يبدو أن حكام الإمارات حزموا أمرهم من أجل السيطرة على شمال إفريقيا ومنطقة المغرب العربي، فبعد تغلغلهم في كل من ليبيا والمغرب وتونس، تُحاول الدولة الخليجية مد عروقها في الجزائر وذلك في إطار مشروع ثورة مضادة لضرب مساعي التغيير السياسي عبر أدوات الضغط وآليات طورتها أبو ظبي في السنوات الأخيرة لزيادة مشاركتها في المنافسات الجيوسياسية لإفريقيا، بما في ذلك التحالفات السياسية والمساعدات الاقتصادية والاستثمارات والاتفاقيات العسكرية والعقود التجارية...
تحاول أبو ظبي جاهدة تطويع الجزائر لخدمة أجندتها الإقليمية المتمثلة في مشروع النظام العربي الجديد الذي يعد التطبيع مع الكيان الصهيوني أحد أعمدته الرئيسية، ويرى حكام الإمارات أن الدولة العربية الواقعة في شمال إفريقيا آخر حجر عثرة أمام تحكمها في خيوط بنية العلاقات خارج حدودها الجغرافية.
آخر الورقات التي لعبتها أبو ظبي لابتزاز الجزائريين كانت وضع مواطني الدولة العربية الواقعة في شمال إفريقيا على قائمة الممنوعين من دخول أراضيها وفق تعميم أصدره مجمع الأعمال المملوك لدولة الإمارات، وجاء فيه منع الجزائريين ومواطني 12 دولة أخرى من دخول البلاد بعد أيام من جدل بشأن صحة القرار، وصمت رسمي.
التحركات الإماراتية في إفريقيا تؤكد مساعيها الحثيثة من أجل ضرب حصار على الجزائر نظرًا لثقل هذه الدولة دبلوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فحكام أبو ظبي لديهم وجود قوي في ليبيا عن طريق اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يمثلها تقريبًا في كامل مناطق الشرق، وأيضًا في مصر باعتبارها الداعم الرئيس لعبد الفتاح السيسي وانقلابه على الرئيس الشرعي الراحل محمد مرسي، وكذلك الحال في تونس حيث تخوض حربًا ضد ما تسميه الإسلام السياسي وتقدم الدعم الإعلامي واللوجستي للحزب الحر الدستوري بقيادة عبير موسي، وفي النيجر أيضًا لديها حضور قوي خاصة بعد إنشائها قاعدة عسكرية على بعد أقل من 400 كيلومتر فقط من الجزائر، وفي مالي تُعد الممول الأساسي للغزو والحرب الفرنسية، كما تسيطر الدولة الخليجية أيضًا على موريتانيا التي تتحكم تقريبًا في ميزانيتها بالقروض والتمويلات.
من جهة أخرى، يمكن القول إن التقارب الإماراتي المغربي أحد أهم فصول الضغط السياسي الذي تمارسه أبو ظبي على الجزائر من أجل تطويعها ودفعها إلى ركن العجز الدبلوماسي وقبولها بالأمر الواقع، فعلى الرغم من أن الدولة الخليجية لم تكن علاقتها بالرباط بأفضل حال، خاصة أن الأخيرة عُرفت بموقفها المحايد في الصراع بين أبو ظبي والدوحة (الخلاف الخليجي)، بل بميولها إلى قطر حينما ساعدتها في تمويل بالمواد الغذائية في مواجهة الحصار، الأمر الذي دفع البلدان إلى تبادل هجمات إعلامية شديدة أجبرت المغرب على سحب قواته في التحالف العربي في اليمن، إلا أن الإمارات خفضت من منسوب التوتر واستثمرت في قضية الصحراء الغربية بفتحها لقنصلية في مدينة العيون، والهدف الرئيس من هذه الحركة هو توتير العلاقات بين المغرب والجزائر وزعزعة استقرار المنطقة خدمة لمشروعها الإستراتيجي.
وفي هذا الجانب، يرجح سياسيون وناشطون جزائريون أن يأتي اعتراف الدولة الخليجية بمغربية الصحراء، في هذا الوقت تحديدًا في سياق تأزيم الأوضاع في المغرب العربي وتعقيدها ومحاولات الضغط على الجزائر التي تعد حجر عثرة أمام مسار التطبيع العربي الشامل مع الاحتلال الإسرائيلي، فأبو ظبي أدركت مؤخرًا أن قواعد اللعبة تغيرت وأن النظام الحاليّ أقل ولاءً لها وتبعيةً ويصعب التحكم في قراره السيادي، لذلك لم تجد إلا الضغوط وتحريك ماكينة الفتنة.
التحركات الإماراتية دفعت رئيس حركة مجتمع السلم ـ أكبر حزب إسلامي بالجزائرـ عبد الرزاق مقري إلى اتهام حكام أبو ظبي بقيادة مشروع زعزعة استقرار منطقة المغرب العربي، معلقًا في تغريدة على موقع تويتر، على أزمة معبر الكركرات الحدودي بين المغرب وموريتانيا، "الإمارات في مدينة العيون.. أينما حلت الإمارات تعقدت الأزمات.. وسالت الدماء".
وفي مداخلة مع "نون بوست" أرجع الصحفي الجزائري رياض المزوزي التدخل الإماراتي في الجزائر إلى أن أبو ظبي لم تستسغ طريق التغيير الذي انتهجته بلاده الذي وصفه بالربيع العربي الهادئ الذي أسقط منظومة حكم خنقت البلاد والعباد لأكثر من 20 سنة كاملة، لذلك عملت الدولة الخليجية على بث الفوضى خلال مسيرات الحراك الشعبي في 22 من شباط\ فبراير 2019 من أجل نفخ الروح في جسد سلطة بوتفليقة عبر الإعلام الذي سوق للخوف وإمكانية وصول الجزائر إلى السيناريو السوري واليمني وكذلك الليبي.
الصحفي الجزائري أشار أيضًا إلى الدور الذي لعبته قناتا العربي وسكاي نيوز في إخراج الحراك الشعبي عن سياقه السلمي الحضاري وتقديمه على أساس مشروع فوضوي لهدم الدولة وتقويض استقرارها، مؤكدًا أن الخلاف الإماراتي الجزائري طفا لأول مرة على السطح حينما اختار قائد أركان الجيش الجزائري الراحل القايد صالح الذي كان محسوبًا في وقت سابق على أبو ظبي، مصلحة بلاده والتمترس في صفوف الشعب.
محاولات أبو ظبي لزعزعة الاستقرار الجزائري تعود أيضًا بحسب المزوزي إلى خسارتها الأفضلية الاقتصادية بعد انهيار نظام بوتفليقة الذي مكنها في فترة حكمه من جني أرباح طائلة، مضيفًا أن خلاف ازداد حدته بعدما تقرر سحب تسيير أربعة موانئ كبيرة في الجزائر من شركة موانئ دبي العالمية، وهي الموانئ التي كانت الإمارات تحقق فيها أرباحًا تفوق الـ70 في المئة، خاصة في ميناء الجزائر الدولي.
خسائر الإماراتيين لم تقف عند هذا الحد، فقد تحطم حلم أبو ظبي وباريس على حد سواء في إنجاز وتسيير ميناء الحمدانية، وهو أكبر ميناء على المستوى الإفريقي بغلاف مالي يتراوح بين 5 و6 مليارات دولار، ومن شأنه معالجة 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن من البضائع سنويًا، وبعد نجاح الحراك الشعبي أصبح الميناء يُدار بالشراكة بين الجزائر والصين، وهو على ما يبدو لم تستسغه الإمارات.
وفي ذات السياق، أكد المزوزي أن الإماراتيين صفعوا مجددًا بعد أن أهانهم وانتقدهم بشكل لاذع الرئيس تبون على خلفية تطبيعها مع "إسرائيل"، حيث وصفهم بـ"المطبعين والمهرولين"، لذلك تحاول الإمارات إشعال المنطقة وزعزعة الاستقرار الداخلي الجزائري من خلال جيشها الإلكتروني لتقسيم منطقة القبائل وتحريك ملف الصحراء لإشعال الحدود الغربية، بعدما لجأت أبو ظبي إلى فتح قنصلية بمنطقة العيون ودعم موقف المغرب في التدخل العسكري بالكركرات، مشيرًا إلى أن حدة الخلاف مرجحة للتوسع بعد أن تبين بشكل واضح توجه الجزائر نحو القطب الصيني الروسي والتركي في المشاريع والمواقف وغيرها.
في المحصلة، يمكن القول إن التطورات الداخلية في الدول العربية خاصة في شمال إفريقيا، والمتمثلة في الثورات الشعبية التي انطلقت عام 2011، بالإضافة إلى التنافس الجيوسياسي المحموم بين القوى الإقليمية والدولية في تلك المنطقة على تحصيل موطئ قدم دفعت الإمارات إلى دق أجراس الخطر، فمصالحها الأمنية والاقتصادية التي كان يرعاها حكام موالون باتت مهددة، وبالتالي فإنها تسعى إلى تحصين نفسها أولًا من المد الثوري ومن ثم الانطلاق إلى خارج حدود الجغرافيا وفق مبدأ "امنح قليلًا وطالب بالكثير"، لكن على ما يبدو أن الجزائريين أيضًا لهم قوانينهم الخاصة أهمها "صديق عدوي داخل في عداوتي".