علّق الكاتب آلان فراشون في عموده بصحيفة "لوموند" الفرنسية على الاختراق السيبراني واسع النطاق الذي تعرضت له إدارات وشركات أميركية كبيرة، مشيرا في هذا الإطار إلى "الطبيعة الضبابية" للفضاء الإلكتروني.
وأبرز الكاتب الاتهام الصريح الذي وجهه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لروسيا في هذه القضية، في حين التزم الرئيس دونالد ترامب حتى الآن الصمت، وإن كان مستشارون في البيت الأبيض أشاروا أيضًا إلى مسؤولية "روسية"، أما جو بايدن الرئيس المنتخب فقد تحدث، دون تسمية أي شخص بالاسم، عن الحاجة إلى الرد.
وذكر الكاتب أن قضية التجسس التي كانت الولايات المتحدة ضحية لها اكتشفت في الأيام الأخيرة، ومن المرجح أن تزيد من تسميم العلاقات بين موسكو وواشنطن، لافتا إلى أن حجمها الاستثنائي سيجعلها واحدة من أكبر الضربات الاستخبارية في القرن.
وينقل، في هذا الصدد، عن نيكولا ماتزوتشي الخبير في مؤسسة البحوث الإستراتيجية (FRS) الفرنسية، قوله إن مثل هذه العملية لا يمكن أن يقوم بها سوى الدول أو عصابات الجريمة الإلكترونية المنظمة.
ملاء الوقت الحاضر
ونبّه فراشون على أن الفضاء الإلكتروني مجال لعمليات مهووسة، ولم يعد الجاسوس ذاك الشخص الذي يعيش في عالم مضطرب وعاصف كما في روايات جون لو كاريه.
فعملاء الوقت الحاضر لم يعد أغلبهم بحاجة إلى تجاوز أي حدود جغرافية وأخلاقية، إنهم يعملون في الفضاء السيبراني، ذلك "المكان" الخارج عن الحدود، وغير الملموس الذي يبدو أنه لا توجد قواعد تحكمه، فهل يمكننا إذن فعل كل شيء في الفضاء السيبراني؟ ومتى يتحول التجسس إلى عدوان صريح؟ يتساءل الكاتب فراشون.
ويقول في بداية رده على سؤاليه إننا "ينبغي أن نكون منصفين وعادلين في أحكامنا"، وينقل هنا عن عالم السياسة الأميركي روبرت دوجاريك قوله "لا أحد يتحدث أبدًا عن التوغلات الغربية في الأنظمة الصينية أو الروسية".
ثم ينتقل الكاتب إلى الكيفية التي اقتحم بها القراصنة مزوّد البرمجيات الأميركي "سولار ويندز" الذي يوجد من بين عملائه عدد كبير من المؤسسات الفدرالية بما في ذلك وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، فقد خدع المتسللون أحد برامج هذه الشركة من خلال إغراء الزبون بفتح نافذة "تحديث"، فسمح لهم ذلك بإدخال فيروس تجسس من أعتى وأشر الفيروسات ظل يصول ويجول في محتويات أجهزتهم طوال 10 أشهر مما مكنهم من فحص ملايين البيانات.
وسيستغرق الأمر بلا شك "شهورًا إن لم يكن سنوات لتحديد مدى الضرر"، كما ينقل الكاتب عن نيكولا ماتزوتشي الذي يضيف "مع ذلك فنحن مضطرون إلى الاعتماد على أقوال الضحايا" الذين قد يكون لديهم مصلحة في التقليل من شأن الاختراق للحفاظ على سعر سوق الأوراق المالية أو سمعة خدمة عامة، وما حدث لسولار ويندز هو عملية تجسس وليس عملا تخريبيًا، إذا ما قورن بما قام به الأميركيون والإسرائيليون عام 2010 ، عندما استخدموا برنامج التدمير (Stuxnet) لتفكيك جزء من برنامج إيران النووي، فذلك بلا شك عمل من أعمال الحرب، وفقا للكاتب.
التجسس والعدوان
لكن أين ينتهي التجسس ويبدأ العدوان؟ يتساءل الكاتب ليجيب بأن الحدود في الفضاء الإلكتروني ضبابية، ويمكن تدمير البيانات التي يتسلل إليها القراصنة واستبدالها، لكن ذلك لا يعني أن نشاط الحكومة الفدرالية تأثّر بهذا الاختراق ولمدة طويلة، ويمكن أن يؤدي الشلل اللحظي للإدارة، سواء كانت خاصة أو عامة، إلى وفاة أشخاص أو تأجيل عمليات جراحية أو تأخير إغاثة.
كما أن البحث عن المتسلل لا يقل صعوبة عن تقييم الضرر الناجم عن القرصنة، إذ يقول ماتزوتشي أحد مؤلفي كتاب "الانتصار في الحروب السيبرانية" (Winning Cyber Conflicts) (إيكونوميكا، 2015) "نحن نبحث عن طريقة للتشفير، ونوع من البرامج، وأجهزة الحاسوب المستخدمة، ونسمي ذلك الصعود إلى هرم الألم"، فقد نعثر مثلا على فيروس ما خبيث، لا يتم تنشيطه إلا خلال ساعات العمل في موسكو وسانت بطرسبرغ.
لكن الفرضية الأكثر وجاهة في قضية سولار ويندوز هي أن تلك العملية نفّذها قراصنة من المجموعة الروسية (APT29) نيابة عن أحد أجهزة استخبارات موسكو.
ويتابع الكاتب قائلا إن الطبيعة الغامضة لهذا الفضاء الذي لا حدود له والذي هو في الوقت ذاته افتراضي وحقيقي جدا تجعل القرصنة أكثر خطورة.
وأضاف الكاتب أن ما تعرضت له سولار ويندز لا يمكن تصنيفه في الوقت الحالي بشكل دقيق، لكنه حذّر من أنه سيأتي اليوم الذي ترد فيه الدولة بالوسائل التقليدية على الهجمات السيبرانية، خصوصا أنه لا يوجد نص دولي يحكم العلاقات بين الدول في الفضاء السيبراني.
وهنا نقل الكاتب ما قاله أليكس يونغر لصحيفة "فايننشال تايمز"، في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يتقاعد بوصفه رئيسا لجهاز مكافحة التجسس البريطاني "إم آي 6" (MI6) حيث يقول إنه "في السابق كان هناك فرق، ربما تافه، بين السلام والحرب، فرق بين ما هو وطني وما هو دولي، لكن هذا كله لم يعد موجودًا في الفضاء السيبراني فنحن جميعًا في الوقت نفسه في وضع هجين يجمع بين الغموض والصراع"، على حد تعبيره.