• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
ملفات

هندسة اللعب على الحبال في السياسة الخارجية التركية


اعتمدت تركيا تاريخيًّا سياسة توازن بين الغرب والشرق في علاقاتها الخارجيّة، لكنها في عهد الجمهوريّة ومع احتدام الصراع بين الاتحاد السوفياتي والمحور الغربي انضوت في صفوف الأخير، في محاولة للتهرّب من الصراع مع قوى النظام الاستعماري بعد انحلال الدّولة العثمانيّة، لكن بعد رفض انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أعادت تركيا النظر في علاقاتها الخارجيّة، ولا سيما الاقتصاديّة مع دول المعسكر الشرقي وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي، وهكذا دوزنت سياساتها لتوازن بين المعسكرين الشرقي والغربي دون الانضواء التام في أحدٍ منهما.

يشرح كتاب "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" لمؤلفه أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية التركي السابق، التراث السياسي التركي ويُظهر تباين السياسات التركية في العلاقات الخارجية مع اختلال العهود الحاكمة.

وفق الكتاب، تمتلك تركيا خصائص فريدة على المستوى الإقليمي وغير الإقليمي، إذ إنها ليست جزءًا من الأنظمة المتحكّمة في البنية الدوليّة، كما أنها ليست من مجموعة الدول التي حوّلتها هذه المرحلة الإمبرياليّة إلى مستعمرات.

كانت تركيا البنية السياسيّة الوحيدة في المنطقة، والتي شكّلت حاكميّة سياسيّة في مقابل أوروبا، وهذه الحاكميّة المسيطرة التي شكّلتها الدولة العثمانيّة قد أثّرت بشكلٍ مباشر على عمليّة انهيار البنية الإقطاعيّة في أوروبا، كما أنها أجبرت أوروبا على الانفتاح على العالم من أجل اكتشاف طرق تجارية جديدة.

عمل السلطان عبد الحميد الثاني على ترسيخ سياسة التوازن من خلال دبلوماسية دقيقة ومرنة وحاول تكوين مساحة تأثير تتحقق فيها مصالح دولته، أو ما يسمى بـ "الحديقة الخلفية" (Hinterland)، والتي تتمثل في المسلمين الذين يعيشون تحت الاستعمار خارج حدود الدولة العثمانية.

وفي عهد الجمهورية، ارتكزت السياسة الخارجيّة التركية على عنصرين أساسيين: الأول: تبني استراتيجيّة الدفاع عن الحدود القومية والدولة الوطنية بدلاً من الاستراتيجية ذات البعد الدولي. الثاني: أن تكون الدولة التركية جزءًا من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة أو معارضة له. وجدت وجهة النظر هذه تعبيراً لها في المبدأ الذي طرحه أتاتورك بقوله: "سلام في الوطن وسلام في العالم". وتُظهر هذه الفكرة توجها سلمياً في حفل العلاقات الدولية، إضافة إلى إنها تبرز موقفاً واقعياً لسياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي الذي وصل فيه الاستعمار إلى ذروته، وتتهرب من الصراع مع قوى النظام الاستعماري، الذي أدى إلى انحلال الدولة العثمانية، ومحاولة تحديد وضع دولي جديد فوق أنقاض هذه الدولة.

وهكذا كانت السياسة التركية الخارجية تابعة لمقياسين هامين لفترة طويلة الأول هو البقاء تحت المظلة الأمنية الغربية في مواجهة تهديدات السوفيات بالإضافة إلى ارتهان الساحة الدبلوماسية الموجودة في المظلة الأمنية المذكورة للمشاكل مع اليونان التي تقع تحت المظلة نفسها.

وأما القرار الاستراتيجي الهام الذي اتخذته تركيا بتقديمها طلباً للانضمام إلى المجموعة الأوروبية، فهو ناتج عن القلق من بقائها متأخرة عن اليونان التي تمثل دولة خصماً لها داخل المعسكر السياسي نفسه. لقد تلقت الرؤية السياسية التركية ببعديها هذين ضربة قوية من خلال رسالة الرئيس (جونسون) الشهيرة، أولاً، والأزمة القبرصية، ثانياً.

أدّت رسالة (جونسون) إلى قيام تركيا بإعادة النظر في علاقاتها، ولا سيما الاقتصادية مع دول المعسكر الشرقي وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي. إن الشعور بالعزلة الذي عاشته تركيا سيما على منابر الأمم المتحدة فيما يخص المشكلة القبرصية، هي الفاتورة التي دفعتها تركيا بسبب إهمالها للممثلين الجدد الذين ظهروا في حقبة الثورات ضد الاستعمار وبذلك تشكلت الرؤية التي ترى ضرورة الانفتاح على المناطق والدول الموجودة خارج التأثير المباشر لنظام القطبين، وفي مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامي.

إذا نظرنا من زاوية التراكم التاريخي، نرى أن تركيا تمتلك خصائص فريدة على المستوى الإقليمي وغير الإقليمي. وقد نتج ذلك عن تلاقي أنواع العلاقات التي طبعتها عبر التاريخ مع الأنظمة المتحكمة في البنية الدولية؛ إذ إن تركيا ليست جزءًا من الأنظمة المتحكّمة تلك، كما أنها ليست كذلك من مجموعة الدول التي حوّلتها هذه المرحلة الإمبرياليّة إلى مستعمرات. ليست تركيا كأي دولة قوميّة ظهرت على السّاحة من خلال تطوّرات الأوضاع السياسيّة، بل هي نتاج لحضارة حاكمة شكّلتها منظومة عالميّة وميراث وأنظمة تاريخيّة استمرت قرونًا عديدة.

وحتى نستطيع أن نعرف وضع تركيا الإيجابي والسلبي في الساحة الدولية، يتوجب علينا إظهار مسار التغير الذي طرأ على ميراثها التاريخي ولكن من الضروري أولاً التأكيد على أن الدولة العثمانيّة، التي تعد مصدرًا للميراث التاريخي المذكور، كانت البنية السياسيّة الوحيدة في المنطقة، والتي شكّلت حاكميّة سياسيّة في مقابل أوروبا، وهذه الحاكميّة المسيطرة التي شكّلتها الدولة العثمانيّة قد أثّرت بشكلٍ مباشر على عمليّة انهيار البنية الإقطاعيّة في أوروبا، كما أنها أجبرت أوروبا على الانفتاح على العالم من أجل اكتشاف طرق تجارية جديدة وهذا ما تجلى في السياسة التي اتبعها السلطان سليمان القانوني تجاه فرنسا، حيث استندت الاستراتيجية الدبلوماسية إلى القوة العسكرية الفائقة من جهة، وعلى استثمار خلافات أوروبا الداخلية من جهة أخرى.

إن ما نجم عن اتفاقية (وستفاليا) عام 1648 من نظام للعلاقات الدولية على المستوى الداخلي لأوروبا، والذي شكل أسس النظام الدولي الحالي، كان يستند إلى أسس مختلفة عن الأسس التي اعتمد عليها النظام العثماني متعدد القوميات ويحكم أجزاء كبيرة من أوروبا الشرقية. وبذلك أصبحت الدولة العثمانية في موقع مجابهة مع هذا الحوض الحضاري المختلف. وقد نتج عن هذه المواجهة قوى أثرت على علاقة الإرث السياسي العثماني - التركي مع النظام الأوروبي، سواء على المستوى النفسي والسياسي، أو على مستوى الذهنية الاستراتيجية. ولقد أكسبت اتفاقية كارلو وفنز عام 1699 خصائص جديدة للعلاقة القائمة بين الجانبين؛ إذ اتجهت الدولة العثمانية، التي بدأت تفقد أراضيها في أوروبا لأول مرة في تاريخها، بعد هذه الاتفاقية إلى استراتيجية الدفاع لاسترجاع الأراضي التي خسرتها بدلًا من التقدم إلى داخل أوروبا، وأصبح حصار فيينا نقطة تحوّل في تاريخ أوروبا، ولعب دورًا هامًا في تكوين الفكر والوعي الأوروبي من خلال الائتلاف الذي تم تشكيله ضد الدولة العثمانية في هذه المرحلة.

إن الحادثين الآخرين الهامين الذين كرّسا التحوّل الذي طرأ على الوضع الدولي للدولة العثمانية هما "اتفاقية كوتشوك قاينارجه" عام 1774، وحرب القرم ما بين 1853-1856. وتعتبر الامتيازات التي حصل عليها الأرثوذكس الذين كانوا تحت حماية الدولة العثمانية، بناء على المطالب الروسية بموجب اتفاقية (قاينارجه) الصغيرة، أولى المؤشرات الهامة على العلاقة بين وضع الدولة الدولي واستقرارها ووحدتها الداخلية، وهو ما تجلى في بدء مرحلة سلاح الأرمن والأقليات غير المسلمة عن الدولة العثمانية نتيجة لشرط الحماية الذي تم وضعه في هذه الاتفاقية. ويعتبر هذا الوضع أول المؤشرات على اعتبار الوحدة الداخلية للدولة مقياسا هاما لوضعها على المستوى الدولي. أما حرب القرم، فتمثل الحالة الأولى في تقاليد السياسة الخارجية العثمانية - التركية لاستخدام سياسة مواجهة المعتدي عن طريق استثمار الخلافات الداخلية الأوروبية. وقد استهدفت هذه السياسة توفير ساحة مناورة تكتيكية للدولة باعتبارها إحدى قوى النظام الداخلي الأوروبي بعد حرب القرم، عن طريق إحداث معادلة للتوازنات في المصالح الاستراتيجية للقوى العظمى. وتتلخص هذه السياسة، التي استمر تأثيرها إلى الوقت الحاضر في موازنة القوى بين العدو القريب المؤثر والعدو البعيد الكامن وقد استمرت هذه المقاربة المستندة إلى التحالفات والائتلافات المتعاقبة داخل أوروبا كتقليد للسياسة الخارجية، خصوصاً في أواخر مرحلة الدولة العثمانية ومرحلة الحرب الباردة.

عمل السلطان عبد الحميد الثاني على ترسيخ سياسة التوازن المذكورة من خلال دبلوماسية دقيقة ومرنة وحاول تكوين مساحة تأثير تتحقق فيها مصالح دولته، أو ما يسمى بـ "الحديقة الخلفية" (Hinterland)، والتي تتمثل في المسلمين الذين يعيشون تحت الاستعمار خارج حدود الدولة العثمانية في ظل النظام الدولي الاستعماري في ذاك الوقت، والتناقض الداخلي الذي عاشته البنى الاستعمارية، كان العالم الإسلامي يتكون من تشكيلين سياسيين مختلفين: الأول، يتمثل بالدولة العثمانية التي تمتلك مؤسسة الخلافة، والتي تحاول الصمود والوقوف على قدميها ضد صراع التقاسم بين القوى الاستعمارية؛ والثاني، يتمثل بالدول الإسلامية التي تم استعمارها من قبل عدة دول إمبريالية. كان السلطان عبد الحميد يرى أن استمرار وجود الدولة العثمانية مرتبط باستغلال هذه العلاقة بشكل مؤثر في النظام الدولي، لشعوره بحد كبير بقوة العلاقة بين هاتين البنيتين. وعملت الدولة على تحقيق الانسجام بين هاتين الظاهرتين مع السياسة الداخلية المستندة إلى الإسلام، وتم تحفيز المؤسسات السياسية، وفي مقدمتها مؤسسة الخلافة، في إطار استراتيجي جديد من أجل التماشي مع هذه السياسة. وظهر تعريف جديد لمفهوم "الحديقة الخلفية" في عهد الاتحاد والترقي، يختلف عما كان عليه في العهد العثماني، في إطار من النزعة القومية التركية.

استمر الاتحاديون في استخدام فكرة الوحدة الإسلامية كأداة تكتيكية ضد الدول الاستعمارية، وأدرك زعماء الاتحاد والترقي أن مكانة وقوة الدولة العثمانية في النظام الدولي ناتجة عن وضعها كدولة حامية للمسلمين في مواجهة القوى الاستعمارية؛ ولذا فقد تم الاهتمام بالحفاظ على العلاقة بين الدولة والشعوب الإسلامية ويجب التذكير بمدى النجاح الذي حققته الاستراتيجية الألمانية لتحقيق هدفها الأساسي الذي وضعته لإسقاط النظام الاستعماري الإنجليزي، عن طريق إضعاف روابطه الداخلية ولكن أهم بُعد للتجربة السياسية الخارجية في عهد الاتحاد والترقي - والذي يجب أن يتم تسليط الضوء عليه اليوم هو استخدام القوة الحقيقية للبحث عن وضع دولي غير متوازن يحمل معه عنصر المجازفة. وكان السبب الأساسي الذي وجه قادة حزب الاتحاد والترقي لتوريط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى هو محاولة الوصول إلى وضع دولي جديد من خلال قفزة مرحلية بأفكار قومية ذات محور قومي تركي، وتلقي الدعم العسكري الألماني الذي كان يعتقد بأنه القوة التي لا تقهر، فيجب على القوى التي تسعى لتحقيق قفزة استراتيجية مرحلية خلال الحروب أو المراحل الانتقالية، أن تكون واثقة من تملكها الاستعدادات الاستراتيجية والنفسية والسياسية والاقتصادية والثقافية اللازمة قبل دخولها في حيز التنفيذ، حيث تحمل هذه القفزات التي يتم التفكير بالقيام بها من خلال القوة العسكرية مجازفات كبيرة ناتجة عن التهديدات التي قد تخلقها القوى على الجبهات الأخرى. والعنصر الأساسي الذي يوازن المجازفات التي تحتويها القفزات الاستراتيجية المرحلية، هو العقلانية الاستراتيجية المدعومة بتكتيكات مرحلية؛ فقد أدت الحسابات الخاطئة الناتجة عن ضعف العقلانية الاستراتيجية وغياب مثل هذه التكتيكات المرحلية عند قادة حزب الاتحاد والترقي إلى سقوط آخر نقطة مقاومة في الشرق.

تطورت السياسة الخارجية في عهد الجمهورية في ساحة تقاطع شملت ردود الأفعال المتعلقة بالميراث التاريخي، الذي ترك بصماته في أواخر عهد الدولة العثمانية، مع الضرورات التي يتطلبها الوضع الدولي واتجهت النخبة السياسية التي تصنع السياسة الخارجية، والتي تحمل الإرث التراكمي للتجربة المذكورة في عقليتها الاستراتيجية إلى البحث عن وضع للسياسة الخارجية بين ردود الفعل الدفاعية وبين القوة الحقيقية. شهد العالم الإسلامي في هذه المرحلة أكبر الأزمات في تاريخه وعاش مرحلة من التراجع الملموس في كل المجالات ووقع العالم التركي بمجمله تحت الأسر بعد الثورة البلشفية؛ وبذلك فقدت النزعتان الإسلامية والقومية التركية، دورهما الحقيقي في تشكيل الأرضيتين الهامتين لإمكانية تكوين "الحديقة الخلفية" كمساحة تأثير تتحقق فيها المصالح في حوض القوة السياسية، الذي يشمل محور الأناضول والبلقان، والتي كانت إسطنبول مركزاً له. أدى هذا الوضع إلى توجه إدارة الدولة الجديدة إلى إعلان يمكن له أن يلقى القبول من الناحية الدولية وهذا الإعلان الذي صرحت به الدولة يقضي بتخلي الجمهورية عن كل المسؤوليات والطموحات الدولية، ويحتوي على عنصرين أساسيين: الأول: تبني استراتيجية الدفاع عن الحدود القومية والدولة الوطنية بدلاً من الاستراتيجية ذات البعد الدولي. الثاني: أن تكون الدولة التركية جزءاً من محور الغرب المتصاعد وليست بديلة أو معارضة له. وجدت وجهة النظر هذه تعبيراً لها في المبدأ الذي طرحه أتاتورك بقوله: "سلام في الوطن وسلام في العالم". وتُظهر هذه الفكرة توجها سلمياً مثالياً في حفل العلاقات الدولية، إضافة إلى إنها تبرز موقفاً واقعياً لسياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي الذي وصل فيه الاستعمار إلى ذروته، وتتهرب من الصراع مع قوى النظام الاستعماري، الذي أدى إلى انحلال الدولة العثمانية، ومحاولة تحديد وضع دولي جديد فوق أنقاض هذه الدولة.

ويمكن رؤية العلاقات التي تم تطويرها في عهد أتاتورك مع قوى أورو - آسيوية مثل روسيا وأفغانستان وإيران كمحاولة لتكوين "حديقة خلفية" بديلة، مستقلة نوعاً ما، تمتد نحو عمق الشرق، ولا تستبطن طموحات تتضمن المجازفة، مع أنها تحمل آثار الصراع مع الدول الغربية الذي استمر قرونا عديدة. اتجه النظام الجمهوري، الذي رفض الأهداف السياسية للدولة العثمانية ومؤسساتها إلى تشكيل ثقافة سياسية جديدة تتواءم مع الوضع الدولي. وبدأت النخبة السياسية، التي ظنت بأن الوحدة السياسية الداخلية والحفاظ على الحدود تتم عن طريق إصلاحات واسعة في تصفية الهوية السياسية العثمانية ومؤسساتها التي تزعج المحور الغربي المسيطر. وهكذا اتخذت تركيا قراراً جدياً وراديكالياً بسبب الوضع الدولي، وفضلت أن تكون قوة إقليمية تدخل تحت المظلة الأمنية لحوض الحضارة الغربية الحاكمة. وقد أثر هذا الوضع على التطلعات السياسية للمجتمع وموقفه وثقافته ومؤسساته في العمق.

أخرجت اتفاقية (لوزان) الجمهورية التركية في الأراضي المتبقية من الدولة العثمانية إلى ساحة التاريخ وأظهرت هذه الاتفاقية هوية خارجية للدولة تختلف عن هويتها الداخلية؛ إذ تم التخلي عبرها عن الهوية الإسلامية وسياستها التي أدّت إلى تفكك الدولة من خلال الصراع الذي أثارته بين الدولة العثمانية والإمبراطوريات الاستعمارية الغربية. أما في السياسة الداخلية فتم تحديد العناصر المشكلة للدولة على أساس استنادها إلى الأغلبية التركية صاحبة الهوية الإسلامية وتم تحديد الأقلية على أساس من هم من غير المسلمين فقط. وفي الوقت الذي انسحبت فيه الدولة العثمانية من المسرح التاريخي، ببنيتها متعددة الأديان والأقليات ظهرت مكانها الجمهورية التركية المستندة إلى مجتمع ذي دين واحد بأغلبية ساحقة؛ لكنها دولة قد تجردت من الرموز والمسؤوليات الدينية من خلال إلغائها مؤسسة الخلافة. أما المحور الديني للسياسة الداخلية فقد أكدته عمليات التبادل بين السكان، التي أجرتها تركيا مع الدول المجاورة على أساس من الهوية الدينية. وفي الوقت الذي دخلت فيه المجموعات المسلمة ذات الأصول العرقية المختلفة من مناطق البلقان والقوقاز إلى الأناضول لترتبط بالقوة المركزية للدولة، أثناء انسحاب الدولة العثمانية إلى الأناضول، بدأت العناصر غير المسلمة بالرحيل من الأناضول بعدما زادت عملية اغترابها عن الدولة بسبب التوترات الداخلية خلال الحرب العالمية الأولى، وبفعل وضعها كأقلية في اتفاقية (لوزان). وتمت فيما بعد محاولة تحقيق الانسجام الاجتماعي بين المجموعات مختلفة الأعراق وصاحبة الدين الواحد، والتي بقيت ضمن حدود تركيا، عبر الوعي المشترك؛ أما هوية المواطنة فقد عمل على تحقيقها عن طريق التعليم الرسمي للدولة.

إن التوازنات الجديدة التي ظهرت في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والعناصر الدولية الجديدة التي توجهها هذه التوازنات تعني بالنسبة لتركيا الرجوع إلى مقاييس حرب القرم، أدت السياسة التي تهدف إلى موازنة التهديد القريب، عن طريق التعاون مع محور القوة الظاهر في الطرف الآخر، إلى انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي - المنظمة الأمنية ذات المحور الأطلسي - ووجهتها نحو إزالة الخطر السوفياتي. وأصبحت هذه السياسة المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية التركية، التي استهدفت حماية الحدود أكثر من أن تكون من أجل تحقيق موقع جوهري لنفسها في النظام الدولي. وقد دفعت تركيا ثمن وجودها تحت مظلة الأمن الأطلسية، التي دخلت تحتها لضرورات جيوسياسية ناتجة عن تهديد السوفيات بإهمالها لساحات التأثير الطبيعية لها أحياناً، وإهمال مراكز القوى البديلة الأخرى. استخدمت تركيا خيارها الاستراتيجي في هذه المرحلة باتجاه أن تكون دولة بمقياس إقليمي، مرتبطة بالمحور الأطلسي. إن الانطباعات التي تركها هذا الخيار كأحد معطيات الحرب الباردة، قد أدى إلى تأثير سلبي في رسم السياسة الخارجية التركية تجاه الدول والمناطق الموجودة خارج هذا المحور. إن تركيا، التي مثلت نموذجاً لغيرها من الدول في سعيها للاستقلال ضد الاستعمار، فقدت فرصة تكوين ساحات تأثير خارجية لها، وسلكت طريقاً مخالفاً للتوجه العالمي الذي شكلته الثورات المناهضة للاستعمار، بسبب سياستها ذات المحور الواحد. ويمكن رؤية الصعوبات التي تواجهها تركيا في الانفتاح على بعض المناطق، مثل آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في الظروف المتغيرة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها حصيلة المؤثرات السلبية الناتجة عن موقفها في حقبة الحرب الباردة. إن التمسك الشديد بالمقاييس الاستراتيجية والتكتيكية التي خلقها نظام القطبين خلال الحرب الباردة، أثر بشكل سلبي على تطوير سياسات بديلة، وساحات مناورة تكتيكية. أما الأمر الثاني الذي أدى إلى انخفاض مستوى السياسة الدولية التركية في هذه المرحلة فهو ارتهان السياسة الخارجية للمشاكل مع اليونان.

وهكذا كانت السياسة التركية الخارجية تابعة لمقياسين هامين لفترة طويلة الأول هو البقاء تحت المظلة الأمنية الغربية في مواجهة تهديدات السوفيات بالإضافة إلى ارتهان الساحة الدبلوماسية الموجودة في المظلة الأمنية المذكورة للمشاكل مع اليونان التي تقع تحت المظلة نفسها. وأما القرار الاستراتيجي الهام الذي اتخذته تركيا بتقديمها طلباً للانضمام إلى المجموعة الأوروبية، فهو ناتج عن القلق من بقائها متأخرة عن اليونان التي تمثل دولة خصماً لها داخل المعسكر السياسي نفسه. لقد تلقت الرؤية السياسية التركية ببعديها هذين ضربة قوية من خلال رسالة الرئيس (جونسون) الشهيرة، أولاً، والأزمة القبرصية، ثانياً. وفي الوقت الذي أظهرت فيه رسالة (جونسون) إمكانية تحول المشكلة مع اليونان إلى أزمة داخل المعسكر، وإلى أزمة للسياسة الخارجية التركية ذات الاتجاه الواحد، فإن المشكلة القبرصية أدرجت على جدول الأعمال التركي مسألة الأولويات والحفاظ على المصالح الاستراتيجية القومية الموجودة خارج مساحة التهديد السوفياتي. أدت رسالة (جونسون) إلى قيام تركيا بإعادة النظر في علاقاتها، ولا سيما الاقتصادية مع دول المعسكر الشرقي وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي. إن الشعور بالعزلة الذي عاشته تركيا سيما على منابر الأمم المتحدة فيما يخص المشكلة القبرصية، هي الفاتورة التي دفعتها تركيا بسبب إهمالها للممثلين الجدد الذين ظهروا في حقبة الثورات ضد الاستعمار وبذلك تشكلت الرؤية التي ترى ضرورة الانفتاح على المناطق والدول الموجودة خارج التأثير المباشر لنظام القطبين، وفي مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامي. إن التقليد السياسي السلبي الذي اتبعته تركيا في سياستها الخارجية طيلة مرحلة الحرب الباردة قد أثر بشكل كبير على الوضع الحالي. لم تكوّن تركيا علاقات بمقاييس مرحلية مع القوى التي بدأت تبرز في حقبة ثورات التحرر ضد الاستعمار التي شهدها عَقْدُ الخمسينات، والتي بدأت بالظهور منذ النصف الثاني من عقد السبعينات تأخرت تركيا في إقامة علاقات مع مراكز هذه القوى الجديدة ولم تستطع الاستفادة من تغير التوازنات التي حصلت داخل آسيا ومن مركز القوة الذي تشكل في شرق آسيا والباسيفيك.