• اخر تحديث : 2024-05-02 11:58

في ضوء خطورة الأوضاع التي تمر بها دول عدة في منطقة الساحل الأفريقي، وتفشّي التهديدات الإرهابية، والتمدد الجغرافي لأنشطة الحركات المسلحة السياسية منها، أو الأيديولوجية، تشعر بعض الدول المشرفة على خليج غينيا -التي لم تصلها بعد الظاهرة الإرهابية بعمق- أنها مستهدفَة بصورة أو بأخرى، وإن ظل بعضها في منأى عن عمليات مباشرة، تهدد أمنها واستقرارها وسيادتها على أراضيها. وتعدّ جمهورية غانا إحدى هذه الدول بالنظر إلى أنها محاطة من الشمال والشرق والغرب، ببلدان تعاني منذ سنوات مختلف التهديدات الإرهابية.

تتناول هذه الورقة الموقع الذي تحتله غانا في استراتيجية الحركات المسلحة المنتشرة والنشطة في منطقة الساحل والصحراء، وتحلل الأُطُر والعوامل المغذية للعنف المتشدد، أو التي يمكن أن توظفها الحركات الإرهابية في تأجيج النزاعات، واستقطاب النشطاء والمقاتلين وتجنيدهم.

 أولًا: موقع غانا في استراتيجية الحركات الإرهابية: قاعدة احتياط ومستودع لوجستي

تزداد الأهمية الاستراتيجية لخليج غينيا على خارطة التجارة العالمية، بفعل التنافس الدولي بين القوى الدولية التقليدية الكبرى، والقوى الصاعدة في أفريقيا والمحيط الأطلسي، خصوصًا بعد الاكتشافات الأخيرة في موارد الطاقة، والأنشطة الاستخراجية للشركات المتعددة الجنسيات.

في ضوء ذلك، تعمد الحركات الإرهابية هي الأخرى إلى تحديث استراتيجياتها، وتنويع تكتيكاتها، لتشمل مساحات جديدة بهدف الاستفادة من هذه الموارد الطبيعية. وفي هذا الصدد، لوحظ منذ سنة 2020، تزايد العمليات الإرهابية التي استهدفت بلدانًا مطلة على خليج غينيا، مثل: توجو، وبنين، وساحل العاج، وهو ما يشكل -مقارنة بمراحل سابقة– تطورًا ملحوظًا في استراتيجية وخارطة نشاط هذه الحركات، التي تعمل في منطقة غرب أفريقيا، مثل تنظيمَيْ "القاعدة"، و"داعش".

 ويستهدف اتساع المجال الجغرافي، لتهديدات التطرف العنيف، من الشمال نحو الجنوب، مجمل الدول المطلة على خليج غينيا، ويُضَيِّق دائرة الاستثناءات، خصوصًا بامتداد المخاطر، لتشمل دولًا مثل غانا. وبصفة عامة كان التوجس من خطط جماعات التشدد العنيف، للتوسع من الشمال نحو الجنوب –أي نحو خليج غينيا- قائمًا لدى المراقبين والمحللين، والقوى المحلية والدولية، منذ ما قبل عام 2020.

وتمثل غانا -ضمن مجموعة دول أخرى- حالة استثنائية على خارطة النشاط الإرهابي في المنطقة، وذلك برغم أنها على تماسٍّ مع بوركينا فاسو، إحدى أكثر الدول هشاشة في المنطقة، والأكثر تضررًا جرّاء نشاط الجماعات الإرهابية؛ فبرغم العجز الذي يصيب مجموعة دول مجاورة، بسبب ضعف أداء أجهزتها الأمنية، وهشاشة مؤسساتها السياسية والسيادية، فإن هذه الدول التي تقع على الشريط الساحلي الممتد من المغرب وينتهي بغانا، شكَّلت عام 2022 حالة استثناء، إذ لم تشهد أيّ عملية إرهابية في هذا العام

وبرغم هذه الحالة الاستثنائية وبرغم أنها لم تكن يومًا مسرحًا لعمليات إرهابية، فإن هناك مؤشرات عدة توحي بإمكانية توسّع عمل الجماعات المسلحة نحو غانا، وهو ما أدركته الأوساط غير الرسمية، والأجهزة الدولية والإقليمية. ومن هذه المؤشرات وربما أهمها، هو أن غانا تشكّل ما يمكن اعتباره قاعدة احتياط أو مستودعًا لوجستيًّا في استراتيجية التنظيمات الإرهابية، إذ ظلت ساحة لتجنيد المقاتلين. فبرغم اختلاف المصادر في تقدير أعداد الغانيين في صفوف التنظيمات الإرهابية التابعة للقاعدة أو داعش، فقد تحدثت مصادر في عام 2022 عن استقطاب 300 مقاتل غاني، للعمل في مختلف جبهات القتال في منطقة الساحل، فيما قدّرت السلطات الغانية هذا العدد بنحو 100 غاني. ويُذكَر أن مصادر غانية رسمية أعلنت منذ سنة 2015، أنها سجلت على الأقل حالتَيْ التحاق لغانيين بتنظيم داعش في سوريا. فيما أشارت مصادر غانية إلى وجود ما لا يقل عن 100 عنصر غاني يقاتلون في ليبيا في صفوف تنظيمات تابعة لداعش. ومنذ عام 2015، بدأ يظهر قلق في أوساط المسلمين الغانيين من نشاط تنظيم "داعش" بين صفوف الطلبة والشباب، وبدت ملامح هذا القلق في بعض التقارير الواردة من المنطقة، التي تتحدث عن تجنيد يتم عبر منتديات افتراضية، يديرها التنظيم، وتستند هذه التقارير إلى تقارير غانية رسمية.

إلى جانب عمليات تجنيد المقاتلين، فإن الحركات الإرهابية سعت أيضًا إلى تأسيس خلايا نائمة تابعة لها في غانا تضم المقاتلين الذين تركوا ساحات القتال، إذ ترى الحكومة الغانية أن جزءًا مهمًّا من هؤلاء المقاتلين عادوا إلى مواطنهم الأصلية شمال البلاد، في القرى والبلدات القريبة من الحدود مع بوركينا فاسو؛ وتعتبرهم خلايا نائمة. ولاسيما أن الحدود بين البلدين يسهل اختراقُها؛ حيث بلغ عدد نقاط العبور الحدودية غير الرسمية التي تُستخدم للدخول والخروج، بعيدًا عن رقابة السلطات الرسمية، نحو 189 نقطة حدودية.

في هذا الإطار، وعلى سبيل المثال، أبلغت بوركينافاسو السلطات الغانية في عام 2019 أثناء عملية لمكافحة الإرهاب في جنوب البلاد، بوجود إرهابيين مختبئين في شمال غانا. ومن قبل تمّ إيقاف 170 مشتبَهًا بهم خلال عام 2018 على الحدود الشمالية المشتركة، بين توجو وغانا، في عمليات مشتركة بين أجهزة البلدين لمكافحة الإرهاب.

من جهة أخرى سعت التنظيمات الإرهابية إلى تحريض الأقليات المسلمة في غانا، مثل إثنية الفولاني ضد الحكومة في محاولة لكسب دعم هذه الأقليات؛ حيث دعا أمادو كوفة Amadou Koufa قائد كتيبة ماسينا، العضو في جبهة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، الفولاني للجهاد ضد الحكومة في غانا في يونيو 2018. وتبعه أبو دجانة الغاني، العضو في "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الذي تعود أصوله إلى منطقة كاراغا شمالي غانا، حينما ظهر في شريط فيديو في يونيو عام 2021، قبل قيامه بعملية انتحارية استهدفت قاعدة عسكرية فرنسية في مالي؛ داعيًا الفولاني في منطقة غربي أفريقيا عمومًا، للالتحاق بالقتال في صفوف التنظيم، وإلى الجهاد ضد غانا. علمًا بأن أبرز قادة "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في منطقة غربي أفريقيا، كانوا من الفولاني، ومن بينهم إبراهيم مالام ديكو، الذي قتل في عام 2017، وأخوه جعفر ديكو، بل تؤكد المصادر أن أغلب مقاتلي الجماعة ينحدرون من أصول فولانية، وأنها أكثر نشاطًا في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ولها وجود في شمالي غانا.

ولا يبدو -إلى الآن على الأقل- أن تنظيم داعش يوجد بالمستوى الذي عليه جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، إلا أن ذلك لا يمنع من أن يؤدي التنافس القائم بينهما في كل الإقليم، من أن يتقدم "داعش"، ويجد له موقع قدم في شمالي غانا ومهما يكن من أمر، فإن التنظيمات العاملة في غربي أفريقيا، تتجه نحو تعبئة أبناء إثنية الفولاني في كل دول الإقليم.

وقد كانت المنطقة الشمالية لغانا مسرحًا لأعمال عنف إثني سُجلت طوال السنوات الماضية ولعل آخرها كان في شهرَي يناير وفبراير من سنة 2023 راح ضحيتها عشرة أشخاص، وكانت ناتجة عن مواجهات بين قبيلتَيْ كوساسي ومامبروسي. وفي شهر فبراير من السنة الجارية أعلنت السلطة أنها أفشلت عملية تفجير لجسر في منطقة "باوكو" (Bawku)، الواقعة شمال البلاد، بعبوات ناسفة محلية الصنع (improvised explosive device (IED)) ، وهي أيضًا مسرح لنزاعات بين الزعماء المحليين لمختلف القبائل والإثنيات التي كثيرًا ما تظل مستمرة دون أن تجد لها السلطات المحلية حلولًا. وقد تم رصد ما لا يقل عن 352 نزاعًا محليًّا في المنطقة الشمالية لسنة 2022 إن مثل هذا الوضع الإثني، بكثرة نزاعاته وصراعاته، وملابسات تفكك العلاقات بين الإثنيات والقبائل، مع دخول مستمر للرعاة ومربّي الماشية الرُّحَّل، ونزوح ما لا يقل عن 6 آلاف شخص من جنوب بوركينا فاسو إلى شمال غانا هربًا من الحروب والمعارك، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بفعل الأزمة والجفاف.. هو الإطار المناسب الذي تودّ جماعات التشدد العنيف والجريمة المنظمَة استثماره.

 وفي هذا السياق يبقى شمال غانا، مثل جنوب بوركينافاسو، في استراتيجية الجماعات الإرهابية قاعدة خلفية ينسحب إليها المقاتلون، ويعمل فيها الدعاة للتجنيد والدعاية، ولكنها أيضًا ممرٌّ آمن للعبور، والتموين، والتمويل، والتهريب. وتستفيد هذه الجماعات النشطة على الحدود المتقاربة للدول الأربع (بوركينا فاسو، والتوغو، وساحل العاج، وغانا) من وجود الشبكات العاملة خارج القانون والمسيطِرة على الاقتصاد الموازي، ولاسيما في التعدين والتجارة، ومن القرصنة البحرية والتهريب. كما تستفيد من التنسيق المستمر مع شبكات المهربين ومن الفساد المنتشر بين أعوان وموظّفي بعض السلطات المحلية، وذلك باعتبار أن جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود بحاجة دائمًا إلى سند محلي، سواء من الجماعات والزعامات المحلية أو عبر اختراق الإدارة والأجهزة الرسمية عبر الرشوة والإفساد.

ثانيًا: الأُطُر والعوامل المغذية للعنف المتشدد في غانا:

هناك مجموعة من الأُطُر والعوامل التي تشكّل بيئة خصبة لظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية في غانا، من بينها ما يلي:

1- التفاوت الاجتماعي الكبير والعميق

تسعى جماعات العنف المسلح إلى استثمار انتشار مشاعر الحقد والكراهية، التي يخلّفها التفاوت الاجتماعي الكبير والعميق في غانا، بين الشمال عمومًا، وبين الشمال والجنوب، ويتشابك هذا التفاوت مع تمايز إثني/ لغوي وديني، في الكثير من الحالات؛ إذ إن غالبية المسلمين الذي يشكلون قرابة 20% من مجمل سكان غانا، يسكنون في الشمال، في حين أن المسيحيين الذي يشكلون 71% من السكان، يستوطنون الجنوب.

وتثير إثنية الفولاني في غانا جدلًا مزمنًا؛ ذلك أنها كانت -ولا تزال- الجماعة العرقية الأكثر استهدافًا وتهميشًا -بحسب تقارير دولية متخصصة من قبل المجتمع والدولة الغانية ومؤسساتها، ويظهر ذلك في السياسات الحكومية والمحلية، والخطاب الرسمي والإعلامي، والمعاملات الإدارية، والمواقف الشعبية. علاوة على بعض القوانين، التي كانت تستهدف إقصاءهم عن الموارد والخدمات، بل وصل الأمر إلى حدّ عدم الاعتراف بوجودهم كإثنية بعينها في الإحصاءات السكانية الرسمية الحديثة؛ إذ كثيرًا ما يوضعون ضمن خانة "القبائل الأخرى" (AllOther Tribes) في الإحصاءات لذلك فليس هناك تقديرات دقيقة لعددهم.

ويعتمد الدارسون لشؤون إثنية الفولاني في غانا، على الإحصاءات الرسمية القديمة نسبيًّا. أما عن الوضع الراهن، فهم يقدمون تقديرات كثيرًا ما تكون متباينة. لكننا نلاحظ أحيانًا وجود تقارب في الأرقام التي تقدمها مصادر فولانية غانية، مع ما تعتمده بعض الدراسات الأكاديمية المتخصصة؛ ففي إحصاء أُجري سنة 1948، قُدِّر عددهم بـ 20 ألف نسمة، ثم ارتفع العدد إلى 25 ألفًا، في إحصاء سنة 1960. أما أحدث إحصاء سكاني في غانا، فقد شمل إثنية الفولاني، وقُدِّر العدد بـ 300 ألف نسمة. في حين تُقدّر مصادر أخرى أن عددهم يصل إلى 800 ألف نسمة. وقد يعود اختلاف التقديرات، وخاصة الأخيرة منها، إلى عدم اعتماد معايير موحَّدة، لتحديد هويات السكان الفولاني؛ فجزء كبير من الفولاني الموجودين في غانا، تَعُدُّهم السلطات الرسمية ضمن الأجانب. ومن جهة أخرى، فثمة تمييز بين الفولاني الرُّحَّل وغير الرُّحَّل؛ لذلك فقد تكون الإحصاءات المعتمدة لا تشمل الرعاة المتـنقلين، الذين يصنَّفون عادة بصفتهم نازحين من بوركينا فاسو، والنيجر، ونيجيريا؛ في حين يرون أنفسهم موجودين في البلاد، منذ ما لا يقل عن 400 سنة. لكن الدراسات الأكاديمية تتحدث عن وجود للفولاني في غانا منذ 100 سنة فقط.

 وعمومًا، يسكن الفولاني أكثر الأقاليم فقرًا وتخلفًا، وتبعية للتقلبات المناخية، باعتبار اعتمادهم على الرعي والزراعة، وهي المناطق الشمالية المحاذية لبوركينا فاسو، لكنهم موجودون بنسب أقل في مناطق أخرى، مثل: دائرة العاصمة أكرا (أو ما يسمى أكرا الكبرى)، وإقليم "آشانتي" (Ashanti)، ومنطقة الشرق. ولعل عدم التمركز في منطقة واحدة جعل بعضهم، ولاسيما من الجيلين الثاني والثالث، ينجح في الاندماج النسبي في المجتمع، واحتلال مكانة اجتماعية ضمن دائرة الطبقة الوسطى من المثقفين والمهن الحرة.

 2- الانقسامات والانشقاقات داخل المسلمين الغانيين:

حدث نوع من الانشقاق داخل المسلمين الغانيين، على أساس مذهبي ديني وإثني؛ فالمسلمون الهوسا، توجهوا نحو الطريقة الصوفية التيجانية الوافدة من السنغال، وسيطروا على المؤسسات الدينية الرسمية، التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واعترفت بها الدولة كمؤسسة دينية، تمثل المسلمين من الناحية الرسمية.

وفي هذه الأثناء، ومع عودة بعض الطلبة من الدول العربية، انتشرت الحركة السلفية، وخاصة في صفوف الفولاني، وشكّلوا كتلة معارضة لسيطرة التيجانية على المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية، بدعم السلطات السياسية؛ حيث كانت بعض التيارات الحزبية تبحث -في الطبقة السياسية الغانية- عن استقطاب الناخبين المسلمين لها، في المناسبات والاستحقاقات السياسية.

وفي هذا السياق، قام بعض زعماء التيجانية الهوساوية في غانا، بالتصدي "العنيف" في بعض الحالات، لانتشار السلفية في بعض الأوساط الشبابية من الفولاني، التي ستتجه لاحقًا نحو مقاومة السيطرة الهوساوية التيجانية على المشهد الإسلامي المؤسسي في غانا. وقد أدى ذلك -في بعض الحالات- إلى تعاون بين الفرق والمذاهب الإسلامية، الأكثر اندماجًا في المجتمع الغاني، والأكثر تعاملًا مع الدولة، على حساب إثنية الفولاني؛ فبدعم من السلطات الرسمية، وجد الفولاني أنفسهم مهمَّشين ومستبعَدين ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا. وإن كان هذا التهميش قد اختلف بحسب طبيعة الشخصية الزعاماتية الروحية المُمْسكة بالمؤسسة الدينية الإسلامية، حتى وإن كانت دائمًا هوساوية وتيجانية-مالكية. وبالتالي كان على هذه المؤسسة أن تتعامل مع المتغيرات المذهبية، الناتجة عن دخول مدارس ومذاهب أخرى مختلفة عن السائد التاريخي في غانا، وفي عموم غربي أفريقيا، منذ الاستقلال عن الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتوحيد المسلمين في غانا، تحت مظلة واحدة -تكون بيد التيجانية- فإن بقية الجماعات والفرق اتجهت نحو إيجاد المؤسسات الخاصة بها.

 3- هشاشة النظام السياسي والاقتصادي

تبدو غانا، من خلال قراءة تاريخها الحديث، طوال السنوات القليلة الماضية، من أكثر بلدان منطقة غرب أفريقيا وخليج غينيا استقرارًا سياسيًّا، وقدرة على تحقيق نسب نمو اقتصادي أفضل بكثير مما تنجزه الكثير من دول القارة، وخاصة المجاورة منها. ومن بين أهم أسباب ذلك، هو التداول السلمي للسلطة، بين الحزبين الرئيسيين في البلاد: (المؤتمر الوطني الديمقراطي، والحزب الوطني الجديد). وفي كنف احترام الدستور والقانون وعمل المؤسسات العامة، تم إجراء 8 استحقاقات انتخابية حرة، خلال السنوات 1996-2020. وهذه الوضعية منحت النظام السياسي السائد في البلاد، مصداقية دولية وإقليمية، وخاصة أنه انخرط، منذ سنوات عدّة، في تحالفات وتدريبات دولية وإقليمية، في محاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وتبنّى بشكل مبكر نسبيًّا، خطة وطنية لمواجهة مخاطر تدهور الوضع الأمني في الإقليم وتداعياته.

لكن هذا الوضع الإيجابي السياسي، والاقتصادي، والأمني، السائد في غانا، لا يمكنه أن يُخفي هشاشته الواضحة؛ فالاقتصاد الذي يعتمد على الصناعات الاستخراجية والتصدير، يظل مرتهَنًا للمناخات الدولية، لذلك عانى الاقتصاد الغاني أزمة كوفيد-19، ثم تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية؛ فتراجعت نسب النمو، وارتفعت نسب التضخم، والتهبت أسعار المواد الغذائية في السنوات الأخيرة.

وتتضافر هذه الأزمات الظرفية مع سوء توزيع للثروة، والتفاوت الاجتماعي، وغياب الحوكمة الرشيدة، واستشراء الفساد الإداري، لذلك لوحظ في السنوات الأخيرة، انتشار السخط الاجتماعي، الذي وَلّد حملة شعبية واسعة، أطلق عليها: "أصلح البلاد" (Fix The Country). والاتجاه نحو التشكيك في جدوى الديمقراطية، في ظل أزمة، وفساد مالي وإداري، ونسب بطالة مرتفعة، واختلالات اقتصادية، ووضع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.

هذه الهشاشة التي يبدو عليها النظام الاقتصادي والسياسي في غانا، تعدّ - من قريب أو بعيد - أحد العوامل المغذية للتهديدات، التي تستفيد منها جماعات العنف والجريمة المنظمة، فغانا حتى وإن بدا أنها نجت -بصورة أو بأخرى- من نشاط الجماعات المتشددة العنيفة - ولو نسبيًّا - إلا أن ذلك لا يمنع وجود نشاط جماعات الإجرام المنظَّم، التي كثيرًا ما تستهدف الأجانب، من أجل الابتزاز. فمدينة كوماسي (الواقعة شمال غانا)، والعاصمة أكرا، شهدتا سنة 2019 عمليات خطف لدبلوماسيين وسياح ورجال أعمال، ثم أُطلِق سراحُهم مقابل فدية. كما لاحظت تقارير دولية مختصة ازدياد نشاط التهريب وتسهيل العبور غير القانوني للأشخاص والبضائع، وازدهار صناعة تزوير وثائق السفر والتأشيرات الدولية للعبور خارج حدود مجموعة "إكواس" ومنها إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط باتجاه أوروبا

خاتمة:

يبدو أن الجهود التي تبذلها الحكومة في غانا، بالتعاون مع القوى الإقليمية والدولية لمواجهة الإرهاب، ليست كافية للصمود مدة طويلة في وجه الزحف المخيف لنشاط جماعة التشدد العنيف، القادمة من بوركينا فاسو على الحدود الشمالية. وقد يكون التهديد الوافد من الحدود مع التوغو وساحل العاج، أقل كثافة وجدية. لكن شمال غانا تحول في السنوات القليلة الماضية إلى بؤرة تنشط فيها خلايا نائمة، في مجال الإمداد والتجنيد، وتأمين العبور عبر الحدود النفاذة. كما أنها تؤمن التمويل، والدعم اللوجستي، والتعاون والتنسيق مع عصابات الإجرام المنظَّم.

وتتوافر مجموعة من العوامل التي تغذي ظاهرة الإرهاب وتوفر بيئة خصبة تستطيع جماعات الإرهاب استغلالها، منها: تراجع أداء الأجهزة الغانية نتيجة انعدام الخبرة، ومحدودية الموارد المخصصة، بالإضافة عوامل موضوعية أخرى، منها، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والإقصاء الذي يشكو منه السكان من إثنية الفولاني. ويبقى أن التنافس بين الجماعات الإرهابية الموجودة في الدول المجاورة لغانا قد يكون سببًا في دخولها قائمة البلدان التي طالها العنف المسلّح.