة لليهود في التصويت والتي وصلت إلى 70.6 بالمائة، وانخفاض نسبة مشاركة عرب 48 والتي وصلت إلى 53.2 بالمائة. بالإضافة إلى التخويف من تزايد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والحديث عن فشل حكومة نفتالي بينيت- يائير لبيد في حماية الأمن. في حين ارتبط صعود شخصيات محددة، مثل إيتمار بن غفير، بالمخاوف التي أثيرت بشأن الأمن بين الناخبين اليهود في أعقاب الاشتباكات التي اندلعت في المدن المختلطة أثناء حرب غزة الرابعة في مايو 2021، والخوف على يهودية الدولة.
ومع ظهور النتائج الأولية للانتخابات انتقل الجدل ومجال التركيز من المخاوف الإسرائيلية التي أثيرت حول إمكانية تشكيل حكومة أغلبية، إلى الحديث عن شكل الحكومة الجديدة وسياساتها. ومن الانتخابات المتكررة وتكلفتها المالية والسياسية إسرائيلياً، والاستقطاب الذي شهدته الانتخابات، إلى النتائج وانعكاساتها السياسية والإنسانية والأخلاقية إسرائيلياً وفلسطينياً من جانب، وإقليمياً ودولياً من جانب آخر.
وطرحت تساؤلات مختلفة حول فرص مشاركة أسماء محسوبة على اليمين المتطرف العنصري في تلك الحكومة وخاصة بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، وبن غفير، رئيس حزب القوة اليهودية الذي خاض الانتخابات بالتحالف مع الصهيونية الدينية، والانعكاسات المحتملة من مشاركة تلك الشخصيات على الوضع السياسي في إسرائيل. أوضاع أعادت إلى الواجهة الجدل حول مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية في ظل إمكانية استهداف المحكمة العليا وغيرها من ضمانات الديمقراطية الإسرائيلية، إلى جانب انعكاس ما يحدث على صورة إسرائيل لدى الغرب، والعلاقات مع الدول الغربية بعد الانتخابات وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي دعت إلى احترام قيم المجتمع الديمقراطي المنفتح.
وفي مواجهة التصريحات الأولى لعدد من الوجوه اليمينية الفائزة تمحور الجدل حول مستقبل العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وملف الأسرى، وآليات التعامل مع المقاومة المتزايدة في الضفة الغربية، والتي فرضت نفسها على الأوضاع مع تنفيذ عملية طعن في 3 نوفمبر الجاري في القدس، والاقتحام الإسرائيلي لمخيم جنين، وإطلاق دفعة صواريخ من قطاع غزة تجاه إسرائيل، واستهداف الجيش الإسرائيلي لمواقع عسكرية تابعة لحركة المقاومة الإسلامية- حماس في القطاع في ٤ نوفمبر الجاري، كل هذا وسط أجواء الاحتفاء اليميني بنتائج الانتخابات وتأكيد نتنياهو أن الفوز سوف يعيد "الأمن والقوة والحكمة لإسرائيل"، في تناقضات واضحة للمشهد وتفاصيله المختلفة.
وعلى الصعيد الفلسطيني ارتبطت النتائج بمخاوف متزايدة من المؤشرات التي تعبر عنها الانتخابات فيما يتعلق بصعود التوجه اليميني المتطرف، ومن الحكومة التي يمكن أن تنتج عن تلك الانتخابات، والتي تم التعامل معها بوصفها الحكومة الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل من قبل العديد من الأصوات دون انتظار تشكيل الحكومة فعلياً، وسط إدراك فلسطيني رسمي لغياب شريك سلام إسرائيلي. وارتبطت تلك الرؤية بالخوف من تزايد العنف في مواجهة الفلسطينيين في وقت أكد فيه تور وينسلاند، المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، في أكتوبر الفائت إن عام 2022 في طريقه ليكون أكثر الأعوام دموية بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ بدأت الأمم المتحدة في تعقب حصيلة القتلى في عام 2005.
بدورها تحمل فكرة عودة نتنياهو العديد من الحقائق السلبية أمام السلطة التي قاطعها على مدار سنوات حكمه الأخيرة. بالإضافة إلى الانعكاسات المحتملة على قضايا الاستيطان والقدس واستهداف المسجد الأقصى، والتي لا يزيد من تأثيرها ميراث حكومات نتنياهو نفسه فقط، ولكن ميراث حكومة بينيت- لبيد التي زاد الاستيطان خلالها وحتى شهر يونيو الفائت (2022) بنسبة 62 بالمائة مقارنة بحكومة نتنياهو السابقة عليها، وزيادة هدم منازل وممتلكات الفلسطينيين بنسبة 35 بالمائة، وفقاً لمؤسسة "السلام الآن" الحقوقية الإسرائيلية.[ بالإضافة إلى تزايد اقتحامات المسجد الأقصى، واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، وهي التحركات المؤهلة للاستمرار بكل ما يترتب عليها من انعكاسات.
تحمل الانتخابات طابع الوقوف عند مفترق طرق للعديد من الفاعلين والقضايا، وفي حين تمثل فرصة مهمة لنتنياهو على المستوى الشخصي والسياسي، وتسمح بتواجد بعض رموز اليمين المتطرف في مناصب وزارية مهمة، تطرح تحدياتها على واقع الأحزاب الإسرائيلية في ظل تراجع اليسار وبروز اليمين المتطرف ومعه فرص إعادة رسم المشهد السياسي الإسرائيلي وفقاً لما يمكن أن ينتج بعد مفاوضات تشكيل الحكومة من نتائج. كما تمثل الانتخابات فرصة للسياسات المضادة للمسار السياسي القائم على أساس إعلان دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وتسمح بمساحة أكبر للتيار المعارض للتسوية والقائم على تأكيد يهودية الدولة، وزيادة الاستيطان بكل ما تمثله تلك السياسات من تحديات على صعيد القضية الفلسطينية وأوضاع الشعب الفلسطيني.
في التفاصيل تطرح الانتخابات ونتائجها العديد من التحديات على المسار السياسي وواقع السلطة التي تتمسك به، وتزيد من فرص التصعيد في الضفة الغربية كما في القدس وغزة، حيث تقف المقاومة والتسوية، والفصائل والسلطة عند مفترق طرق آخر من شأنه أن يؤثر على حياة الجميع. وفي الخلفية يظل السؤال مطروحا حول ما يمكن أن يترتب على حكومة تتسق بشكل كامل مع توجهات كتلة نتنياهو ومتطلباتها من تحديات على صعيد العلاقة مع مكونات الداخل الإسرائيلي والفلسطيني، وواقع ومستقبل القضية الفلسطينية، والعلاقات مع القوى الإقليمية وغيرها من القوى الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في ظل الحرب الأوكرانية وانعكاساتها على الأوضاع الإقليمية. وفي اللحظة، يتوقف جزء كبير من فهم المسار القادم وتطوراته على شكل الحكومة التي سوف يتوصل إليها نتنياهو، والطريق الذي سوف يتم اختياره من تنويعات اليمين والأدوار، وحتى تتضح الصورة تسيطر على المشهد التساؤلات والمخاوف، وحديث السيناريوهات والاحتمالات.