• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50
news-details
أبحاث

تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا على استقرار منطقة غرب البلقان حالة البوسنة والهرسك


مقدمة

تلقي تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا بظلال ثقيلة على مستقبل أبرز بؤر التوتر في منطقة شبه جزيرة البلقان، وفي مقدمتها قضية استقرار البوسنة والهرسك وأزمة كوسوفو. يأتي هذا على خلفية ازدياد منسوب التوتر في الفترة الأخيرة، في شمال كوسوفو الذي تقطنه أغلبية صربية وكاد يؤدي إلى اندلاع نزاع مسلح أواخر العام الماضي، على إثر حشد صربيا قواتها العسكرية على الحدود مع البلد الجار مبرِّرة تصرفها بواجب حماية الأقلية الصربية في مدينة ميترفويتسا-التابعة لدولة كوسوفو المستقلة منذ 2008. أما في البوسنة والهرسك، فقد شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا مستمرًّا في التصريحات الصادرة عن زعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، متضمنة تهديدات مباشرة بانفصال ريبوبليكا صربسكا. وكانت آخر تلك التهديدات بمناسبة احتفال صرب البوسنة بالذكرى الحادية والثلاثين لتأسيس "دولتهم" في التاسع من يناير/كانون الثاني عام 1992. وقد حضر الاحتفال، إلى جانب ضيوف أجانب، سفير روسيا في صربيا، إيغور كالابوخوف.

تشتعل بؤرتا التوتر في كوسوفو والبوسنة والهرسك، في ظل تصاعد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا وتشديد الغرب على ضرورة دعم كييف في التصدي لآلة الحرب الروسية أملًا في إلحاق الهزيمة ببوتين. ويجادل كثير من المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين بأنه من شأن الهزيمة المحتملة لروسيا في أوكرانيا أن تخفف التوتر في منطقة البلقان. فمن ناحية، ستكون موسكو حينها أضعف ولن تستطيع مواصلة دعمها لصربيا ولا لصرب البوسنة، ومن ناحية أخرى ستمثل هزيمة بوتين تحذيرًا قويًّا ورادعًا لتطلعات صربيا في كوسوفو وفي البوسنة والهرسك. أما انتصار روسيا في الحرب، فقد يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار في البلقان، وقد يبعث برسائل تشجع دولة صربيا، وكيان صرب البوسنة، على تنفيذ مخططاتهما في كوسوفو والبوسنة والهرسك.

البوسنة والهرسك: تحديات الحفاظ على الوحدة في إقليم مضطرب

لا يزال وضع دولة البوسنة والهرسك، الساعية إلى الحفاظ على وحدتها وحدودها الجغرافية المعترف بها دوليًّا، يمثل بؤرة التوتر الأكثر تعقيدًا في شبه جزيرة البلقان. يضاف إلى ذلك التوتر المستمر في كوسوفو والأوضاع غير المستقرة في جمهوريتي الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية، وما قد ينتج عنها من تداعيات أمنية خطيرة في حال اندلاع نزاع مسلح داخلي بين الكيان الصربي "ريبوبليكا صربسكا"، من ناحية وفيدرالية البوسنة والهرسك من ناحية أخرى؛ حيث لا تزال القضية تتفاعل بقوة صعودًا وخفوتًا بين الفينة والأخرى وتهدد أمن الإقليم عامة.

إن عودة قضية البوسنة والهرسك إلى صدارة الاهتمام، غذَّتها حرب روسيا على أوكرانيا فيما تسميه "عملية عسكرية خاصة". ويجد هذا الربط بين تفاعل الأزمة في البوسنة والهرسك وحرب روسيا على أوكرانيا تفسيره في الرغبة الروسية المتزايدة في زعزعة استقرار المنطقة من خلال دعم موقف دولة صربيا من كوسوفو، ودعم بلغراد وموسكو صرب البوسنة في مخططاتهم الانفصالية عن دولة البوسنة والهرسك. لا تسعى موسكو، من وراء ذلك إلى تحويل أنظار المجتمع الدولي عن حربها في أوكرانيا وحسب، بل أيضًا إلى خلق أزمة أمنية جديدة في أوروبا، وصولًا إلى محاولة شق الإجماع الغربي ضدها في مرحلة لاحقة. أما صربيا، فترى في ابتعاد كوسوفو عن دائرة نفوذها وتحقيق استقلالها الناجز وبناء دولة ديمقراطية تهديدًا مباشرًا لها كقوة إقليمية كبرى في البلقان، وبالتالي فهي تمسك بورقة مقايضة محتملة للأراضي وتقدم دعمًا كبيرًا لصرب البوسنة. من ناحيتهما، أكد كل من الاتحاد الأوروبي وواشنطن، رفضهما القاطع لخروج الأزمتين عن إطارهما وتحولهما إلى نزاع مسلح. وتلوحان تارة بالجزرة، المتمثلة في تسريع عضوية صربيا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتارة أخرى بعصا اللجوء إلى فرض عقوبات موجعة على بلغراد بهدف ردعها. وقد أرسلت في هذا السياق رسائل غير مباشرة إلى حكومة الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، بشأن بإمكانية تكرار عملية عسكرية ضد صربيا، بقيادة الناتو، كما حدث ما بين شهري مارس/آذار ويونيو/حزيران من العام 1999.

في ظل هذا الوضع غير المستقر واحتمالات تطور الأزمة إلى نزاع مسلح، تبحث سراييفو عن أفضل الحلول السياسية الممكنة لتجاوز الأزمة وتأكيد سيادتها على كامل أراضي البوسنة والهرسك، وعدم السماح بانفصال جزء منها. أما صربيا، فإن موقفها المتشدد قد يتغير إما نحو مزيد من التصلب أو إبداء تفهم أكثر لسعي البوسنة والهرسك لتأمين حدودها وتوحيد جزأيها وبناء دولة حديثة وديمقراطية تحترم حقوق كل شعوبها. يعتمد تغير الموقف الصربي على تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، من ناحية، وكذلك على تقدم مشروع عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي إبعادها عن ضغوط موسكو ومواقف المتشددين الصرب في الداخل.

في البوسنة، يعتمد تخفيف التوتر كثيرًا على الدعم المباشر وغير المباشر القادم من بلغراد وموسكو، وبدرجة أقل من كرواتيا، للطرف الصربي-البوسني. وسيكون لنتائج الحرب الروسية على أوكرانيا تداعياتها المباشرة على استقرار البوسنة والهرسك أو دخولها في دورة عنف جديدة سيكون لها تأثير كبير على منطقة البلقان والقارة الأوروبية بشكل عام. فكيف نقرأ تلك التداعيات؟ وما ملامح الإستراتيجية الروسية في منطقة البلقان؟

إستراتيجية روسيا وشركائها في البلقان: زعزعة الاستقرار الهش

بعد تجاوز الحرب الروسية على أوكرانيا عامها الأول، لا يزال السؤال الأكثر أهمية في منطقة البلقان، هو ما إذا كان صراع جديد سينشب في البوسنة والهرسك، حيث تتصاعد التوترات.

في مقارنة أولى بين الأزمة في البلقان والأزمة في أوكرانيا، يبدو واضحًا أن مصلحة روسيا الإستراتيجية تكمن في عدم السماح بالتوصل، في أي من هذه المناطق، إلى نتائج أو حلول مستقرة طويلة الأجل من قبيل بناء أنظمة ديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون والحد من الفساد والمحسوبية. فروسيا تعارض كل تحول محتمل من شأنه أن يؤدي إلى انضمام هذه المناطق إلى التحالفات الاقتصادية والسياسية والدفاعية الغربية. فمصلحة موسكو الحقيقية تتمثل في الإبقاء على التوترات وتغذيتها بشكل غير مباشر، وتوظيف النزاعات الإقليمية والحدودية والعرقية القائمة من أجل خلق نزاعات إقليمية وحدودية وعرقية جديدة. يضاف إلى ذلك الحفاظ على النزاعات المجمدة التي ستبقي على نفوذ موسكو فيها، مثلما هي الحال في أوروبا الشرقية ومنطقة القوقاز. ويُعد شبه جزيرة البلقان، وخاصة الجانب الغربي منه، مساحة جيوإستراتيجية بالغة الأهمية، حيث تتقاطع مصالح روسيا والغرب. وتمامًا مثل أوكرانيا والقوقاز، فإن دول غرب البلقان ليست جزءًا من البنية الأمنية أو المنظومة الاقتصادية والسياسية الغربية.

على الرغم من مرور نحو ثلاثين عامًا على نهاية الحرب في البوسنة والهرسك (1992-1995) فإن المنطقة لا تزال غير قادرة على التوصل إلى صيغة سياسية جامعة لمواجهة مآسي الماضي وبناء المصالحة والثقة الضروريين لبناء دولة حديثة. ولا تزال في حالة اضطرابات وتوترات عرقية ودينية مستمرة تعرقل مسيرتها نحو إرساء حكم ديمقراطي مستقر يمنع التدخل في شؤونها الداخلية واستغلال حالة عدم اليقين القائمة لنشر الفوضى داخل المؤسسات وشحن المجتمعات العرقية والدينية المتباينة تمهيدًا لإسقاط الدولة وإفشالها. هنا تستخدم موسكو الروابط اللغوية والثقافية والدينية، التي تربطها أساسًا بالشعب الصربي لتعزز حضورها الإعلامي والثقافي والديني والاستخباراتي، وبالتالي تزيد من تأثيرها في غرب البلقان، وفي الدول السلافية الأخرى مثل كرواتيا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا. في هذا السياق، تنشط وسائل الإعلام الروسية والموالية لموسكو، مثل "سبوتنيك" و "آر تي" و "إن 4" وغيرها في كل من صربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك، منذ عام 2012. وقد حققت تلك المؤسسات الإعلامية نجاحات ملحوظة في ترسيخ رواية معادية للغرب، واستطاع مهندسو التأثير الإعلامي الروس، أيضًا، جعل عدد من الفاعلين السياسيين المحليين متحدثين باسم الكرملين ومدافعين عن مصالح روسيا في بلدانهم.

بعد سنوات من السعي لخلق مناخ ثقافي وسياسي مساند لها، حاولت موسكو أيضًا عرقلة انضمام كل من صربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، وتقويض التقدم الديمقراطي الذي شهدته بلدان المنطقة. وتعد محاولة الانقلاب في الجبل الأسود يوم إجراء الانتخابات في العام 2016، والمحاولة الانقلابية في مقدونيا الشمالية في 2017 مثالين على ذلك. ولا يقتصر الخوف من تقويض موسكو لأي تقدم قد تحرزه البلدان الخاضعة للنفوذ الروسي، أو التي لم تلتحق بعد بعضوية الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، على الجوار المباشر لروسيا، بل ينطبق أيضًا على بلدان منطقة غرب البلقان؛ حيث يُتوقع أن يتراجع نفوذها بمجرد رحيل الحكومات الموالية لها.

بلغراد وموسكو شريكان في تهديد استقرار البوسنة والمنطقة

على إثر فوز الرئيس الديمقراطي، بايدن، في الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان التقييم المشترك للنظامين في بلغراد وموسكو يفترض أن تبدأ الخارجية الأميركية بالعمل على تسوية قضية كوسوفو، ومن ثم حث باقي بلدان غرب البلقان على تبني النموذج الديمقراطي الغربي. لذلك رأى صنَّاع القرار في بلغراد وموسكو أن ثمة حاجة ضرورية لبذل جهد مشترك لمعارضة أي تأثير محتمل قد يظهر على الشعوب والأنظمة السياسية في المنطقة. في هذا الإطار، عُقدت سلسلة من الاجتماعات في العام 2021 بين سكرتير مجلس الأمن في الاتحاد الروسي، نيكولاي بلاتونوفيتش باتروشيف، ووزير الداخلية الصربي، ألكسندر فولين، انتهت بالتوقيع على اتفاقية شراكة إستراتيجية بين البلدين. وتفيد بعض المصادر أن روسيا وصربيا شكَّلتا في سرية تامة "مجموعة عمل لمكافحة الثورات الملونة"، مهمتها منع المظاهرات الجماهيرية، والمراقبة المستمرة لنشطاء المعارضة والمنظمات غير الحكومية والصحفيين المستقلين، سواء أكانوا من صربيا أم من روسيا أم من شرق وجنوب شرق أوروبا، وتبادل المعلومات بينهما. وكانت أولى ثمرات ذلك الاتفاق قضية التجسس على نشطاء المعارضة الروسية في بلغراد التي كُشف عنها من قبل أجهزة المخابرات الصربية وإرسال البيانات التي تم جمعها إلى الكرملين.

توظيف الكنيسة الأرثوذكسية والنزاعات الإثنية لدعم السرديتين الروسية والصربية

ثمة أيضًا بُعد آخر للشراكة بين موسكو وبلغراد في السعي للتأثير ونشر نفوذهما في البلدان الأرثوذكسية، أو التي توجد فيها أقليات من الإثنية الروسية أو الصربية، ألا وهو صناعة وتوظيف النزاعات العرقية والصراعات المجمدة. وهذا من أوجه التشابه الأخرى بين الدور الروسي في أوروبا الشرقية والقوقاز من جهة، ودورها في غرب البلقان من جهة أخرى. بشكل عام، يُظهر نهج روسيا تجاه البلدان الواقعة ضمن الفضاء الجيوسياسي ما بعد الاتحاد السوفيتي امتعاضًا واضحًا مما تدَّعيه بشأن إساءة معاملة الأقلية الروسية، أو استغلال النزاعات العرقية التي توسطت فيها موسكو وشاركت فيها بشكل أساسي عبر إنشاء مناطق انفصالية، أو ذات استقلالية مُعلنة، داخل دول الاتحاد السوفيتي السابق، مثل ترانسنيستريا، وأوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، وناغورني قرةباغ، ودونيتسك، ولوغانسك. ومع صعود قوة روسيا ونفوذها بشكل متزايد، قرر الكرملين الاعتراف بهذه الكيانات الانفصالية على أنها "دول مستقلة"، وبالتالي إعاقة محاولات التسوية الداخلية والمبادرات الخارجية في البلدان التي تخضع فيها هذه الكيانات للحماية الدولية.

وعلى غرار روسيا، ومباشرة بعيد انهيار يوغسلافيا السابقة وتفككها إلى بلدان مستقلة، بادرت بلغراد إلى استغلال "المسألة الوطنية الصربية" وادَّعت تعرض الصرب لخطر محدق متخذة ذلك ذريعة لشرعنة عدوانها المسلح على جمهوريتي كرواتيا والبوسنة والهرسك، وإنشاء كيانات خارجة عن القانون، تدعي النقاء العرقي، مثل كيان ريبوبليكا صربسكا، المعترف به دوليًّا جزءًا لا يتجزأ من دولة البوسنة والهرسك. غير أن صنَّاع القرار في الكيان الصربي، الذي كان نتيجة مباشرة لعمليات التطهير العرقي وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات شبه النظامية الصربية في البوسنة والهرسك وصدرت في حق بعض مرتكبيها أحكام قضائية بالسجن من قبل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، يحرصون في كل مناسبة على إعاقة تنفيذ الإصلاحات الرئيسية ويحاولون منع أي مساع جدية لربط مستقبل للبوسنة والهرسك بالمنظومة الأورو-أطلسية، وبالتالي تمديد تجميد الصراع بحكم الأمر الواقع.

لتأبيد هذا الواقع، يسعى رئيس كيان ريبوبليكا صربسكا، ميلوراد دوديك، بدعم مباشر من موسكو وبلغراد، إلى افتعال الأزمات التي من شأنها تبرير انفصال "ريبوبليكا صربسكا" عن البوسنة والهرسك وجعله يبدو وكأنه مسألة ضرورية ومطلوبة ومقبولة دوليًّا. وهكذا لم يدخر دوديك وحزبه الحاكم أي جهد في دعم التوجهات الانفصالية واتباع نفس السياسة الصربية التي انتهجتها في بداية تسعينات القرن الماضي، وبالتالي عرقلة انضمام البوسنة والهرسك إلى حلف الناتو وتهديد وجود البوسنة والهرسك كدولة موحدة ذات سيادة.

من جانبها، تمارس روسيا، منذ بداية العشرية الثانية لهذا القرن، نفوذًا على المجتمعات العرقية في بلدان منطقة غرب البلقان عبر أدوات "القوة الناعمة". فقد انتشرت في المنطقة عدة مؤسسات ومراكز ثقافية مثل المنزل الروسي في بلغراد والمركز الثقافي الروسي في بانيا لوكا، عاصمة ريبوبليكا صربسكا، بالإضافة إلى منازل صربية في بودغوريتسا، عاصمة الجبل الأسود. وهكذا تمددت مشاريع توسيع النفوذ الروسي عبر بناء "القرى الروسية" والمراكز الدينية الأرثوذكسية الصربية-الروسية وشراء وتأسيس عدد من وسائل الإعلام، وتأسيس أحزاب موالية لروسيا، ودعمها عبر كل الطرق لدخول البرلمانات. ومع مرور الوقت، نمت "القوة الناعمة" الروسية دون عوائق، وأصبحت أكثر تجذرًا في صربيا والجبل الأسود وكيان ريبوبليكا صربسكا، وباتت تتصرف كشبكة متخفية وراء وكلاء محليين، تعتمد العنف والإكراه تجاه معارضيها. ومن الوكلاء نجد الفروع المحلية لمجموعة سائقي السيارات "الذئاب الليلية"، والجمعيات الشقيقة الصربية-الروسية في ريبوبليكا صربسكا، والأخويات النذرية التي تحتكرها كنيسة صربيا في أديرة الجبل الأسود،

والجماعات اليمينية مثل "الشرف الصربي"، وغيرها من المنظمات الصربية المخضرمة والمعسكرات الدينية الصربية-الروسية شديدة التطرف، ومعسكرات تدريب الأطفال والشباب في ساحات الخطوط الأمامية بين صربيا وجمهورية صربسكا والجبل الأسود. وتلعب هذه المنظمات والجماعات أدوارًا فعالة في التأثير على الرأي العام لصالح السردية الصربية خاصة ضمن الأقليات الصربية التي تقطن جمهوريتي الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وجزءًا من دولة البوسنة والهرسك. ولا يُستبعد أن تنجح الجهود المتواصلة التي تبذلها النخب السياسية والدينية الصربية، وفي مقدمتها كنيسة صربيا، الأكثر شبهًا ببطريركية موسكو من حيث النشاط السياسي والقناعات الأيديولوجية والأهداف، في إقناع غالبية السكان من ذوي الأصول العرقية الصربية، في جمهوريات الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية والبوسنة والهرسك أن حقوقهم -بوصفهم صربًا- معتدى عليها، وأنهم أصل سكان منطقة غرب البلقان بأكملها. وتروج تلك الحملات الدعائية، أيضًا، سردية تقول: إن سكان الجبل الأسود والسكان البوشناق أو البوسنيين في البوسنة والهرسك ليسوا سوى شعوب "مخترعة"، وإن البوسنة والهرسك والجبل الأسود ليستا دولتين حقيقيتين وإنما هما "زائفتان" و"مصطنعتان". ولا تختلف هذه الدعاية عن الدعاية الروسية التي تنفي صفة الدولة عن أوكرانيا، وصفة الشعب عن الأوكرانيين.

لتحقيق أهدافها في البوسنة والهرسك، تستخدم روسيا سياسة مزدوجة عبر قناتين اثنتين؛ فهي من ناحية، تدعم الوكلاء المحليين الإثنو- قوميين، الذين يوظفون آليات مختلفة في دستور البوسنة والهرسك لاستخدام حق النقض ضد القرارات التي لا تقبلها روسيا، ومن أهمها رفض موسكو توجه البوسنة لنيل عضوية الناتو. ونجد في مقدمة وكلاء روسيا في جمهورية البوسنة والهرسك الزعماء السياسيين في ريبوبليكا صربسكا، الذين لم ينفكوا عن بذل كل الجهود الممكنة لتقويض مؤسسات الدولة البوسنية والدعوة لانفصال كيانهم. ويتزعم الرئيس الحالي للكيان الصربي في البوسنة، ميلوراد دوديك، هذا النهج الداعم لسياسات ومصالح روسيا. فهو، إلى جانب معارضته لانضمام البوسنة إلى حلف الناتو، يرفض تنفيذ العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا. وقد استخدم دوديك حق النقض لمنع رئاسة البوسنة، في مناسبات عديدة، من المصادقة على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلقة بمطالبة روسيا بسحب قواتها العسكرية من شبه جزيرة القرم وإنهاء احتلالها للأراضي الأوكرانية. كما نجح ميلوراد دوديك وحزبه، تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين، طيلة مرحلة ما بعد الحرب وبدعم روسي واضح، في إفشال اعتماد كل مشاريع الإصلاح التي من شأنها تعزيز قدرات المؤسسات الرسمية للدولة البوسنية في إدخال التعديلات الضرورية التي يشترطها كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لانضمام دولة البوسنة والهرسك إليهما.

من جانبه، يعمل الاتحاد الديمقراطي الكرواتي القومي، بزعامة دراغان تشوفيتش، على دعم المصالح الروسية، مع أن الحزب يدعم "رسميًّا" انضمام البوسنة إلى حلف الناتو. في هذا السياق، من المهم لروسيا أن يستمر الاتحاد الديمقراطي الكرواتي في البوسنة والهرسك في معارضته لمشاريع التغييرات الدستورية الضرورية لتبسيط إجراءات التصويت والسماح للبوسنة بالمضي قدمًا في مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، صوَّت أغلب ممثلي الاتحاد الديمقراطي الكرواتي في البوسنة والهرسك، إلى جانب مندوبين من ريبوبليكا صربسكا، ضد تبني دولة البوسنة والهرسك فرض حزمة العقوبات الأوروبية على روسيا في الغرفة العليا للبرلمان البوسني.

أما القناة الثانية للتأثير السياسي الروسي فتكمن في معارضة سياستي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في المنتديات متعددة الأطراف، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس تنفيذ السلام. ففي مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يمكن لروسيا استخدام حق النقض ضد التمديد السنوي لمهمة قوات تنفيذ الاستقرار "يوفور-ألثيا" في البوسنة والهرسك، وهو التهديد الذي تستخدمه حكومة ريبوبليكا صربسكا ورقة مساومة للحصول على تنازلات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن قضايا أخرى. على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، هددت روسيا بمنع التجديد السنوي لقوة تنفيذ السلام في حال قدم الممثل السامي في البوسنة والهرسك، الألماني كريستيان شميدت، إحاطة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن عرقلة صرب البوسنة جهود بناء الدولة. وقد نتج عن ذلك التوصل إلى حل وسط مدَّد فيه مجلس الأمن تفويض قوة الاتحاد الأوروبي لمدة عام آخر. لكنه، في المقابل، ألغى جميع الإشارات إلى مكتب الممثل السامي في نص قرار بشأن البوسنة، وهو تنازل واضح لفائدة الكرملين.

يشرف مجلس تنفيذ السلام على مكتب الممثل السامي في البوسنة والهرسك، ومن الناحية النظرية، يتمتع الأخير بسلطة فرض التشريعات وتنحية القيادات السياسية المحلية التي تعيق السلام وتعرقل السير العادي لمؤسسات الدولة من مناصبهم. وقد اعتمدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تقليديًّا على مكتب الممثل السامي لتحسين أداء الحكومة المركزية في البوسنة وآليات صنع القرار فيها. ومع ذلك، عادة ما تعارض روسيا مثل تلك المبادرات، وقد سحبت تدريجيًّا دعمها لجهود مجلس تنفيذ السلام لتعزيز سيادة البوسنة وسلامتها الإقليمية. وبين عامي 2017-2022، عارضت روسيا قرارًا ملزمًا صادرًا عن المجلس لا يعطي ريبوبليكا صربسكا الحق في الانفصال، كما شككت في شرعية الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ضد زعماء وقيادات عسكرية من صرب البوسنة. واعترضت أيضًا على تصريحات المجلس الداعمة للمحكمة الدستورية في البوسنة وقضاتها، ثم قاطعت المجلس في تحد واضح لقراره بتأييد تعيين الممثل السامي، كريستيان شميدت. في هذا السياق، فإن غاية روسيا النهائية هي إغلاق مكتب الممثل السامي وخروج جميع المسؤولين الغربيين من مؤسسات البوسنة، مثل القضاة الأوروبيين الثلاثة في المحكمة الدستورية البوسنية.

أما فيما يتعلق بالرأي العام البوسني حول الدورين، الروسي من جهة، والغربي من جهة ثانية، فيعكس اصطفافًا متباينًا؛ إذ يعبِّر أبناء المجتمعات العرقية الدينية الرئيسية الثلاث في البوسنة (البوشناق /المسلمون، والصرب البوسنيون، والكروات البوسنيون) عن مواقف مختلفة بشكل ملحوظ تجاه روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقد وجد استطلاع للرأي، أجراه المعهد الجمهوري الدولي عام 2022، أن89 % من صرب البوسنة لديهم نظرة إيجابية لدور روسيا في البوسنة، مقارنة بـ39% من الكروات البوسنيين و27% فقط من البوشناق. أما تصورات صرب البوسنة فتتوافق بشكل وثيق مع الرأي العام في صربيا؛ حيث عبَّر 92% من المستجوَبين عن وجهة نظر إيجابية تجاه روسيا.

شبح التهديد العسكري واحتمالاته

يعد تهديد صربيا بالتصعيد العسكري ومراكمتها مختلف أنواع الأسلحة، بالإضافة إلى التعاون العسكري التقني والأمني المكثف بين بلغراد وموسكو، تكتيكًا صربيًّا-روسيًّا مشتركًا لزعزعة الاستقرار الهش، أصلًا، في منطقة البلقان. في هذا السياق، تضاعفت وتيرة تسليح وتحديث الجيش والشرطة الصربية عدة مرات خلال السنوات الخمس الماضية. وتستورد صربيا سلاحها بدرجة أولى من ترسانات الصناعة العسكرية الروسية والصينية، التي أنفقت عليها صربيا أكثر من أربعة مليارات دولار. وكان الرئيس الصربي قد

صرَّح، في خضم تصاعد الأزمة مع كوسوفو، بأن بلاده أصبحت قوة كبرى بعد أن بات جيشها مسلحًا عشر مرات أكثر مما كان عليه من قبل. ووفقًا لموقع جيوبوست (GeoPost) تمثل صربيا مركز تجنيد لتشكيلات المرتزقة المنخرطين في العديد من ساحات القتال حول العالم دفاعًا عن المصالح الروسية. وقد أثبتت صربيا، في نهاية العام الماضي (2022)، أثناء تصاعد التوتر بينها وبين كوسوفو في مدينة ميتروفيتسا التي تقطنها غالبية صربية، استعدادها لحشد قواتها العسكرية والشرطية والتهديد الوشيك باللجوء إلى القوة لحسم النزاع.

هكذا، قدمت صربيا نفسها منصةً روسية رئيسية في منطقة غرب البلقان ذات الأهمية الإستراتيجية لحوض البحر الأسود، وإسفينًا بين الجناحين الدفاعيين، الشرقي والجنوبي، لحلف الناتو. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن صربيا تدمج وتُكيف بشكل متزايد العقيدة الروسية في سياستها الخارجية مع المنطقة. فمثل روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، لم تتخل صربيا، في حدود قدراتها المتواضعة، عن نفوذها في دول ما بعد يوغوسلافيا. ويُعد استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها أداة رئيسية لزيادة نفوذ وتأثير كلا البلدين.

تجدر الإشارة هنا إلى التعاون ثلاثي الأبعاد بين روسيا وصربيا من جهة، وروسيا وريبوبليكا صربسكا من جهة ثانية، وصربيا وريبوبليكا صربسكا من جهة ثالثة. ويتجلى ذلك التعاون الوثيق في مجال الدفاع والأمن، وفي مجال الطاقة والاقتصاد بشكل أقل، وعلى مستوى العمليات الاستخباراتية الهجينة المشتركة في شبه جزيرة البلقان، وعلى مستوى دمج ما يُسمى "العالم الصربي" ومبادرة "البلقان المفتوح" في "العالم الروسي"، الذي يعني خلق مجال نفوذ قائم أساسًا على الانتماء العرقي والديني للمواطنين الموزعين في دول المنطقة. وبناء على السلوك الصربي في كوسوفو، وعلى نوع التحالف القائم بين روسيا وصربيا وريبوبليكا صربسكا، فلا يُستبعد لجوء صربيا أو ريبوبليكا صربسكا إلى العمل العسكري، في حال تصاعد التوتر أو نشوب نزاع مسلح، ولا يُستبعد في الوقت ذاته دعم موسكو لحلفائها في هذه الحال. وقد أكد السفير الروسي في بلغراد، ألكسندر بوتسان-هارتشنك هذا الاحتمال، عندما صرح بأنه في حال نشوب نزاع مسلح في البلقان، فإنه يمكن لألكسندر فوتشيتش وميلوراد دوديك الاعتماد على دعم روسيا بكل الوسائل. وقد يكون الدعم الروسي لبلغراد عبر توفير الأسلحة والمعدات العسكرية وتدريب الوحدات شبه العسكرية، بل وحتى إرسال عناصر من قوات فاغنر إلى صربيا أو جمهورية صربسكا. ولا شك في أن هذا السيناريو يثير مخاوف البوسنيين والغربيين عمومًا، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو، الذين لم يخفوا احتمال تعرض البوسنة والهرسك لتهديد عسكري.

من ناحية أخرى، لا يُخفي نظام ألكسندر فوتشيتش في بلغراد خشيته من احتمالات فشل الحرب الروسية على أوكرانيا. فما جرى تصويره في البداية على أنه "عملية عسكرية خاصة" وخاطفة تستهدف "النظام النازي" في كييف تحول إلى حرب استنزاف قد يطول أمدها. ويبدو أن الخسائر التي تكبدتها القوات الروسية في الأرواح والعتاد، وصمود المقاومة الأوكرانية، وما رافق ذلك من فرض عقوبات غربية قاسية على الاقتصاد الروسي، كبح صربيا وريبوبليكا صربسكا عن تنفيذ مخططاتهما في البوسنة والهرسك.

وأيًّا كان الاتجاه الذي ستسلكه الحرب الدائرة في أوكرانيا في الأيام القادمة، فإن تداعياتها على منطقة غرب البلقان ستكون جلية. ومن الجدير بالذكر أن روسيا كان لها منصتان لإطلاق حملتها العسكرية على أوكرانيا، هما دونباس وشبه جزيرة القرم، بينما لديها خمس منصات محتملة لإثارة صراعات بين الأعراق والدول في البلقان، وهي صربيا وريبوبليكا صربسكا وغرب الهرسك وشمال كوسوفو وشمال الجبل الأسود. فلو نجحت موسكو في السيطرة على كييف وإخضاعها والإطاحة بنظام زيلينسكي، لن يتردد نظاما بلغراد وبانيا لوكا في دفع أزمات المنطقة إلى أقصاها، وربما ينظمان استفتاء في جمهورية صربسكا بشأن الانفصال عن البوسنة والهرسك، وفي الجبل الأسود بشأن مغادرة الناتو. في الأثناء، يستمر حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في تعزيز وجودهما العسكري في البوسنة والهرسك وما حولها وبدء مهام المراقبة الجوية في كامل منطقة غرب البلقان، باستثناء صربيا.