• اخر تحديث : 2024-05-08 00:17
news-details
أبحاث

المصالحة الوطنية الرواندية.. دراسة لنموذج أفريقي


يعتبر السلم في العالم عموماً وفي القارة الأفريقية خصوصاً مسألة جوهرية للأفراد والجماعات والدول، وعليه فإن السُّبل كلها المؤدية إليه بما في ذلك مصالحات ناجحة أو أخرى متعثرة هي مكسب للإنسانية وتراث للبشرية وخبرة اجتماعية يمكن الاستفادة منها حسب الحاجة؛ وتتقاطع النماذج الأفريقية المتنوعة كحالة رواندا مثلاً مع غيرها من تجارب العالم الحية في كونها جسراً للعبور إلى الأمن والاستقرار.

على أن المصالحة والتسامح والاعتراف المتبادل جزء أصيل من الفكر السياسي الأفريقي وكذا الممارسات السياسية، نلمسه في التشبث بمبدأ العدل والإشادة به كقيمة ضابطة للفضاء الاجتماعي، واستشارة الشيوخ/الحكماء، وفيما يدعى بـ: حلف الممازحة بين المجموعات القبلية والأسر، وعقد الأحلاف ومجالس الصلح، والوساطة، إلخ.

كما أبدع العقل السياسي الأفريقي آليات وإجراءات متكاملة لمسايرة تطورات المجتمع والحياة العامة رأباً للصدع وحرصاً على الوحدة، حيث تعقد محاضر فض النزاعات وتداولها وإبرام المصالحات عادة في أماكن مخصصة حسب فداحة النزاع، ومن تلك الأماكن” الغابة المقدسة” وضفاف الأنهار وتحت شجرة الباوباب (التبلدي) العملاقة، وفي دار شيخ العشيرة، أو البهو العشيري “بولون” (bulon) لدى الماندينغ، أو في مقبرة الأسلاف أو في غيرها من الأماكن.

وتولد من جراء تلك التقاليد والأعراف ما يفسر التنوع البارز بين مكونات القارة في مختلف أمكنتها وأزمنتها، ووجدت فيها كل مجموعة ما يحميها ويحفظ كيانها.

ولئن كثر الصراع ووصل التناحر أشده؛ فإن البشر قادرون على صنع السلام واستئناف الحياة من جديد، وليس غريباً أن يأخذ من أشعل نيران الحرب بيد خصمه طلباً للصفح عن جرائمه كلها مع استعداد تام لجبر الأضرار، فليست الحرب بحالة دائمة ولا السلام وضعية قائمة بل الدول تتقلب بين ذلك، ومؤججات الصراع ومهيجاته موجودة إن استدعيت، وبقدر ابتعاد الناس عنها ينعم المجتمع بسلام.

ثم إن تَمَثُلُ مبدأ المصالحة يقتضي الاجتماع معاً والانطلاق مرة أخرى إثباتاً لقدرة الإنسان على التجاوز والتسامح والعفو ضمن مشروع اجتماعي وحضاري ينبثق من مبادئ وأسس قيمية تؤسس للمسار الجديد في الحياة، والمصالحة لا مفر منها إذ هي حاجة إنسانية للنهوض بعد الكبوة وعدم الارتكان إلى العبثية سواء مع النفس ذاتها أو الجماعة أو المحيط أو حتى مع التاريخ والإرث الإنساني؛ فالمصالحة قيمة إنسانية اجتماعية حضارية سياسية، تعيد التوازن وتضمن الاستمرار وتصحح المسيرة دون توقف بما يساير طبيعة الحياة.

والمصالحة حلقات متعددة المداخل تنطلق من الذات وتتمدد عبر الفضاء الجهوي والدولي على مختلف الصُّعد مبدأً وممارسةً، كما أنها اختيار منضبط بآليات وإجراءات مادية ورمزية تُمَكِّنُ من إعادة لُحمة الوطن في ظل ضمان كرامة إنسانية وعدالة اجتماعية لطرفي النزاع والنزال، وتعتبر المصالحة هدفاً ووسيلة في آن واحد، فهي هدف ـ يُسعى من أجل تحقيقه ووسيلة لتحقيق هدف في آن واحد.

هذا وقد سعى الروانديون – مثل غيرهم من الشعوب الأفريقية – بعد حروب التحرير والاستقلال إلى تجاوز عصور التبعية التي حملت الكثير من المآسي للقارة من احتلال وتقسيم واستنزاف لمواردها، لكن ثمن التخلص من إرث الاستعمار ومحو تبعاته كان بالمرصاد للدول الحديثة العهد بالاستقلال والساعية لبناء مستقبلها.

أهمية دراسة الحالة الرواندية:

- لا تقتصر على الدول الأفريقية فقط، بل هي تجربة إنسانية عالمية تستحق الوقوف عندها لاستخلاص الدروس واستشراف المستقبل على ضوء مجرياتها بسبب التقاطعات المركبة لاندلاع الحرب بها والتشابك بين الداخل والخارج، وكذا الصراعات المتفاقمة والأزمات المتنامية في إقليم منطقة البحيرات.

- اختلاف الحالة قيد الدراسة عن غيرها من الحالات الأفريقية المتعددةـ جنوب أفريقيا، والجزائر، والكوت ديفوار ـ لحداثتها من جهة ولفداحة الخسائر ولاندمال الجرح في ظرف وجيز.

- حيوية المصالحة الرواندية مقارنة بنظيراتها وحضورها الشعبي والدولي، وعمل حكوماتها المستمر على الجمع في الذاكرة الوطنية بين ثنائية ماضٍ مأساوي وتطلع لمستقبل مشرق. ففي الوقت الذي كانت جنوب أفريقيا تطوي صفحة الماضي مع الفصل العنصري، واستئناف مسيرتها قارياً ودولياً بصعود نجمها نيلسون مانديلا وإرساء نظام وطني جديد عبر تجربتها الخاصة، بدأت وقائع المأساة المباشرة.

ونطرح هنا التساؤلات التالية:

- كيف سقطت رواندا في الحرب الأهلية عام 1994؟

- كيف تصالحت مع نفسها؟

- ما الدروس المستفادة من تجربتها؟

وتستدعي معالجة الموضوع: المنهج التاريخي -الوصفي والتحليلي – لواقع اجتماعي سياسي مضطرب رسم مسار دولة ما بعد الاستقلال في المنطقة.

أولاً: الإرهاصات الأولية للحرب

عرفت حقبة التسعينيات تحولات دولية جذرية طالت الأنظمة السياسية الأفريقية، وكان مرتقباً على مستوى القارة ظهور تحول سياسي وانتقال ديمقراطي، وقد استطاعت دولة من دول البحيرات مثل بورندي مواكبة موجة التغيير، إلا أن غياب المتطلبات الاجتماعية الضرورية من تمكين سياسي “سيادة” ونخبة قيادية وطنية وسلطة عادلة وإرادة شعبية أدى إلى انتكاسة مدوية خلفت ارتدادات عنيفة.

وتكشف الحروب في منطقة البحيرات الغنية بالموارد عموماً، وفي رواندا خصوصاً عن الصراع على النفوذ والمواقع بين القوى الكبرى الدولية، إذ يحسب كاغامي على المعسكر الأمريكي، أما فرنسا فقد كانت إلى جانب النظام القائم عند اندلاع الحرب الأهلية، وأرسلت فرنسا، التي كانت حليفة لحكومة الهوتو، قوات لإنشاء منطقة آمنة. لكن وُجهت إليها اتهامات بأنها لم تبذل الجهد الكافي لوقف المذابح في تلك المنطقة.

ومن الملامح الجيوسياسية للإقليم أنه بؤرة لمعارك طاحنة أودت بحياة الآلاف من البشر في العِقْد الأخير من الألفية الثانية، ثم التفاوت الحاد بين حجم الوحدات السياسية وارتفاع النسبة الديموغرافية وحضور القوى الدولية مما يُخَلّف انعكاسات سياسية وأمنية مباشرة على المنطقة.

وابتدأ المسلسل الدموي الرواندي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي عام 1990 بانجرار الشعب إلى مواجهات مسلحة دامية. طرفاها الجبهة الوطنية الرواندية والحكومة الوطنية، لتتوصل إلى اتفاق أروشا للسلام عام 1993 برعاية منظمة الوحدة الأفريقية، لكن الاتفاق الهش ما لبث أن انهار بعد أقل من سنة بين الجانبين ما أدى إلى كارثة حقيقية بعد سقوط الطائرة التي أقلت الرئيسين جوفينال هابياريمانا وسيبريان نتارياميرا ومصرعهما، تجسدت في كثرة الضحايا الذين قدرت أعدادهم بنحو المليون نسمة، على الرغم من مساعي المنظمة الإقليمية لوقف إطلاق النار بين الطرفين.

وتضاربت الأقوال حول مَنْ قام بإسقاط الطائرة التي كان على متنها الرئيسين البوروندي والرواندي الجارين؛ فمنهم مَنْ يشير بأصابع الاتهام إلى الجبهة، ومنهم مَنْ يحمّل مسؤولية تصفية القيادتين إلى متطرفي الهوتو في الجيش الذين لم يرضوا ببنود اتفاقية أروشا للسلام التي أعطت الجبهة في نظرهم حقوقاً أكثر مما تستحق، وفيما بعد بيّـنت الأدلة بما لا يدع مجالاً للشك أن عناصر متطرفة من طائفة الهوتو التي تشكل الأغلبية كانت خلال محادثات السلام في واقع الأمر تخطط لشن حملة إبادة للتوتسي والهوتو المعتدلين.

أما في رواندا وبالتحديد في الأول من أكتوبر قامت الجبهة الوطنية الراوندية بشن هجوم – من أوغندا – ضد الجمهورية الثانية التي يترأسها الرئيس، جوفينال هافيارمانا، هذا الهجوم الذي صنع نقطة تحول كبيرة في تأريخ المنطقة، الأمر الذي حدا بالمحللين أن يعتبروه الخطوة الأولى للمشروع الجماعي الرامي إلى قلب المعادلة السياسية في منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا

نتجت الحرب الأهلية الرواندية عن عقود من مرارة الاحتقان الاجتماعي وتهميش أغلبية الهوتو وإقصائهم ما ألجأ الضحايا أخيراً إلى انتهاج التصفية بأنواعها كلها في حق أقلية التوتسي المتحكمة، كأبرز مؤشر على تصدع الكيان الاجتماعي والتعايش السلمي بين أكبر تجمعين قبليين على أرض الألف تل (رواندا).

على أن ما حصل في هذه الدولة هو إحدى نتائج العبث بالمنطق الجغرافي نتيجة التقسيم العشوائي للمنطقة بناء على المصالح الأجنبية من غير مراعاة الحقائق التاريخية والاجتماعية، وقلما تنجو دولة أفريقية من أثر جرح غائر بسبب مخلفات الاستعمار يكون على حساب استقرارها وتنميتها.

ففي عام 1920، أي قُبيل وصول المستعمرين البلجيكيين، كانت العرقيتان الروانديتان الرئيسيتان، “التوتسي والهوتو” تعيشان في سلام، إلا أن المستعمرين قاموا بزرع بذور الكراهية بين العرقيات المختلفة، من خلال إيثار قبائل التوتسي من منطلق فرضية التفوق العرقي ومن ثم، فإن التوترات والكراهية العرقية، التي تمَّ غَرسها على مر العقود أَفضت إلى المذبحة الرواندية البشعة في عام 1994، التي اأُطلق عليها الإبادة الجماعية.

كما هُيئ لهذا الصراع طغيان خطاب العنصرية والكراهية، الذي بلغ ذروته مع خطاب الإجرام والعدوان لتيونيست باغوسورا، رئيس لجنة الأزمات أثناء الإبادة، وتجلى في استمرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، واستولت أيديولوجية العنصرية والاستعلاء على قيادة البلاد متجاهلة مسؤولياتها تجاه شعبها، وعلى وسائل الإعلام التي كانت تُشعل العداوات عبر الإذاعة، وتحرم أبناء المجتمع من فرص التعايش السلمي، ووظفت زعامة الإبادة ممثلة في شخصية (Theoneste Bagosora) وعصابته الإجرامية ممتلكات الشعب ومقدراته كلها لتدمير البلاد مدفوعة بشهوة القتل وانتهاك الحرمات والأخلاق والقيم في أبشع صورها.

وفاقم كشف البطاقات الوطنية عن الانتماء العرقي من حجم مأساة التوتسي المستهدفين من متعصبي الهوتو، وتفادياً لما وقع حددت رؤية 2020 في مطلعها أن الانتماء الوطني يكون لهوية رواندية موحدة مع تجريم كل عنصرية ودعوة طائفية. وكان من تداعيات الصراع الإثني الرواندي الدخول في سلسلة من الحروب مع دول مجاورة، أعنفها ما كان في شرق كونغو كينشاسا انتهى بإسقاط نظام موبوتو العتيد، عرفت في الأدبيات السياسية بـ “الحروب الأفريقية العظمى 1998-2003” حيث تحالفت رواندا مع أنغولا وأوغندا في حرب ضد الرئيس موبوتو الذي لاذ أخيراً بالفرار وسقط عرشه، وبقي الكرّ والفرّ إلى نهاية الألفية، وظلت كيغالي محركاً أساسياً للحروب في المنطقة بعد فترة الإبادة الجماعية، إلى حين عقد اتفاق بريتوريا عام 2002 في جنوب أفريقيا لإنهاء أزمة الصراع بين دول البحيرات.

ثانياً: القيادة وصنع القرار

لم تنشأ الدولة الرواندية نشأة طبيعية، ففي عام 1959 أي قبل الاستقلال قامت قبيلة الهوتو أغلبية الشعب بثورة انتهت بإسقاط النظام الملكي “موامي” الذي دام عهوداً ثم ما أعقب ذلك من ممارسات وحشية ضد الأقلية، وأسس الهوتو أنظمة بعد الاستقلال تؤسس لمكافحة التوتسي وأجريت المجازر ضد التوتسي رداً على التهديدات المتصورة لقبضتهم على السلطة، وحرمت تلك الممارسات الشعب من تحقيق اندماج حقيقي طوال سنوات ما بعد الاستقلال، فتلاحقت الإخفاقات لتعود البلاد إلى ما قبل نقطة البداية.

زعامات الكراهية:

كان لأداء الرؤساء الاستبداديين عشية الاستقلال وما أعقبه بدءاً مع غويغوار كابيباندا وجوفينال هابياريمانا وتيودور سينديكوبوابو (1962 إلى 1994) أسوأ العواقب على مسيرة تطور الدولة الناشئة، ما ولّد على مر الأيام أزمات متتالية للمواطنين والأجيال الصاعدة، إذ حالت الدكتاتورية المرتكزة على العنصرية وإقصاء الآخر وضيق الأفق إلى انعدام الأمن والاستقرار الذي يمكن رصده في النزوح المتكرر وزعزعة الاستقرار وتنفيذ انقلاب عسكري، وقيام حركات مسلحة تطالب بحقها في السلطة.

ب) ـ بول كاغامي:

شغل مناصب سامية زَاوَجَ فيها بين الجانب السياسي والخبرة العسكرية قبل وصوله إلى الرئاسة، كما عُيّـن وزيراً للدفاع ونائباً للرئيس ما بين الأعوام من 1994 إلى 2000، وتم اختياره رئيساً للبلاد بعد استقالة سلفه باستير بيزيمونجو Pasteur Bizimungu من طرف البرلمان، وكان الاستفتاء على الدستور الجديد إيذاناً بانتهاء الفترة الانتقالية ومنذ إعادة انتخابه عام 2003 وهو يشكل حالة فريدة في أفريقيا المعاصرة، إذ إن غالبية الشعوب الأفريقية تطالب برحيل قادتها الذين أفنوا أعمارهم من أجل البقاء على كرسي الرئاسة بينما تكرس الإرادة الشعبية الرواندية بقاء كاغامي حاكماً شرعياً مدنياً منتخباً بأغلبية ساحقة، وغالباً ما يفوز في الانتخابات بأكثر من 90%، ويعد أول رئيس من قبيلة التوتسي يتولى رئاسة البلاد بعد الاستقلال.

وبموجب التعديل الدستوري عام 2015 الممهد لإجراء الانتخابات الرئاسية عام 2017، الذي سمح بإمكانية تمديد الفترة الرئاسية لولايتين مدة كل منهما سبعة أعوام، ما يفتح الباب للرئيس الحالي في البقاء على سدة الحكم إلى عام 2034، إن أراد، وقد وُصف الاستفتاء من قِبل بعض المعارضة بانتكاسة ديمقراطية.

ويمثل إجراء الانتخابات في سياسة الأمم المتحدة برضى الأطراف المتصارعة مرحلة حاسمة في مسار المصالحة والتوافقات السياسية ويفتح المجال أمام فترة جديدة من حياة الدولة.

ويُلاحَظ خفوت صوت المعارضة السياسية؛ من أمثال فرانك هابينزا، رئيس الحزب الديمقراطي الأخضر، ولعل السبب وراء ذلك إحساس المواطنين بأولوية بناء الوطن على الاعتبارات السياسية، والحاجة إلى تجاوز آثار الحرب وجروح الماضي، عوض الركون للتجاذبات السياسية أو بسبب تحكم كاغامي في شؤون الدولة، وقد أثبت من خلال ولاياته الرئاسية أن لديه رؤية إصلاحية لوطنه.

ويبقى كاغامي بمقياس الإنجازات شخصية وطنية تركت أثراً كبيراً في تاريخ بلادها المعاصر بدءاً بإنهاء الحرب عام 1994، بعد فشل المجتمع الدولي في وقف المجازر ضد التوتسي، ويعد من أبرز الوجوه السياسية والأمنية قبل الإبادة وبعدها، وتُعَنْوِن سيرته لدولة ما بعد الاستقلال وللمرحلة اللاحقة بأبعادها وتناقضاتها كلها، وأخيراً جعل من شعبه قوات لصنع التقدم وحفظه.

قاد بول كاغامي الجبهة الوطنية الرواندية، وقد عبّـرت من خلال نشأتها عن الإرهاصات والتحولات المقبلة مع النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكل والتمدد الذي كان من معالمه المزيد من الحقوق الفردية والجماعية، أهمها: هنا الدعوة لانفتاح سياسي ينهي القبضة الحديدية الأحادية على الشأن العام، ويعيد رسم المشهد السياسي المتعثر.

وتُظهر تسميتها تشبثها بالوطنية رغم سنوات الغربة والمواجهة مع السلطة الحاكمة، وفي عام 1988، أُنشئت الجبهة الوطنية الرواندية في كمبالا، في أوغندا، بوصفها حركة سياسية وعسكرية ذات أهداف معلنة تتمثل في تأمين عودة الروانديين المنفيين إلى الوطن وإعادة تشكيل الحكومة الرواندية، بما في ذلك تقاسم السلطة السياسية، وتألفت الجبهة الوطنية الرواندية بصفة رئيسية من التوتسي المنفيين في أوغندا، الذين سبق للكثيرين منهم أن خدموا في جيش المقاومة الوطنية التابع للرئيس يوري موسيفيني، الذي أسقط الحكومة الأوغندية السابقة في عام 1986. ومع أن صفوف الجبهة ضمت بعض الهوتو بالفعل، فإن غالبيتها، خاصة من يشغلون المناصب القيادية فيها، كانوا من لاجئي التوتسي.

وكان تأسيس الجبهة تأكيداً على الحاجة إلى التخلص من الاستبداد الذي فرضه النظام السياسي على قبيلة التوتسي بعدما يقرب من ثلاثة عقود على الاستقلال، في وقت لم يعد الوضع القائم قابلاً للاستمرار، لكن القيادة السياسية والعسكرية للبلاد يومئذ لم تدرك ضرورة التغيير.

ومما يجدر التذكير به أن العبء على كيغالي ظل مضاعفاً، فإلى جانب مخلفات حربها تعيش المشكلات الأفريقية المزمنة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولذا فإن ما يحصل فيها من انتقال من حرب إلى سلم ومن استبداد إلى حكم ديمقراطي ومن فساد إلى شفافية يعتبر محطة بارزة في تطور الدولة الأفريقية.

 ثالثاً: نصوص مرجعية

شكلت اتفاقية أروشا للسلام عام 1993 بين الحكومة والجبهةـ حتى بعد الحرب الأهلية ـ وكذا دستور عام 2003 المعدل عام 2015 والرؤية 2020 إطاراً للتعايش وبناء الدولة ورعاية الشأن العام والحفاظ على المصلحة العامة وصولاً إلى المصالحة الوطنية، وما تحقق من مكاسب سياسية واجتماعية مدين لهذه العهود الوطنية والإقليمية.

اتفاقية أروشا للسلام ومبدأ تقاسم السلطة

لم تكن التغيرات المرتقبة في القارة مع مطلع التسعينيات من تحول اجتماعي وسياسي و ديمقراطي عقب انتهاء الحرب الباردة بالشكل المأمول في دول البحيرات، وما مبدأ تقاسم السلطة والنفوذ الوارد في اتفاقية أروشا للسلام بين الفرقاء الروانديين إلا تجلياً لمنطق رياح التغيير، وظلت المشاركة السياسية مطلباً ملحاً في السياق الرواندي بسبب استبعاد فئة من الشعب عن الحكم منذ الاستقلال من جهة، ولفشل الآليات السياسية المستوردة في تنظيم المسيرة الوطنية من جهة أخرى.

وتمت بالفعل مراسم التوقيع على تقاسم السلطة في أروشا في الـ 30 من أكتوبر 1992 والـ 09 من يناير 1993، واعتبر هذا الإجراء مدخلاً سياسياً وحقوقياً واجتماعياً لتحقيق السلم والاستقرار، ولم يصدر ابتداء برضى من الحكومة أو المؤسسة العسكرية التي رأت في الاتفاقية تقويةً لسَاعِدِ المتمردين على حساب الدولة المركزية، وإنما بضغط خارجي.

على أن المشكلة الحقيقية في رواندا هي أزمة إدارة السلطة وتسيير الشأن العام بناء على مقتضيات شعار البلاد مع أول دستور صدر عام 1962: “الحرية – التضامن – التقدم” المادة الـ 4، وعام 2003: الوحدة – العمل – الوطنية في المادة الـ 6.

ب) الدستور:

ظل الهاجس الأساسي في هندسة الدستور بناء دولة مدنية بمواصفات عصرية، تضمن الحفاظ على حقوق الإنسان والتناوب السلمي على السلطة، وتجريم الدعاوى العنصرية والكراهية كلها، وتعمل في ظل المؤسسات العمومية إلى جانب تحقيق مصالحة تتبلور في وحدة وطنية.

ومن المتغيرات الأساسية في دستور ما بعد الإبادة تكريس العلمانية في صدارته بعد الديباجة، هذا في الوقت الذي لم تكن فيه دواعي الحرب دينية بالأساس إلى جانب الدور الإنساني والوطني الذي قام به المسلمون أثناء الحرب وقلل من الخسائر سواء كانت بشرية أو مادية.

ويكرس دستور رواندا إحدى وأربعين (41) مادة لإرساء حقوق الإنسان والحريات الأساسية وضمانها، والالتزام بإعمال هذه الحقوق الأساسية منصوص عليه في رؤية البلد 2020، والاستراتيجية الثانية للتنمية الاقتصادية والحد من الفقر (الاستراتيجية الثانية) اللتين تشكلان خط الأساس لجميع السياسات والبرامج الحكومية

وعلى هذا فإن دستور عام 2003 يشكل استمرارية لسابقه في عام 1962، ونلاحظه في اعتماد اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان عام 1999، وهي هيئة دستورية منصوص عليها في المادة 177، ومؤسسة مستقلة مسؤولة عن تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها في رواندا، واللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة في المادة 178، واللجنة الوطنية لمناهضة الإبادة في المادة 179، ومكتب أمين المظالم ومؤسسات دستورية أخرى للمحاسبة والشفافية والتي يتلخص دورها في إثبات حضور الدولة وهيبتها بعد الفشل والضمور وتفعيل الأجهزة الرقابية، والإضافة المرجوة هي تجسيد المضامين الدستورية في مختلف الميادين.

فيما ينزع الاتجاه الدستوري الأفريقي إلى تحديد مدد الولايات الرئاسية وتفعيلها واقعاً سياسياً، وهو ما سيفتح باباً للتناوب على السلطة وتبادل المواقع القيادية مما قد يخفف من حدة التشبث بالسلطة.

جـ) رؤية 2020:              

اعتمدت رؤية 2020 الرواندية على عملية إصلاح اقتصاد شامل، حيث تتقاطع رواندا في رؤيتها الإنمائية ذات الأبعاد المتعددة مع بعض الدول الأفريقية والعربيةـ وقد ارتكزت على ستة محاور متكاملة هي: حكم رشيد: دولة ذات سلطة وكفاءة، والتدبير الفعال للشؤون العامة، ورأس مال بشري مؤهل ما يعني اقتصاد قائم على المعرفة، وقطاع خاص نشط ديناميكي، وبنية تحتية نوعية زراعية ورعي معاصر، وتتخذ الرؤية من المدى القريب والمتوسط والبعيد إطاراً زمنياً لتنفيذها.

ويعمل الرئيس مع شركائه الدوليين لتحقيق الأهداف الإنمائية في بلاده ورؤيته 2020، والتنمية باعتبارها كسباً سياسياً قد تُكرس للرئيس المزيد من الشرعية السياسية.

د) اللجنة الوطنية للوحدة والمصالحة (CNUR)

مهدت اتفاقية أروشا للمصالحة واعتبرتها إجراءً أساسياً للاستقرار وتنمية البلاد وشرطاً لا غنى عنه لتعزيز الديمقراطية والسلم ودولة القانون والانسجام الوطني والتنمية الشاملة، ووسيلة للوحدة الوطنية، ومنها انبثقت فكرة لجنة المصالحة، وتم إنشاء اللجنة عام 1999 مع الجلسات التشاورية في قرية “أوروغورو”، وقد جعلت اللجنة من بين أهدافها كما جاء في المادة 178 من الدستور:

1 ـ تنسيق البرنامج الوطني للوحدة والمصالحة الوطنيتين.

2 ـ وضع الوسائل والسبل وتنميتها التي من شأنها إصلاح المصالحة والوحدة وتكريسهما بين الروانديين.

3 ـ تربية الشعب الرواندي وتوعيته على الوحدة والمصالحة الوطنية.

4 ـ إنجاز بحوث حول السلام والوحدة والمصالحة الوطنية.

5 ـ تقديم مقترحات حول أنجع الطرق “الممكنة” لإزالة الانقسام بين الروانديين وتقوية الوحدة والمصالحة الوطنية.

6 ـ تنديد ومحاربة كل فعل أو كتابة أو خطاب لنشر أي شكل من أشكال التمييز، ومحاربة عدم التسامح وكراهية الأجانب.

7 ـ تحرير تقرير سنوي عند الحاجة عن حالة الوحدة والمصالحة الوطنية.

وتبقى البصمة التي طبعت هذه الأهداف النظرية هي إنسانيتها وعدالتها وانفتاحها، وحضور البُعد العلمي كدعامة للمصالحة عبر القيام بدراسات ذات صلة بالوحدة والمصالحة ونشر المعلومة على نطاق واسع باللغتين الفرنسية والإنجليزية ضماناً لمعرفة الحقيقة وإسهاماً في المصالحة المرجوة، كما أن اللجنة أوجدت آليات للمصالحة، منها:

- برنامج تقريب وتوليف حول السلام والمصالحة.

- دعم المبادرات الموجهة للمجتمع وخاصة برامج مكافحة الفقر؛ وكذا دعم مبادرات النوادي والجمعيات لصالح المصالحة.

- تنظيم مؤتمرات وطنية (كل سنتين منذ عام 2000) تجمع المواطنين الروانديين لعرض نجاحات اللجنة واستقبال اقتراحات لصالح المصالحة.

- مساندة الاحتفالات المشتركة.

وباستقراء النماذج الأفريقية للمصالحة كما هي الحال مثلاً في بعض الدول الأفريقية كالجزائر وفي جنوب أفريقيا وسيراليون نجدها أكثر ميلاً وأشد حرصاً على الصفح والعفو بدل فتح ملفات الماضي من ملاحقة وقضاء وجزاء، لكن خبرة رواندا أفادت أن محاكمة الجناة ومقاضاتهم أسهمتا في تعبيد الطريق نحو المستقبل والاندماج الآمن، وهنا يظهر تأثير الآليات الغربية وتغليبها على حساب الإجراءات المحلية الأفريقية، لكن عجز الدولة عن تلبية احتياجاتها كافة قد يدفعها للرضوخ لإملاءات الجهات المانحة التي أصرت على المحاكمة وعدم الإفلات من العقاب، وإلغاء عقوبة الإعدام عام 2007.

ووظفت المصالحة آليات العدالة بأشكالها المختلفة التي تمثلت في:

أ) محاكم الغاكاكا:    

المحاكم الشعبية المعروفة بـاسم: الغاكاكا (Gacaca)، وهي المحاكم المحلية التي تولت محاكمة المتورطين في الحرب الأهلية على طول البلاد وعرضها، والتي تأسست عام 1999، وامتدت ولايتها ما بين الأعوام من 2002 إلى 2012 لمدة عقد من الزمان على التراب الوطني كله، وكان أمامها العديد من الملفات القضائية المأساوية التي تغطي فترة الحرب الأهلية ما بين الأعوام من 1990 إلى 1994، وقد حكمت فيما يقرب من مليوني حالة، وبرزت أهميتها في الكشف عن الحقيقة لتأتي المحاكمة بعدها ثم المصالحة التي تعني بناء حياة جديدة.

وقد لعبت هذه المحاكم دوراً حاسماً في الوصول إلى المصالحة كونها آلية فعالة في ظل قلة الإمكانيات وسرعتها والقبول بها شعبياً، ومن أبرز نجاحاتها عقدها جلسات حفظ الذاكرة، حيث استمعت لـ 8 آلاف حالة من الضحايا والجناة، فضلاً عن إقامة نصب تذكاري عند مقابر الضحايا، وإقرار المتهمين أمامها بالذنب، مقابل قبول الضحايا العفو والصفح، وقد لعب شيوخ القبائل والمشايخ التقليديين دوراً مهماً في هذا الشأن و كان لابتكار مؤسسة الوسطاء المحلية المعروفة بـاسم: أبونزي (ABUNZI) دور أساسي في تسوية حالات قائمة دون الحاجة إلى نظام العدالة الرسمي، وهو مؤشر إلى رغبة الشعب في المصالحة بأقل تكلفة.

ب) المحكمة الجنائية الدولية لرواندا:

تمثل محاكمة الجناة والضالعين في الجرائم مطلباً إنسانياً ومهدئاً اجتماعياً لتخفيف حدة الآلام عن الضحايا وامتصاص الغضب الشعبي ومواساة الجراح صوناً لكرامة الضحايا وجبراً لخواطرهم، ومن هنا أهمية المحاكمات، في فتح الباب نحو المستقبل لتأسيس تعايش مجتمعي وسلم اجتماعي يعيد اللُحمة الوطنية الممزقة.

وقد جاء إنشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا بقرار من مجلس الأمن رقم 955 لعام (1994) في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبرغبة من السلطة الوطنية التي توجهت بطلب إلى المجلس نفسه وبدعم قاري بهدف مقاضاة الانتهاكات الجسيمة من 1 يناير إلى 31 ديسمبر 1994، على أن تنهي كل أعمالها في أجل أقصاه 31 ديسمبر 2014. ولهذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة اختصاص بالنظر في انتهاكات حقوق الإنسان الدولية جميعها المرتكبة في رواندا خلال الفترة ما بين يناير وديسمبر من عام 1994، ولها القدرة على محاكمة كبار أعضاء الحكومة والقوات المسلحة الذين ربما يكونون قد هربوا إلى خارج البلد ويمكن بغير المحكمة أن يفلتوا من العقاب.

وقد انجرت العدالة الجنائية الدولية وراء حسابات سياسية وطنية ودولية؛ مما عاد سلباً على أدائها وشرعيتها لدى المواطنين، ومع فداحة الجرائم فإن عدد مَنْ حوكموا لا يوازي عدد الضحايا، إضافة إلى أن أقصى عقوباتها لم تتجاوز حد السجن مدى الحياة كما حصل مع مجرمَيْ الحرب جون كامابندا وجون بول أكايسو، فالعدالة لم تشمل كل المتورطين والضالعين في الأحداث الدامية.

وهنا كان دور القضاء الرواندي، بشقيه التقليدي والرسمي، الذي تكامل دوره مع المحكمة الجنائية، لكن سرعان ما استعاد القضاء الرسمي وضع يده على الملفات المتشعبة، مبدياً رغبته في أن تكون الأمور تحت سيطرته ولإثبات سيادته.

وبدأت الحكومة الرواندية في نهاية عام 1996 بإجراء المحاكمات التي طال انتظارها على جريمة الإبادة الجماعية، وكان هذا التأخير يرجع إلى أن البلد قد فقد معظم أفراده العاملين في القضاء، ناهيك عن تدمير المحاكم والسجون وغير ذلك من الهياكل الأساسية. وكان على الدولة أن تتوصل إلى حلول مبتكرة لمشكلات مستعصية، فاستلهمت رواندا من تاريخها الاجتماعي نظام العدالة للاستنجاد به في أحلك الظروف التي كانت تمر بها، وقد أثبت فعلاً جدواه وصلاحيته وفاعليته من قلة التكاليف والتعقيدات البيروقراطية. وقد ترتب على الإجراءات المذكورة بعض الإنجازات أهمها:

- الحفاظ على الوحدة الترابية: بعد الصراع الدامي وعدم وجود أي طرف سياسي ينادي بالانفصال عن السلطة المركزية، مما عدوه انتصاراً سياسياً واجتماعياً، فهو مؤشر على رضى الشعب بالاندماج والتعايش المشترك رغم جروح الماضي، ويدفع بتوجيه الجهود والمبادرات المجتمعية نحو إعادة إعمار الدولة.

- تحقيق الأمن للمواطنين: جعل من رواندا نموذجاً قارياً فريداً بإعادة إدماج حملة السلاح بمختلف أطيافهم في كتلة عسكرية موحدة مع إعادة تأهيلهم، بدءاً بمسلحي الجبهة والجيش الرواندي، ومن بين الخطوات ذات الأهمية البالغة القيام بالدورات التدريبية للتوعية في “مخيمات التضامن” (Ingando) كجزء من تسريحهم. تلك التدريبات غطت التاريخ الرواندي، والتربية المدنية، والوحدة الوطنية والمصالحة، ومجلس الحكماء، والتمويل الصغير والصحة العامة.

- اقتصادياً: تشهد البلاد في عهد الرئيس كاغامي تقدماً ملحوظاً إذ استطاعت أن تحقق في السنوات الأخيرة نمواً يصل إلى 10%، كما سجلت المرتبة الرابعة بين دول أفريقيا جنوب الصحراء حسب تقرير مؤشر مدركات الفساد عام 2018، حيث تعتبر محاربة الفساد أوسع بوابة لإصلاح الشأن العام الأفريقي الذي من خلاله يمكن تطوير الأداء الإداري والحكومي، ويساعد على إعادة توزيع الثروات بين فئات الشعب، والتقليل من احتمال التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي للبلاد.

- التعليم: يشكل التعليم إحدى الركائز الأساسية لتجاوز آلام الماضي وبناء مستقبل آمن يقي من ويلات الحروب ويضمن تماسك المجتمع، فهو استثمار في الأجيال الصاعدة، ويعتبر التعليم في رواندا حقاً بالمجان للأطفال طبقاً للمادة 34 من دستور عام 1962، حيث يتطلع الرئيس إلى أن تكون بلاده “سنغافورة أفريقيا”.

- حضور دبلوماسي فاعل: تبنّـت كيغالي بعد الحرب سياسة الانفتاح على دول العالم والدول الأفريقية من خلال الإجراءات التالية:

- دأب الرئيس كاغامي الحضور في الملتقيات الدولية والإقليمية، وسعى إلى تنويع الشراكات مع مختلف الأقطار والمنظمات والهيئات الدولية: كالبنك الدولي، والاتحاد الدولي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والصندوق القطري، والتفاعل مع الدوائر الجغرافية عبر المؤسسات الإقليمية والفرعية والاتفاقيات بما يضمن الخروج من العزلة الدولية والتعاون مع الوحدات السياسية؛ ولعل إنشاء اتفاقية التبادل الحر وتفعيلها في إطار الاندماج الأفريقي سيزيد من فرص التعاون بين الدول المجاورة لها بالخصوص، كمنظمة الكوميسا. وقد بنت تعاملها على أساس مبدأ التعاون والشراكة، فيما ساءت العلاقات الدبلوماسية بين كيغالي وباريس إلى أن وصل الأمر إلى قطعها في عام 2006 قبل استئنافها عام 2009، وانضمامها إلى دول الكومنولث منذ عام 2009، كما ترأست المنظمة الدولية للفرانكفونية.

- دخلت رواندا في تكتل ثلاثي مع كينيا وأوغندا أطلقت بموجبه الدول الثلاث تأشيرة سياحية موحدة تحت اسم “تأشيرة شرق أفريقيا” التي تتيح لحاملها التجوال بين الدول الثلاث مقابل 100 دولار أمريكي صالحة لمدة 90 يوماً على أن يتم معالجة الطلب إلكترونياً عن طريق الموقع المخصص للخدمة، أو بزيارة أي موقع إلكتروني من مواقع الهجرة والجوازات للدول الثلاث.

- مشاركة رواندا في قوات حفظ السلام تحت مظلة الأمم المتحدة، ويقدر عددها بالآلاف، وتأتي في المرتبة الخامسة بين دول العالم من هذه الناحية، كما أن العسكريين الروانديين من أفراد هذه القوات يتصفون بنشاط وانضباط عاليين وتوظف رواندا بشكل مباشر مشاركتها في عمليات حفظ السلام كآلية دبلوماسية بنجاح، كما تستخدمها كاستراتيجية لتقليص النفوذ الأجنبي، وقد بدأت رواندا مشاركتها في قوات حفظ السلام الأممية منذ عام 2004 في دارفور، ومنذ ذلك الحين فهي تُوسِع من دائرة مشاركاتها تحت مظلة الأمم المتحدة في العديد من الدول.

لكن كيغالي وإن خطت خطوات في بناء جبهة داخلية موحدة وحققت نتائج ملموسة فإن الأمر ليس كذلك مع كل جيرانها ولعل ما تقوم به يكون مقدمة لذلك، ثم إن جيوسياسية البحيرات العظمى تسمح لها بأن تكون حاضرة بقوة في المنطقة، وإن لم تكن ذات مساحة شاسعة وقوة ديموغرافية مقارنة بالكونغو بسبب عجز كينشاسا عن تأمين المتطلبات الجغرافية من حماية الحدود وفرض القانون وتلبية الاحتياجات الأساسية عبر بنية تحتية متطورة، مما يُخَلّف مناطق رخوة تجعل من رواندا المتطلعة للريادة فاعلاً رئيسياً وذات تأثير على مجريات الأمور.

الخاتمة:

تمتلك رواندا مفاتيح صناعة المستقبل لأجيالها الناشئة من أمن مستتب وتعليم نوعي بما في ذلك اللغة الإنجليزية والتكنولوجيا التي تبدأ مع التلاميذ في المدارس الابتدائية (جهاز محمول لكل تلميذ) وهي عناصر تتكامل فيما بينها لصنع حياة أرقى للمواطنين بعد تجاوز عتبات الموت المحققة، بيد أن السلام الحقيقي والشامل في المنطقة لن يتم إلا وفق خطة جماعية تستجيب لتطلعات الشعوب من الحرية والعدالة والأمان؛ وعبر تلك الدعائم الأساسية والجوهرية يمكن أن يشيد مشروع المصالحة السياسية الرواندية المتكاملة أفقياً وعمودياً.

وعلى ضوء ما سبق يمكن استخلاص بعض الدروس من التجربة الرواندية:

- على الرغم من استجداء كثير من الدول النامية في الغرب ومؤسساته لإنهاء الأزمات الداخلية فإن الصراع الرواندي أثبت قدرة الجوار وتأثير المحيط الجيوسياسي القريب على إنهاء الحرب وتسوية الخلافات والدخول في الحوار تمهيداً لمسلسل السلام، بقيادة قوات الجبهة الوطنية الرواندية بمساعدة أوغندية.

- أهمية إنشاء تجمع اجتماعي وثقافي يستوعب الإثنيات والعرقيات الممتدة العابرة للدول كما هي الحال في منطقة البحيرات الكبرى، ولعل هذا ما فطن له قادة البحيرات في الأعوام الأخيرة، ولن يكون حل مشكلة تلك الكتلة من الدول إلا حلاً شاملاً وجماعياً يتجاوز الدولة القطرية أو بمعنى آخر منطق التجزئة الاستعمارية، وتبقى الأواصر التي تجمع أبناء المنطقة أشد وأعمق من الحدود القائمة.

- من الصعوبة أن تنجز سياسة الرئيس كاغامي كل شيء، وستبقى العدالة ناقصة مالم يحاكم جميع المتورطين بما ذلك أعضاء جبهته، لكن سيذكر له التاريخ أنه وقف دون إبادة جنس بشري في أرضه حين عجز المجتمع الدولي عن ردع وثَنْيِ القتلة عن إجرامهم.

- تشترك المصالحة الرواندية مع مثيلاتها التاريخية حيث تتنازل شخصية محورية عن السلطةـ طوعاً أو كرهاً لصالح الطرف البديل الذي سيمثل بداية مرحلة جديدة من تاريخ الأمة، وهو ما حصل على سبيل المثال من باستير مع خلفه بول كاغامي.

- إن المبادرات من أي نوع كانت (فردية، أهلية، مؤسساتية، العمل الخيري/ القطاع الثالث) حاسمة في تطوير الشعوب والانتقال بها من طور إلى آخر أرقى وأفضل، وعليه لا بد من تشجيع القطاع الخاص والعمل الخيري والمبادرات الطوعية تداركاً للخلل وسداً للنقائص التي يخلفها عجز الحكومات عن القيام بدورها.