• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
أبحاث

مخاطر احتدام التنافس في الانتخابات الرئاسية السنغالية


يعيش السنغال منذ عدّة أشهر على وقع أزمة سياسية عميقة، قد تهدد النظام الديمقراطي القائم بأكمله. وتعود هذه الأزمة إلى احتدام التنافس في سباق الرئاسيات، المقرر إجراؤها في شهر فبراير من العام القادم (2024). وقد تحولت هذه الأزمة السياسية – منذ مطلع شهر يونيو 2023 – إلى وضع أمني متفجر، يُنذر بانهيار مؤسسات الدولة، واختلال التوازن بينها، في حال لم يتم نزع فتيل الاحتقان الشعبي، وذلك عبر البحث عن حلول توافقية، تحترم المواثيق الدستورية، وتحرص على استقلالية المؤسسات، وتتجنب اللجوء إلى العنف.

وتشهد الساحة السياسية في المرحلة الحالية مأزقًا شبيهًا بما كان قد حدث قُبيل الانتخابات الرئاسية التي أُجريت عام 2012، والتي وصل بمقتضاها الرئيس ماكي صال إلى السلطة. وهي أيضًا شبيهة – إلى حَدٍّ ما – بالأحداث التي انتهى على إثرها عهد الرئيس عبدو ضيوف عام 2000، وانتُخب في سياقها الرئيس عبدالله واد.

ويمكن القول إن طرفيْ الأزمة اليوم يتمثلان في كُلٍّ من الرئيس ماكي صال، والمرشح للرئاسة المعارض عثمان سونكو. وباتتْ البلاد شبه منقسمة إلى معسكرين؛ كل واحد منهما يناصر طرفًا من أحد هذين الطرفين. ومكمن الخطورة أن هذه الأزمة يتداخل فيها القضائي مع السياسي؛ باعتبار أن المرشح المعارض الأبرز تتعلق به قضية أمام المحاكم، وقد تُفقده الحق في الترشح، وعلى الجانب الآخر فإن الرئيس ماكي صال – الذي يُفترض أن تنتهي عهدته الثانية مع نهاية هذه السنة – لا يمكنه الترشح لولاية رئاسية ثالثة، حسب ما ينص عليه الدستور، إلَّا أنه – حتى هذه اللحظة – لم يُفصح صراحة عن قراره بالترشح، ومن ثَمَّ، فإن امتداد فترة حكمه إلى ولاية ثالثة لا بُدَّ له من البحث عن تكييف دستوري.

حالة الغموض هذه تتسبّب – إلى حَدٍّ ما – في زيادة الاحتقان السياسي، وفي الوقت نفسه فإن بقية الطبقة والنخب السياسية تجد نفسها تائهة بين أمرين؛ إمّا خيار عثمان سونكو الذي يسعى إلى تعبئة الشارع، من أجل مواجهة السلطة التي لم تحسم بَعْدُ أمر ترشح الرئيس، والمتهمة أيضًا باستخدام القضاء لتصفية خصمه الأبرز، والذي يبدو أنه أكثر شعبية من غيره، وإمّا خيار الانحياز إلى مؤسسات الدولة، التي تقف في صَفّ الرئاسة، لحفظ النظام والأمن والاستقرار.

تستعرض هذه الورقة أبرز الوجوه المرشحة للانتخابات الرئاسية المقبلة، وخياراتها المتاحة لخوض مختلف مراحل السباق. وفي هذا السياق، نلقي الضوء على زوايا الأزمة السياسية، ونطرح الخيارات الممكنة للخروج منها.

عثمان سونكو .. الخطاب والمسار

عثمان سونكو، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عامًا، يبدو اليوم أكثر الوجوه السياسية شعبيّةً وتَشَدُّدًا في معارضة النظام والنخبة الحاكمة؛ لا سيّما في صفوف فئة الشباب. وعلى هذا الأساس، فإنه يبدو أكثر المعارضين المرشحين للرئاسة حظوظًا في الفوز، وهو أيضًا أكثرهم استهدافًا من قِبَل السلطة.

لقد بدأ الرجل حياته العملية موظفًا في مصلحة الضرائب، إلى أن بدأ في الكشف عمَّا أسماه “أسرار السلطة في تعاملاتها مع المال العام”؛ فتمت معاقبته بطرده من وظيفته، لإدانته بتهمة إفشاء أسرار وظيفة عامة. بعدها أسس حزبه عام 2014، وأطلق عليه اسم (الباستيف (Le Pastef، وهو يرمز إلى: “الوطنيين الأفارقة من أجل العمل والفضيلة والإخاء”. ثم شارك في الانتخابات التشريعية لعام 2017، وانتُخب نائبًا بالبرلمان. ثم خاض غمار الانتخابات الرئاسية لعام 2019، وجاء في المرتبة الثالثة بعد كُلٍّ من الرئيس الحالي ماكي صال، والوزير الأول الأسبق إدريس سيك. وبذلك تحول سونكو إلى أحد أبرز الشخصيات السياسية.

جديرٌ بالذكر أن المسار السياسي الذي سلكه عثمان سونكو يختلف عن أغلب بقية رموز المعارضة والسلطة؛ ذلك أن الرجل قادم من خارج دوائر الحكم، ومن أطراف المجتمع والنُّخب، وكانت بداياته ضمن العمل الطلابي، ثم في الأوساط النقابية عندما كان يعمل مفتشًا للضرائب.

وإلى جانب اقتحامه العمل السياسي، رغم مجيئه من خارج الدوائر التقليدية للحكم، فإن عثمان سونكو ينحدر من أوساط اجتماعية شعبية؛ فمن جهة المنطقة التي ينتمي إليها، أي من حيث الأصل العائلي، ينتمي سونكو إلى الإقليم الانفصالي في جنوب السنغال “كازامنس”، أمّا من حيث الطبقة الاجتماعية، فهو ابن موظفيْن حكومييْن؛ وبالتالي، فقد تربى الرجل ودرس ضمن نظام التعليم العام، وعمل ضمن المصالح والدوائر الحكومية للدولة.

ومن الناحية الأيديولوجية، فإنه يصعب – حقيقةً – تصنيف عثمان سونكو؛ ذلك أننا نجد في خطابه حمولة شعبوية واضحة، تجمع بين المضامين الفكرية والسياسية للأفريقانية (البان أفريكانيزم Panafricanism)، مع انتماء يساري ملموس، إلى جانب محافظة دينية وأخلاقية أكيدة، وعداء شديد للاستعمار والهيمنة الغربية. هذه الشعبوية في خطاب عثمان سونكو وأيديولوجيته، مع عدم امتلاكه لتجربة في الحكم، تمثل أحد أهم مآخذ خصومه على مساره وتطلعاته السياسية.

ومنذ عام 2021، تعلقت به بعض القضايا أمام المحاكم، انتهت في مطلع شهر يونيو بتبرئته من التهمة الرئيسية (اغتصاب فتاة تعمل في محل تدليك)، لكن تم إثبات تهمة أخرى ضده (التحريض على الفساد)، وقضت المحكمة عليه بالسجن لمدة عامين. ويُنظر إلى هذا الحكم – في أوساط أتباعه – على أنه استهداف سياسي، بُغْيَةَ منعه من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة؛ لا سيّما أن الرجل يُعَدُّ أَهَمُّ وأَشَدُّ المعارضين لإعادة ترشُّح الرئيس ماكي صال لولاية رئاسية ثالثة. أمّا من وجهة نظر السلطة فإن هذه القضية لا تعدو كونها مجرد مسألة قضائية مدنية، ولا دخل للسياسة فيها. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الحُكْم يحرم المرشح عثمان سونكو من حقوقه السياسية. وفي سياق هذه التجاذبات، خرج أنصار سونكو إلى الشارع، وحدثت مواجهات عنيفة مع قوات الأمن لمدة يومين، تخللتها أعمال حرق ونهب وتدمير للمحال التجارية، والممتلكات الخاصة، وبعض المؤسسات الحكومية. وتلك هي المرة الثانية التي يتحرك فيها الشارع لمناصرة سونكو، منذ بداية هذه القضية في شهر مارس سنة 2021.

الرئيس ماكي صال .. لغز العهدة الثالثة

في السنوات الأخيرة، تمكن الرئيس ماكي صال من تسوية بعض الملفات السياسية مع بعض خصومه التقليديين، وذلك عبر استقطاب بعضهم، واحتواء البعض الآخر. وفي الوقت نفسه استطاع استبعاد الطامعين في وراثته من دائرة المقربين منه. وفي عام 2020، أجرى ماكي صال تعديلًا حكوميًا سمح له بإشراك بعض معارضيه في التشكيل الحكومي الجديد. وبهذه الوسيلة استطاع أن يتخلص من بعض الشخصيات السياسية، من داخل محيطه المساند له في الحكم. في هذا السياق أيضًا قام بتعيين خصمه الأول في الانتخابات الرئاسية (2019)، إدريس سيك، رئيسًا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وفي هذه الأثناء، ظل عثمان سونكو يمثل الخصم العنيد في مواجهة حكم الرئيس ماكي صال، ويعارض طموحاته للاستمرار في السلطة. ومن هنا يطرح السؤال نفسه، وهو: كيف يتعامل الرئيس ماكي صال مع عثمان سونكو، لضمان إمكانية البقاء في الحكم لعهدة ثالثة؟

الإجابة عن هذا السؤال تستلزم العودة للتذكير بكيفية تعاطي الرئيس صال مع كبار خصومه، منذ وصوله إلى سُدَّة الحكم عام 2012، وخاصةً تلك التهمة الدائمة التي تلاحق الرئيس في هذا السياق، والتي تتمثل في توظيف القضاء لتصفية كبار معارضيه، وهو أمر انطبق بالفعل على اثنين منهم، أحدهما: خليفة صال، رئيس بلدية دكار السابق، خلال الأعوام (2009 – 2017)، والثاني كريم واد، نجل الرئيس السابق عبدالله واد. وكان كلاهما يستعد لمنافسة ماكي صال في الانتخابات الرئاسية، ولكن تم تجريدهما من حقوقهما السياسية بمقتضى أحكام قضائية، إذ صدر حكم قضائي ضد كريم واد عام 2014، بتهمة الثراء غير المشروع، كما صدر حكم آخر ضد خليفة صال عام 2016، بتهمة الفساد، والذي قضى عليه بالسجن لمدة 5 سنوات، مع غرامة مالية. إن مثل هذه القضايا، والأحكام التي صدرت بشأنها، قد أثارت حيثياتها احتجاج بعض رجال القضاء في السنغال، بسبب تدخل السلطة السياسية فيها، وكان من نتيجة ذلك أن خسر القضاء كثيرًا من مصداقيته. ولعل هذا ما يفسر اليوم، وعلى الأخص في ملف زعيم المعارضة عثمان سونكو، تعاطف الكثير معه. وأعطى الكثير من الوجاهة – في نظر البعض – للاتهام الموجه للسلطة، بأنها تُسَخّر القضاء لتصفية الخصوم.

واليوم، من المحتمل أن يتجه الرئيس ماكي صال إلى تعديل المادة الخاصة بعدد عُهَد الرئاسة في الدستور، للسماح له بالترشح لعهدة ثالثة، وهو الذي كان يعارض بشدة إمكانية ترشح الرئيس عبدالله واد لمرة ثالثة عام 2012. وحتى يومنا هذا، لا يبدو أن الحزب الحاكم قد قرر تقديم بديل للرئيس ماكي صال، في حال عدم ترشحه للانتخابات المقبلة.

إدريس سيك .. الخيار الثالث

تجدر الإشارة إلى أن المسار السياسي والمهني للوزير الأول السابق – إدريس سيك – يُعَدُّ مسارًا ثريًا، فهو يستند إلى مسيرة أكاديمية، وخبرة في العمل المؤسساتي، تختلف عن مسارات غيره من رجال السياسة في السنغال، بل تختلف أيضًا عن مسارات بعض النخب التي عملت في دوائر الدولة، أو التي لديها طموح في الاضطلاع بمسؤوليات عامة متقدمة. ولقد تميّزت الخبرة التي اكتسبها الرجل على مدى تاريخه السياسي وعمله المؤسسي بالتنوع، باعتبار انخراطه في عمل الدوائر الحكومية، واضطلاعه بمسؤوليات وزارية، وهناك أيضًا مشاركته في الشأن البلدي والجهوي، إلى جانب عمله ضمن مؤسسات القطاع الخاص، والسلك الدولي، علاوة على اضطلاعه بالعمل العام، انطلاقًا من القاعدة الحزبية والنشاط الجمعوي الأفقي، واقترابه من المؤسسة الدينية الطُّرُقية. ومن هذا المنطلق فهو يُعَدُّ اليوم أحد أبرز المرشحين للانتخابات الرئاسية لعام 2024. ويُذكر في هذا الصدد أن إدريس سيك كان قد شارك في الانتخابات الرئاسية السابقة لعام 2019، واحتل المرتبة الثانية بعد الرئيس الحالي ماكي صال. كما سبق له أن خاض غمار السباق الرئاسي مرات عديدة. وهو يرأس حزب ” رَوْمي” (REWMI) أي: “البلاد”.

كانت بدايات مسيرته السياسية بالعمل في الحزب الديمقراطي السنغالي – وهو حزب ليبرالي التَّوَجُّه – إذ تحمل مسؤولية سكرتارية الحزب، ثم ترأس الحملة الانتخابية للرئيس عبدالله واد، في رئاسيات العام 2000، والتي فاز فيها واد في مواجهة الرئيس الأسبق عبده ضيوف. ثم بعد ذلك شغل إدريس سيك منصب رئيس الحكومة خلال الفترة 2002 – 2004. وبناء على ذلك، فقد أصبح يُنظر إليه بصفته خليفة الرئيس عبدالله واد في الحزب، إلَّا أن ذلك لم يمنع حدوث خلاف بينه وبين الرئيس، وتم اتهامه في قضية فساد، أدت به لقضاء 7 أشهر في السجن (2005 – 2006).

على إثر تسوية سياسية، ترشح إدريس سيك للانتخابات الرئاسية سنة 2007، ضد الرئيس عبدالله واد، وحل في المرتبة الثانية بنسبة 14.86%، مقابل55.90% للمرشح الفائز آنذاك، الرئيس عبدالله واد. ورغم ذلك، فقد سعى إلى إيجاد أرضية توافق مع الرئيس عبدالله واد، من أجل تيسير عودته للحزب الديمقراطي السنغالي الحاكم.

هذه العودة للحزب الحاكم، أراد لها الرئيس عبدالله واد أن تأتي قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2007، حينها كان إدريس سيك قد أسس حزبه، وانضم إلى المعارضة التي كان يُطلق عليها اسم “جام جي” (Jamm ji)، وهي تعني في لغة الوولوف: “السلام”. وقد تم فعلًا الإعلان عن هذه العودة على لسان الرئيس عبدالله واد نفسه، بعد تدخل لوأد الخلافات، قام به أحد شيوخ المريدية. ومهما يكن من أمر، فإن عودة إدريس سيك إلى الحزب الديمقراطي السنغالي – بعد مغادرته السجن – قد يكون المستفيد الأول منها هو الرئيس عبدالله واد نفسه، أكثر مما استفاد منها إدريس سيك في السباق الانتخابي.

إلى جانب الارتكاز على خبراته الأكاديمية والسياسية والإدارية، فقد اعتمد إدريس سيك أيضًا على تكوينه وثقافته الدينية، وعلى علاقاته الوثيقة مع الطرق الصوفية؛ فقد عُرِفَ عنه كثرة استشهاداته بالقرآن في خُطبه وأحاديثه السياسية، علاوة على علاقاته الوطيدة بكل المؤسسات الروحية، وعلى الأخص شيوخ الطريقتيْن الصوفيتيْن: التيجانية والمريدية. والمعروف عنه أنه من حيث الانتماء الصوفي التقليدي، فقد كان تيجانيًا، لكنه – في مرحلةٍ ما – قد يكون اتجه نحو المريدية، باعتبارها أكثر من غيرها من الطرق الصوفية الأخرى، من حيث الانتشار والتأثير في الحياة السياسية، وشعبيّتها لدى الناخبين.

وأيًا ما كان الأمر، فإن من الثابت أن شعبية إدريس سيك بعد مشاركته في انتخابات عام 2007 قد تراجعت؛ دليل ذلك أنه في انتخابات عام 2012 لم يتمكن من الحصول إلَّا على نسبة 8%، وجاء في المرتبة الخامسة. وهي الانتخابات التي فاز فيها الرئيس الحالي ماكي صال في جولتها الثانية، والتي على إثرها خرج الرئيس عبدالله واد من الحكم.

ابتداء من عام 2012، سوف ينضم إدريس سيك إلى الأغلبية الحاكمة الجديدة، والتي تجمعت حول الرئيس ماكي صال. وفي الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ساند حزب “رومي” المرشح ماكي صالح، وهو ما أسهم في هزيمة الرئيس السابق عبدالله واد. وحينذاك انضم الحزب – ورئيسه إدريس سيك – إلى تجمع: “بينو بوك ياكار” الحاكم، تحت رئاسة ماكي صال، وشاركت مجموعة من كوادره في الحكومة، لكنه بعد ذلك ببضعة أشهر اتخذ قرارًا بمغادرة الائتلاف الحاكم، في الوقت الذي كان له عشرة نواب بالبرلمان، واثنان من الوزراء ضمن تشكيلة الحكومة. وكان السبب المعلن وراء ذلك هو ضعف محصلة الإنجازات التي حقّقتها التوليفة الحاكمة الجديدة.

ومما هو جديرٌ بالذكر أن العلاقة التي بناها إدريس سيك مع الأوساط التي وصلت إلى السلطة، على إثر انتخابات عام 2012، كانت شبيهة بعلاقاته السابقة مع نظام الرئيس عبدالله واد؛ بمعنى أنها كانت مرحلة يتخللها الوفاق أحيانًا والقطيعة أحيانًا أخرى، والبحث عن التموقع مع السلطة، والتموقع ضدها في الوقت نفسه. هذه العلاقة كانت في الحقيقة تمثل استراتيجية تثبيت للمسار الرئاسي لإدريس سيك، وتُبرز تمايزه عن الرئيس ماكي صال، وهو الذي يُعَدُّ – من الناحية السياسية – “الرفيق/ الخصم” لإدريس سيك. ذلك أن كُلًا منهما كان منتسبًا إلى الحزب الحاكم تحت قيادة الرئيس عبدالله واد، كما أن كُلًا منهما قد شغل مع عبدالله واد منصب الوزير الأول في حكومته، ثم دخل كُلٌّ منهما في خلاف معه، وفي النهاية تنافسا على مقعد الرئاسة، ثم تحالفا لإسقاط عبدالله واد. ومن هذا المنطلق، فإن القاعدة التي قامت عليها العلاقة بين الرجلين بعد ذلك كان محورها التنافس من أجل الرئاسة، في أفق الانتخابات التي كانت ستُجرى في عام 2019.

في هذه الأثناء، يبدو أن إدريس سيك قد خسر الكثير من شعبيته، بسبب خوضه في مسائل وسجالات تدخل في إطار “الثقافة الدينية التاريخية” والقضية الفلسطينية، والتي سببت له “متاعب” مع الجمهور العام[، وهذا ما جعله في نهاية المطاف ينسحب من النقاشات العامة، والعمل العلني، بانتظار استحقاقات عام 2019.

ومن المعروف أن إدريس سيك عندما خاض الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كان قد دخل في تحالف مع مجموعة من المرشحين الآخرين، الذين لم يتمكنوا من جمع العدد الكافي من التزكيات، ومن ثم سقطت أسماؤهم من قائمة المتقدمين لانتخابات الرئاسة. وسُميت الجبهة التي أسسها معهم  إدريس سيك باسم (Idy 2019). أمّا اليوم، فإنه لا يبدو على استعداد للدخول في عمل جبهوي، وعلى الأقل في الدور الأول من الانتخابات.

هل يمكن – إذن – أن يكون المرشح إدريس سيك، هو الرجل الذي يحتل موقع “الوسط” سياسيًا، في مواجهة طرفيْ الصراع الحالي على الساحة السنغالية، وهما من جهة: “الأغلبية الرئاسية الحاكمة” المتحمسة للفوز بعهدة رئاسية ثالثة للرئيس ماكي صال، ومن جهة أخرى، الطرف الثاني المتمثل في المرشح عثمان سونكو، والذي تصفه أطراف سياسية عدة بالراديكالي، الذي يسعى إلى تعبئة الشارع؟

حتى هذه اللحظة، فإنه لا يبدو أن إدريس سيك سينضم إلى الجبهة العريضة المعارضة لترشح الرئيس ماكي صال لولاية رئاسية ثالثة؛ وذلك لأنه يرى نفسه يحتل موقعًا وسطيًا بين الطرفين، ومن ثم فيمكن أن تكون له القدرة على الجمع بين أكثر الفئات والشرائح والمواقف من جهة المعارضة التي ترفض ممارسة العنف، كما ترفض ما يبدو أنه تجاوز للدستور، بخصوص العهدة الرئاسية الثالثة للرئيس. ومن جهة أخرى، يرى إدريس سيك أن مشروعه – بصورة أو بأخرى – يمكن أن يمثل امتدادًا لما أنجزه الرئيس الحالي، إذ إن التقييم الذي يتقدم به إدريس سيك للعهدتين الرئاسيتين الماضيتين إيجابي في عمومه، وخاصة في الجانب المادي، لكن له بعض المؤاخذات عليها، لا سيّما على صعيد الحوكمة والعدالة، ويرى أن بإمكانه أن يقدم عملًا أفضل من ذلك، في حال تم انتخابه رئيسًا. ولكن السؤال الذي يواجهه إدريس هو: كيف يمكنه أن يواجه الاستقطاب السياسي الحاد، القائم اليوم في السنغال، بين معسكر الرئيس ماكي صال، ومعسكر المعارض عثمان سونكو، خاصة مع وجود هذا التيار الشبابي الجارف، الذي يحتل الشارع في بعض المناسبات، ويُعَبِّر عن موقفه من التطورات السياسية بحدّة وعنف، الأمر الذي يُعيد إلى الذاكرة بعض لحظات انسداد الأفق السياسي التي حدثت في تاريخ الدولة السنغالية، منذ الاستقلال وإلى اليوم.

أيًا ما كان الأمر، فإن إدريس سيك، يشارك اليوم في الحوار الوطني الذي أطلقه الرئيس ماكي صال. ويرى أنها فرصة للخروج بتوافق وطني عام، تتمثل أول ملامحه في أن يعلن الرئيس عن إحجامه عن أي تطلع لعهدة رئاسية ثالثة. في المقابل، يرى إدريس سيك أن عثمان سونكو ينبغي عليه القبول بوضعه القضائي والخضوع لقرار المحكمة – شأنه شأن أي مواطن عادي – وأن يتراجع عن خطابه التحريضي والتعبوي بصفته معارضًا بارزًا. بهذا الموقف تكون استراتيجية إدريس سيك قد استطاعت التخلص من اثنين من أقوى المنافسين في آن واحد؛ لذلك نراه يدعو أتباع عثمان سونكو للالتحاق بركابه والتصويت له في الانتخابات الرئاسية، في ظل غياب زعيمهم عن الساحة السياسية بمقتضى حكم المحكمة المذكور سابقًا.

لقد كان إدريس سيك، طوال مسيرته السياسية، حريصًا على البقاء ضمن الأغلبية الحاكمة، والعمل من داخل النظام السياسي القائم، والانتماء إلى مؤسسات الدولة الفاعلة. لذلك؛ فمن الطبيعي أن نراه في بعض المناسبات الانتخابية يغادر النخبة الحاكمة، ثم يدخل معها في منافسة، ثم يتجاوز مرحلة الخلافات، ويتجه نحو البحث عن أرضية للالتقاء معها، لكي يعود من جديد إلى دوائرها في السلطة. لكن هذه الاستراتيجية يبدو أنها قد تكون أفقدته كثيرًا من القدرة على استقطاب الناخبين، وأنها – على الرغم من وجاهتها – قد حَدَّتْ بعضًا من مصداقيته.

المعضلة والمخرج .. أفق الحوار، و دور المراجع الروحية

هل يمكن للرئيس ماكي صال – دستوريًا – الترشح لولاية ثالثة؟ لقد حدث ذلك من قَبْلُ في تاريخ السنغال، إذ ترشح الرئيس عبدالله واد لولاية رئاسية ثالثة عام 2012، وكان المجلس الدستوري قد أصدر فتوى قضائية دستورية، تبيح له ذلك. ونافسه الرئيس ماكي صال في هذه الانتخابات، وفاز عليه في الجولة الثانية. وكانت قراءة المجلس الدستوري لنصوص الدستور المنقح لعام 2001، تعتمد على أن العهدة الأولى تمت على أساس دستور 1963، ومن ثم يحق للرئيس – عام 2012 – الترشح مرة أخرى، باعتبار أنها العهدة الثانية اعتمادًا على دستور عام 2001.

جديرٌ بالذكر أن ماكي صال كان من أشد المعارضين لهذا الأمر في حينه. بل أكثر من ذلك، كان من بين وعوده الانتخابية التأكيد على الالتزام بعهدتيْن رئاسيتيْن فقط، والسعي إلى تقليص المدة الرئاسية من 7 سنوات إلى 5 سنوات. واليوم يمكن للرئيس ماكي صال اعتماد الفتوى القضائية نفسها، باعتبار أنه كان قد عدّل الدستور عام 2016، وبذلك تعتبر الولاية الحالية هي الأولى – حسب هذا الدستور – ومن ثم يكون من حقه أن يتقدم في انتخابات عام 2024 لولاية ثانية، وليس ثالثة.

غنيٌّ عن الذكر أن المبررات السياسية التي يعتمدها الرئيس ماكي صال لخوض الولاية الجديدة – وإن لم يصرح رسميًا بذلك – تتعلق أساسًا باحتياج البلاد إلى استمرارية الاستقرار والأمن، لا سيّما في إقليم مضطرب، بفعل تمدد مخاطر ظاهرة الإرهاب العابر للحدود الوطنية، وحدوث انقلابات عسكرية في بعض الدول المجاورة. يُضاف إلى ذلك أن السنغال – خلال فترة حكمه – قد حقّقت نسب نمو مرتفعة.

ومهما يكن من أمر، فإن الطبقة السياسية – من خارج الائتلاف الحاكم – تعارض اليوم ترشح الرئيس ماكي صال لولاية ثالثة، إلى جانب أن هناك جبهات عريضة قد تشكّلت، وهي تشمل شخصياتٍ وأحزابًا، وجمعياتٍ مدنيةً، وكلها تقف على قلب رجل واحد، مناهضةً لمشروع العهدة الثالثة للرئيس ماكي صال، وهي التي التقت عليها “منصة إف24” (Platform F24) بغض النظر عن كون هذه الأخيرة تساند خصمه المرشح عثمان سونكو.

لكن يبقى السؤال المتعلق بموقف المرجعيات الروحية من هذه الأزمة الحادة، والتي تسبّبت في أحداث عنف، وسقوط ضحايا منذ مارس عام 2021.

لقد دأبت المؤسسات الدينية – وخاصة الطُّرُقية منها – على أداء دور إيجابي في الحفاظ على السلم الاجتماعي، والقيام بدور الوسيط في مثل هذه الأزمات. وكان الزعماء والرؤساء في السنغال، كثيرًا ما يلجؤون إلى بعض الرموز الدينية، لا سيّما زعماء الطريقة المريدية، للتشاور والتوسط خارج الدوائر الرسمية، من أجل حلحلة الأوضاع الحرجة. ولعل هذا ما دفع بالرئيس ماكي صال لزيارة مدينة طوبى – وهي المدينة “المقدّسة” لدى أتباع المريدية – في خضم أحداث مطلع شهر يونيو الدامية، لمقابلة الخليفة العام الشيخ منتقى مباكي. وقد يكون ذلك من أجل إطلاق حوار جدي يجمع بين أطراف الأزمة؛ مع الوضع في الاعتبار أن المعارضة – التي يتزعمها عثمان سونكو – قد رفضت المشاركة في الحوار الذي أطلقه الرئيس ماكي صال، في نفس اليوم الذي أعلنت فيه المحكمة حكمًا بالسجن سنتين نافذتين، على عثمان سونكو.

 أمّا على المستوى الدولي، فيبدو أن هناك أطرافًا دولية تُسدي النُّصح إلى الرئيس ماكي صال بالإحجام عن الترشح لولاية ثالثة. وثمة اهتمام غربي أكيد بمحاولة إنقاذ الديمقراطية السنغالية من أية انتكاسة قد تكون لها عواقب سيئة على صورة البلاد وسمعتها، لا سيّما أنها يُنظر إليها بصفتها النموذج الأفضل للتداول السلمي على السلطة في منطقة شديدة الاضطراب، وحيث إن بعض الرؤساء – الذين يتزعمون أنظمة تسعى لكي تكون ديمقراطية – غالبًا ما تراودهم فكرة الاستمرار في الحكم عبر إقرار تعديلات دستورية، بغض النظر عمَّا تُفضي إليه من فقدان مصداقية التجربة الديمقراطية. وفي هذا الصدد فإن المواقف الغربية، التي تدفع نحو احترام الدستور الحالي للسنغال، والالتزام بعهدتيْن رئاسيتيْن فقط، قد صدرت عن أكبر الدول الغربية، ولعل أبرزها ما ورد عن موقف الرئيس الفرنسي ماكرون، والرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. ويبدو أن كُلًا منهما قد أشار على الرئيس السنغالي بالتفكير في بدائل أخرى ممكنة، يستطيع من خلالها الاحتفاظ لنفسه بموقع مؤثر في السياسة الدولية، من خلال منصب أو خطة في مؤسسات أو منصات دولية مهمّة ومؤثرة، مقابل العدول عن الترشح لولاية ثالثة.

خاتمة

مهما يكن من أمر، فإن كل الاحتمالات، التي تستبعد عثمان سونكو من السباق الرئاسي، تُنذر باستمرار الأزمة، والانجرار نحو موجات متتالية من العنف، وخاصة في المدن الكبيرة، ومنها العاصمة دكار، ومدينة زيغنشور. والحلول التي قد يلجأ إليها الرئيس ماكي صال، لكي يُضفي المصداقية على هذه الانتخابات، تتمثل في تسوية الأوضاع لكُلٍّ من خليفة صال، وكريم واد، ومن ثم السماح لهما بالترشح كمنافسيْن له، إلى جانب وجود مرشحين آخرين – مُعتبرين نسبيًا – مثل: إدريس سيك. إلَّا أن هذا المخرج للأزمة – مادام لا يشمل إجراء تسويةٍ ما لوضعية عثمان سونكو – فسوف تكون له تبعات سياسية واقتصادية ضارة بصورة السنغال في الخارج، ولدى الهيئات والمنظمات الدولية المانحة والمقرضة.

والسؤال الآن هو: هل المدة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات كافية لإيجاد مخرج لمثل هذه الأزمة المعقدة؟ قد يكون ذلك الأمر من الصعوبة بمكان، لا سيّما أن كُلًا من طرفيْ الصراع يتمسك بقوة بموقفه واشتراطاته؛ الأمر الذي يُنذر باستفحال الوضع، وانزلاق البلاد نحو أزمة سياسية هيكلية، ويزيد من احتمالات حدوث الانفجارات الاجتماعية، وفقدان الرئيس ماكي صال السيطرة، وتزايد الضغوط الخارجية على الرئيس، وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. الأمر الذي قد يفتح الباب أمام تحرك المؤسسة العسكرية، على غرار ما وقع في بعض الدول المجاورة. صحيحٌ أن هذا الاحتمال قد يبدو مستبعدًا حتى هذه اللحظة، نظرًا لعدم وجود سوابق محلية قامت فيها المؤسسة العسكرية بدور سياسي في السنغال، إلَّا أن تكرار اللجوء إلى الجيش لحفظ النظام، ونزوله إلى الشارع، قد يدفع بعض أبناء هذه المؤسسة السيادية للمبادرة – بصورة أو بأخرى – من أجل حماية استمرارية الدولة، في مواجهة نُخب سياسية غير قادرة على الاتفاق على حلول توافقية، تحمي مكتسبات الدولة الوطنية، وتضمن استقرارها.