يراوح الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مكانهم، غير قادرين على التحرك خطوة واحدة إزاء عملية التسوية السياسية في الشرق الأوسط المتعلقة بالقضية الفلسطينية على الرغم من حالة الشلل التي أصابتها، وانعدام أي فرصة لإعادتها إلى الحياة.
ومنذ توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال في أيلول/سبتمبر 1993 تعهد الاتحاد الأوروبي بدعم جهود عملية التسوية من خلال الدعم المالي للسلطة الفلسطينية باعتبارها كيان ناشئ، وتقديم كل الدعم والتدريب لمؤسسات السلطة وأجهزتها، ولا يزال هذا الدعم ينهال على السلطة منذ 27 عاماً من دون توقف، وإن اختلف حجمه بين عام وآخر.
وافتتحت المفوضية الأوروبية مكتبها في الضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1994 عقب توقيع اتفاق أوسلو الذي شمل دعم الاتحاد للسلطة مالياً، تلاه بعد ذلك دوره السياسي في ملف عملية السلام كعضو في اللجنة الرباعية الدولية.
ويعمل الاتحاد الأوروبي بحسب تصريحات مسؤوليه المتعددة، على قاعدة عريضة وهي استمراره بدعم الشعب الفلسطيني في مختلف المجالات، وعلى رأسها إقامة الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين، وعبر المفاوضات المباشرة بين فلسطين وإسرائيل، ومن هذه القاعدة يواصل دعمه للسلطة الفلسطينية مالياً، لكنه لا يُقدم على خطوة سياسية جريئة مثل الاعتراف بدولة فلسطين.
ونظراً إلى تعقيدات الوضع السياسي الراهن، المتمثل في انسداد طرق عملية التسوية في ضوء طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب صفقة القرن، ووضع حكومة الاحتلال مخطط الضم على الطاولة لتنفيذه في أيّ وقت، وتهافت الأنظمة العربية على التطبيع مع الاحتلال، الأمر الذي دفع السلطة الفلسطينية إلى وقف العمل بالاتفاقيات مع الاحتلال، وهو ما أدخلها في أزمة اقتصادية صعبة، بدأ الحديث يتسرب عن إمكان توقف الدعم الأوروبي، كما روجت لذلك بعض وسائل الإعلام العبرية، في حال استمرار السلطة برفض أموال المقاصة.
ينفي الاتحاد الأوروبي ممارسة أي ضغوط على السلطة أو تهديده بقطع الدعم المالي عنها، متعهداً باستمرار هذا الدعم، لكن السؤال إلى متى؟ وهل يُغني الدعم المالي عن خطوة سياسية يجب على الدول الأوروبية القيام بها بحسب وجهة نظر السلطة الفلسطينية، التي لا تنفك عن المطالبة بها في كل لقاء أو مناسبة.
يتمسك الاتحاد الأوروبي وفق ما يعلنه بحل الدولتين كخيار وحيد للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، على الرغم من كل الضربات والهزات التي تعرض لها خلال السنوات الماضية بسبب المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية وعزل مدنها وقراها عن بعضها، وعزل مدينة القدس، والتي جعلت هذا الحل أقرب إلى المستحيل على الأرض مع استحالة قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967. وعلى الرغم من إدراك الاتحاد الأوروبي هذه المعطيات جيداً ورصدها وتوثيقها، فإنه لا يزال يراوح مكانه غير قادر على الخروج من هذه الدائرة إلى خيارات أُخرى، انطلاقاً من دوره ومكانته السياسية.
ومنذ انطلاق عملية التسوية، لا يتردد الاتحاد الأوروبي في إدانة الأعمال الاستيطانية في الضفة الغربية، في كل مرة تعلن إسرائيل نيّتها بناء وحدات استيطانية في الضفة الغربية أو القدس، وكان آخرها في 16 تشرين الأول/أكتوبر، حين دان وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا في بيان مشترك مشاريع البناء الاستيطانية الجديدة التي أعلنتها حكومة الاحتلال، ودعوا إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2334، مشددين على عدم الاعتراف بأي تغييرات على حدود الرابع من حزيران 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، "ما لم يتم الاتفاق على ذلك بين الطرفين." وهذا الموقف ليس جديداً أو الأول من نوعه، وقد تكرر في سنوات سابقة؛ بل إن المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي قضت في سنة 2019 بأنه يجب على دول الاتحاد وسم المواد الغذائية الإسرائيلية المُنتجة في أراضي الضفة الغربية المحتلة والجولان السوري المحتل، بأنها منتجات "مستوطنات إسرائيلية".
لكن ما يُعيب المواقف الأوروبية إزاء ممارسات الاحتلال، بحسب رأي بعض المتابعين أنها باتت مواقف روتينية مع مرور الوقت تقتصر على الإدانة والرفض، ولا تشكل قلقاً لإسرائيل التي باتت لا تخشى أي ردات فعل عملية أوروبية إزاء ما تقوم به. ولعل ما يبرهن على ذلك استمرار عمليات الهدم الإسرائيلية الممنهجة للمشاريع الممولة أوروبياً في الضفة، وتحديداً في المنطقة المصنفة "ج" التي كان آخرها نية إسرائيل هدم مدرسة تجمع رأس التين البدوي.
وكشفت وكالة أسوشيتد برس في تشرين الأول/أكتوبر 2020 عن مذكرة سريّة للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أثارت غضباً أوروبياً واسعاً بسبب عمليات الهدم الإسرائيلية الممنهجة التي طالت بنى تحتية ممولة أوروبياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووثقت المذكرة في سنة 2019 رقماً قياسياً بلغ 104 مبانٍ فلسطينية هدمتها إسرائيل في شرقي القدس وحدها، وهو ما يمثل زيادة مقارنة بالسنوات السابقة، لكن ذلك الغضب لم يُترجم على الأرض بأي خطوات سياسية.
يعد الدعم الأوروبي مهماً للغاية لبقاء السلطة الفلسطينية في قيد الحياة في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بها، وخصوصاً بعد تراجع الدعم المالي العربي للسلطة الفلسطينية إلى مستويات قياسية وصلت خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2020 إلى 81في المئة، والذي تزامن مع توقف الدعم الأميركي بشكل كامل للسلطة الفلسطينية، وممارسة حكومة الاحتلال قرصنة على أموال الضرائب الفلسطينية من اقتطاعات وخصومات، ورفض السلطة الفلسطينية استلام أموال المقاصة بعد وقف العمل بالاتفاقيات الثنائية.
وعلى الرغم من أهمية الدعم المالي، فإن السلطة الفلسطينية باتت تستشعر بأن مشروعها الذي أُقيم على المفاوضات مع إسرائيل طوال 27 عاماً، أبرمت خلالها عشرات الاتفاقيات وبنود التفاهم والمذكرات الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل قد وصل إلى حائط مسدود، بمعطيات على الأرض أكثر خطورة مما كانت عليه قبل إنشاء السلطة، وبالتالي فإن السلطة تسعى إلى جانب الدعم المالي، للحصول على مكسب سياسي من خلال اعتراف أوروبي بدولة فلسطين، الأمر الذي من شأنه أن يحدث تغييراً في مكانتها السياسية الهشة.
حاولت السلطة الفلسطينية في مطلع سنة 2020 الضغط على الاتحاد الأوروبي لانتزاع موقف سياسي يتمثل باعترافه بالدولة الفلسطينية بالتزامن مع توجه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى طرح ما يُعرف بصفقة القرن، وقال الرئيس محمود عباس في كلمة له في كانون الثاني /يناير 2020 "إن الاتحاد الأوروبي حتى اللحظة يقول حل الدولتين على أساس الشرعية الدولية، وهذا كلام جميل،" مضيفاً "أوروبا بدأت تعي أنها ظلمتنا كثيراً في الماضي، وأن عليها أن تصحّح بعض الأخطاء التي وقعت فيها عبر مئة عام من الزمن." كما انتقدت وزارة الخارجية الفلسطينية آنذاك وبشكل نادر موقف الاتحاد الأوروبي، قائلة: "إن اكتفاء الاتحاد الأوروبي بصيغ الرفض لإجراءات الاحتلال يبقى خجولاً وضعيفاً ومتأخراً، ولا يرتقي إلى مستوى الحدث والمسؤولية الملقاة على عاتق الاتحاد الأوروبي ودوله،" مضيفة أن "الاتحاد مطالب بموقف أقوى لمواجهة المعركة المفتوحة على القدس."
من ناحيته، أوضح رئيس الوزراء محمد اشتية خلال مشاركته في الدورة الخمسين للاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بسويسرا، في كانون الثاني/يناير 2020، أن السلطة الفلسطينية تريد من الاتحاد الأوروبي جملة إجراءات، هي "العمل بشكل جماعي على حماية حل الدولتين والقرارات الدولية التي تنتهكها إسرائيل يومياً، ومحاولتها فرض أمر واقع قائم على سلب الأراضي الفلسطينية وقتل إمكانية إقامة الدولة، وأن تقود أوروبا جهداً دولياً لمرحلة ما بعد مشروع ترامب."
لا تظهر أي مؤشرات وبوادر في الوقت الراهن على وجود مشروع أوروبي مضاد لمشروع ترامب، بما يبقي حل الدولتين في قيد الحياة، وذلك لعدة أسباب؛ فالاتحاد الأوروبي يعاني أزمات سياسية ومالية متعددة، وأزمات داخلية، أججها فيروس كوفيد- 19 وألقت بظلالها السياسية والاقتصادية على بنية الاتحاد ومستقبله.
كما يواجه الاتحاد الأوروبي خطر التفكك، فبعد خروج بريطانيا منه، بات يخشى إقدام دول أُخرى على اتخاذ خطوة مشابهة، وخصوصاً في ظل شعور بعض الدول بعدم تلقيها المساعدات لمواجهة تداعيات كوفيد- 19، إلى جانب التحديات التي تواجه الدول الأوروبية بسبب الهجرة الكبيرة من دول الشرق الأوسط وتحديداً سوريا وليبيا.
ولا تقتصر التحديات على المستوى الداخلي، فالتوتر بين إيران والولايات المتحدة، يلقي بظلاله على أولويات الاتحاد الأوروبي، ولا سيما بعد تخلي إدارة ترامب عن الاتفاق النووي، والأهم من ذلك كله، هو تسليم الدول الأوروبية بأن ملف تسوية القضية الفلسطينية هو من حق الولايات المتحدة الأميركية، وعدم قدرتها على منافستها في ذلك الملف، وهو ما يجعل دورها لا يخرج من عباءة الولايات المتحدة الأميركية.
لقد نفذت إدارة ترامب العديد من الخطوات التي جعلت من حل الدولتين الذي ولد ميتاً أصلاً منذ توقيع اتفاق أوسلو أقرب إلى المستحيل، فإعلان صفقة القرن التي تتيح لإسرائيل قضم 30 في المئة من الضفة الغربية، والاعتراف بالمستعمرات في الضفة، والقدس عاصمة لإسرائيل، لم يحرك الاتحاد الأوروبي لاتخاذ موقف سياسي ذات قيمة، بعيداً عن التنديد والإدانة، متذرعاً بأن عدم إصداره موقفاً موحداً بالاعتراف بالدولة الفلسطينية يعود إلى وجود اختلافات عميقة بين الدول الأعضاء بهذا الشأن، وضرورة حصول هذا القرار على إجماع كل الدول حتى يصبح نافذاً.
وعلى الرغم من تنديد دول أوروبا بمخطط الضم الإسرائيلي، وتلويح بعض الدول باتخاذ عقوبات ضد إسرائيل في حال تنفيذه مثل بلجيكا، فإن أياً من تلك الدول لم تُشر إلى إمكان الاعتراف بدولة فلسطين، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن موقف الاتحاد الأوروبي، فإذا كان يعتبر حل الدولتين الذي ينص على قيام دولتين على أرض فلسطين التاريخية خياراً وحيداً للتسوية، وفي الوقت نفسه يعترف بدولة إسرائيل التي لم تحدد وتعلن حدودها حتى الآن، فلماذا لا يعترف بالدولة الثانية، فلسطين التي يجب أن تقام وفق ذلك الخيار؟