• اخر تحديث : 2024-04-30 13:50
news-details
تقارير

مدى تأثير الإصلاحات القضائية على جهوزية الجيش


على مدى أيام متتالية، وبزخم مُتزايد، سلط الإعلام الإسرائيلي الضوء على رسائل الضباط والجنود في قوات الاحتياط الذين يعلنون توقفهم عن المثول للتدريبات المقررة مع التركيز على سلاح الطيران وقوات النخبة وأسلحة الاستخبارات، مثل الوحدة 8200، وضباط من "الموساد" و"الشاباك"، وتنافست المواقع والشبكات الإعلامية في نشر رسائل العسكريين الذين يعلنون رفض الاستمرار في الخدمة احتجاجًا على خطة الإصلاحات القضائية، التي تحولهم إلى خدام للملك وليس للمملكة، وتنزع عنهم درعهم الواقي (المحكمة العليا)، ونشر أعداد الموقعين التي تزداد باضطراد بحسب الإعلانات دون مصادر توثيق تؤكد حقيقة الأرقام. ولأن الأمر يتعلق بالأمن وبوحدات النخبة، تمسكت المؤسسات الرسمية بالتعتيم والغموض، حتى إنها اختارت أن يتم إطلاع وزراء الكابينت فرادى على حقيقة الأزمة داخل الجيش خوفًا من التسريب؛ تسريب الأرقام ومدى التأثير على جهوزية الجيش.
 
الحقيقة أن أعداد الموقعين على رسائل التوقف عن الالتحاق بالتدريبات من قوات الاحتياط مختلفة من مصدر إلى آخر، ومن سلاح إلى سلاح آخر، فهم في سلاح الطيران من 840 إلى 1140، من بينهم تقريبًا 260 طيارًا، وهم من مختلف وحدات سلاح الطيران، ضباط كبار من غرفة التحكم والعمليات، وهي من أخطر وأهم الوحدات، حيث تدريبهم يحتاج إلى وقت طويل، وهم في الأصل طيارون قتاليون، ومن الصعب إيجاد البدائل لهم فيما لو ازدادت أعدادهم، ومن بينهم مَن شارك في الحروب الأخيرة على القطاع، وبحسب صحيفة "هآرتس" فقد نفذ 70% من مجموع الموقعين تهديدهم بعدم الالتحاق بالتدريبات.
 
 
احتجاجات ضباط وجنود الاحتياط ورسائل الأمنيين والعسكريين السابقين ضد الإصلاحات القضائية، هو ليس رد فعل طبيعي من عسكريين تجري الديموقراطية وقيمها في دمائهم يخشون تحول دولتهم إلى دكتاتورية؛ بل جزء من دور، بل ربما أهم الأدوار التي أنيطت بهم من قِبل المعارضة، في خطة متناغمة لاحتجاج هو في الأصل سياسي يتخفى بالخوف على ديموقراطية الدولة، احتجاج يستثمر ويوظف كل مُمكنات القوة الاحتجاجية، بدءًا من الميادين والاقتصاد والنقابات والبنوك والنخب والإعلام، لكن الجيش وسلاح الطيران هو درة التاج في هذا الهرم الاحتجاجي؛ حيث في دولة تنهض وتنام على الأمن، تحظى فيها رسائل احتجاجات العسكر بأولوية وتأثير كبيريْن، لا سيما عندما يبدأ الإعلام في الحديث عن تراجع كفاءة الجيش وخطورة ذلك في مرحلة تشهد تزايد المخاطر الأمنية، واستضافة الكثير من الجنرالات السابقين للحديث عن جدية مخاطر تراجع كفاءة الجيش، وإظهار نتنياهو وعصبة المتطرفين وكأنهم يقامرون بأمن الدولة في لحظة أمنية حرجة، في سبيل تنفيذ انقلاب على الدولة الديموقراطية.
 
كل هذا التركيز الاحتجاجي الأمني استهدف التأثير على وزير الأمن غالنت، باعتباره الحلقة الأضعف في حكومة نتنياهو، بحكم كونه عسكريًا سابقًا والوزير المسؤول عن الجيش، ولأنه في السابق طالب بوقف أو تأجيل سن قوانين الإصلاحات، حتى إن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن اتصل بهِ وحثه على وقف الإصلاحات وحذره من خطورة ذلك على لياقة الجيش.
 
مخاوف الضباط والجنود المحتجين من تحول إسرائيل إلى ديكتاتورية وغياب دور المحكمة العليا، ممّا سيعرضهم لخطر ملاحقة العدالة الدولية؛ كان يُمكن أن يكون حقيقيًا وفي محله لو أن المطروح على أجندة الكنيست حاليًا مجموعة قوانين كبيرة تمس بمكانة المحكمة وتعزز تغول الحكومة على القضاء وعلى الأقلية، لكن إلغاء حجة المعقولية في إطار مقلص - أي عدم إلغائها كاملة، بل الغاء بعض مجالات تطبيقاتها - يجعل احتجاج الجيش احتجاجًا سياسًا مدفوعًا بأجندة سياسية وجزءًا من تأثير اليسار العميق داخل مؤسسات الدولة أو تأثير طبقة النخبة.
 
إسرائيل التي تعيش على الحروب وبين الحروب، لديها حساسية ومبالغة كبيرة جدًا في مدى استعداداتها الأمنية والعسكرية، يترجم ذلك في أولويات الإنفاق الحكومي على القطاع العسكري، وفي حجم المساعدات الأمريكية للقطاع العسكري والصناعات العسكرية، ومستوى لياقة الجيش يعتبر أحد أهم المؤشرات التي يُراقبها قادة الجيش، ولا سيما لياقة القدرات القتالية لسلاح الطيران، والتي للمحافظة عليها لابدّ من المحافظة على التدريبات الشهرية والأسبوعية.
 
عندما كان الجيش يضطر إلى نشر المزيد من الوحدات العسكرية في الضفة، كان يترافق ذلك دومًا مع الحديث عن مدى تراجع القدرات القتالية والتآكل على قدرات الجيش بحكم التغيب عن التدريبات الدورية.
 
حساسية الخوف من تراجع الكفاءة القتالية هي ما ركز عليه الإعلام، فهو ركز على أهم أعصاب المنظومة الأمنية حساسية، ليضغطها، لتضغط بدورها على المستوى السياسي، وهذا ما فشلت بهِ وتهرب منه نتنياهو، حيث رفض الاستماع لأيّ إحاطة أمنية عن مدى تأثير تغيب الجنود على كفاءة الجيش وخطورة الانقسام السياسي على الجيش قبل التصويت ورفض أن تجري مثل هذه الإحاطة للوزراء خوفًا من تأثيرها على نتيجة التصويت.
 
المبالغة الكبيرة في تأثير ما حدث في الجيش على كفاءته القتالية هي أمر شديد الوضوح، لها أهداف سياسية، فلا يُعقل أن تتأثر كفاءة الجيش بعد تغيب عدد محدود عن تدريب واحد أو اثنين، لا سيما أن ليس ثمة خطر حقيقي باندلاع حرب واسعة في هذه الأثناء، بحيث يضطر الجيش إلى الدفع بكامل إمكانياته الاحتياطية، لكن خطر تراجع الكفاءة أمر وارد في حال استمرار الاحتجاجات وازدياد رقعتها داخل الجيش، وهو امر مستبعد الآن بعد أن تم تشريع القانون وإعلان نتنياهو تجميد الإصلاحات حتى سبتمبر والدعوة إلى حوار مع المعارضة.
 
لكن حتى في حال عودة الأمور إلى طبيعتها داخل الجيش وعودة الجنود والضباط إلى مواقعهم، فإن ما حدث من تغلغل الانقسام السياسي إلى الجيش والتقبل إلى حد ما لمفهوم الاحتجاج، وهو نوع من أنواع التمرد، وشرعنته ودعمه من قِبل عسكريين سابقين وكبار السياسيين، مثل ايهود براك؛ يُحدث مسًا كبيرًا ببقرة الجيش المقدسة، التي كانت تنظر إلى التمرد الاحتجاجي كنظرتها إلى الخائن، بإجماع شعبي وسياسي.
 
الانقسام في إسرائيل بات حقيقيًا ووصل إلى جميع أذرع ومجالات الدولة، وإسرائيل الغد لا تشبه إسرائيل بالأمس، حيث الخوف من الآخر أصبح حقيقيًا، ولم يعد خطر اليمين الفاشي أمر يُمكن احتواؤه من وجهة نظر أحزاب الوسط، وإن مخالبه لم تكتفِ بإحكام السيطرة على الضفة؛ بل تتطلع لإحكام سيطرته على كامل مؤسسات الدولة.