شهد منتصف ليلة الثلاثاء الماضي، 22 ديسمبر/كانون الأول الحالي، جلسة برلمانية فوضوية في الكنيست الإسرائيلي، حيث فشلت عملية تمرير قانون تأجيل الموعد النهائي لإقرار ميزانية الكيان المحتل القادمة التي بدأت المداولات البرلمانية بشأنها بعد تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة مباشرة في إبريل/نيسان الماضي، وتُعَدُّ هذه المرة الثانية التي يفشل البرلمان خلالها في تمرير الميزانية، وكانت الأولى في أغسطس/آب الماضي وأُجِّل القانون إلى 22 ديسمبر/كانون الأول الحالي.
في إبريل/نيسان الماضي، نجح نتنياهو بعد جهد كبير في إقناع خصمه السياسي بيني غانتس بتشكيل حكومة وحدة وطنية نادرة بوصفها ملاذا أخيرا بعد انتهاء ثلاثة انتخابات غير حاسمة دون أن يتمكّن أي مُرشَّح من حشد أغلبية برلمانية ينفرد بها برئاسة الحكومة، وبموجب اتفاق الوحدة الوطنية الإسرائيلي أقنع نتنياهو منافسه غانتس بأن يتولى هو في البداية رئاسة الوزراء لمدة 18 شهرا (تستمر حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2021) على أن يتولى غانتس المنصب في الفترة التالية.
لكن نتنياهو بدا وكأنه يُصِرُّ باستمرار على إشعال الحرائق السياسية، وبالتالي قطع الطريق على غانتس لتولّي منصب رئاسة الوزراء، فأصرَّ على عرقلة إقرار الميزانية بعد اختلافه مع غانتس على إقرارها لمدة عامين، وهو ما كان يريده غانتس لضمان تسليم نتنياهو للسلطة، وقد أدّى ذلك الخلاف لفشل الليكود وحزب "أزرق أبيض" إلى عدم اتفاقهما لتمرير الميزانية، وأدّى ذلك التصلب إلى إعلان رئيس البرلمان حل الكنيست وإقرار جولة انتخابات رابعة في 23 مارس/آذار المقبل على الأرجح، انتخابات يُعوِّل عليها نتنياهو لحسم ما لم يمكنه حسمه في المرات الثلاث السابقة، ولإبقائه على كرسي رئاسة الوزراء وإنقاذه من قضايا الفساد التي تحيط به من كل الجهات.
لطالما عُدَّت الثغرة الأكبر في اتفاق الوحدة الوطنية هي قضية تمرير الميزانية العامة نصف السنوية لعامَيْ 2020 و2021، فقد أصرَّ نتنياهو على تمرير ميزانيتين مختلفتين بوصفه تكتيكا سياسيا لإبقاء تحالفه مع غانتس بحالة غير مستقرة، إذ من شأن خطة مدتها عام واحد أن تمنح نتنياهو ثغرة لإسقاط الحكومة أثناء إقرار ميزانية العام الذي يليه قبل أن يصبح غانتس رئيسا للوزراء في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، فيما كان غانتس وحزبه يُصِرَّان على إقرار ميزانية لمدة عامين تحت ذريعة أن إسرائيل تحتاج إلى الاستقرار بعد الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها.
بحث كلٌّ من حزب "الليكود" الذي يرأسه نتنياهو و"كاهول لافان" (أبيض أزرق) الذي يرأسه غانتس عن طرق لتأجيل الموعد النهائي لإقرار الميزانية قانونيا، وكذلك لتعديل اتفاقهما الائتلافي بما يتماشى مع التفاهمات التي يُتَوصَّل إليها خلف الكواليس، إذ طلب غانتس من نتنياهو خمسة مطالب أهمها تمرير ميزانيتَيْ 2020 و2021، بالإضافة إلى الموافقة على جميع التعيينات العليا التي عُلِّقت، وإغلاق جميع الثغرات التي من شأنها أن تسمح لنتنياهو بتجنُّب تسليم السلطة إلى غانتس بوصفه جزءا من اتفاق التناوب، والإبقاء على آفي نيسنكورن وزيرا للعدل (لا يريده نتنياهو لأسباب تتعلق بتعاونه في أوامر قضايا الفساد المحيطة به)، والموافقة على نظام الكنيست الداخلي، لكن حدث ما كان متوقعا ورفض نتنياهو كل المطالب.
نتيجة لذلك، كانت أزمة الميزانية هي السبب الظاهري لانهيار التحالف بين حزبه وحزب غانتس، الذي توقع منذ البداية فشله، لأنه عرف أن نتنياهو يأمل بأن العودة إلى منصبه للمرة السادسة تعني تشكيل ائتلاف أكثر مرونة من شأنه تمرير تشريع يحميه من الملاحقة القضائية المستمرة والشرسة.
رغم أن نتنياهو حاول الترويج لإنجازاته، متجاهلا ربما عن عمد حقيقة أن مغامراته السياسية أوجدت جمهور ناخبين سئم منه بوصفه رئيس وزراء يشغل أطول مدة زمنية في المنصب مقارنة بمَن سبقوه، فإن مستقبله السياسي يواجه عددا من التحديات منها ما فرضته نتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة بخسارة إدارة دونالد ترامب، وهي الإدارة التي جنى منها نتنياهو الكثير من الأرباح والمكاسب السياسية، وأصبح يواجه حاليا وفي المستقبل بشكل مُقلِق إدارة جديدة قد تُعرِّض نظامه لعدة ضغوط للحد من النشاط الاستيطاني، وتقديم تنازلات للفلسطينيين، وهي قضايا تُفقد نتنياهو أحد أصول حملته الانتخابية، ونسبة لا بأس بها من مؤيديه اليمينيين.
بلغة الأرقام، تُظهِر استطلاعات الرأي أن كتلة نتنياهو المضمونة (الليكود والحزبين الأرثوذكسيين المتطرفين) أقل بكثير من الأغلبية المطلوبة، وأنه إذا ما أراد التحالف مع شخصيات يمينية أو غيرها فسيجد أمامه سمعة سياسية تتمثّل في عدم النزاهة وتخلّيه عن التزاماته تجاه غانتس، وكما يذكر تقرير صحيفة تايمز أوف إسرائيل فإن سمعة نتنياهو بعدم الأمانة "حَدَّت بشدة من قدرته على إبرام الصفقات التي قد تُنقذه للبقاء في السلطة بعد مارس/آذار"، حد تعبير التقرير، ولم يعد كافيا محاربة خصومه عن طريق الفوز المشترك، كما فعل في السباقات الثلاثة الماضية، ويُضيف التقرير أنه رغم نمو اليمين في استطلاعات الرأي مقارنة بالعام الماضي، أو بمعنى أدق الأحزاب التي تُعرِّف نفسها على أنها يمينية (بما في ذلك أحزاب الحريديم)، وأنها تستحوذ الآن على نحو 80 مقعدا في الكنيست، فإن المعسكر المناهض لنتنياهو ينمو أيضا، ولم يعد الانقسام حول نتنياهو يتتبع الانقسام بين اليسار واليمين بالمعنى المتعارف عليه الذي تعوّد نتنياهو على خوض معاركه من خلاله، وإنما أصبح الانقسام أكثر تشعبا وتعقيدا من ذلك، وهو ما يهدد مستقبله السياسي فيما تبقى منه بشكل كامل.
"سأترك منصبي في الموعد المتفق عليه، لن تكون هناك حيل ولا خدع". بهذه الكلمات أراد نتنياهو طمأنة غانتس قبل تسعة أشهر من أجل نزع موافقته على حكومة وحدة وطنية يتقاسمان فيها السلطة ويتبادلانها بالتتالي، بيد أن "المخادع السياسي" كما يصفه معارضوه لم يُصدَّق من قِبَلهم، وأتت ليلة الثلاثاء الماضي خير دليل لهم على خذلانه لشريكه السياسي برفض إقرار حزبه لميزانية العامين المتتاليين وبالتالي انهيار الائتلاف والحكومة كاملة.
نتيجة لذلك فقد غانتس مصداقيته لدى الكثير من ناخبيه، وخسر جزءا كبيرا من دعمه الشعبي، بل إن العديد من نواب حزبه "أبيض أزرق" صوّتوا ضد محاولة تأجيل قانون الميزانية النهائي كما أراد غانتس لتجنُّب الانتخابات، وذاعت بينهم أقوال إن قائد الحزب حنث بوعده في حملته الانتخابية ودخل في حكومة وطنية مع "نتنياهو الفاسد"، مما يعني أن عُمْر غانتس السياسي الذي استمر عامين ربما يوشك على الانتهاء بعد أن نجح نتنياهو في جعله قوة مستهلكة، فالرجل الذي تمتع بقوة تصويتية وبالتالي سياسية في الانتخابات الاخيرة يفقد السيطرة على حزبه يوما بعد يوم، وهو الحزب الذي يضم أكثر السياسيين المتحدين تأثيرا في معارضتهم ضد نتنياهو على الساحة الداخلية.
وفق ما سبق، فقد خسر غانتس المرشح الذي فاز بـ 33 مقعدا في انتخابات مارس/آذار الماضية، وأوصى به 61 من 120 من أعضاء الكنيست لمنصب رئيس الوزراء، خسر على الأرجح مستقبله السياسي، وكما تذكر "تايمز أوف إسرائيل" فإنه بعد صعود مثير للإعجاب من لاعب سياسي غير منافس إلى رئيس وزراء بديل في غضون عام ونصف؛ فإن مستقبل غانتس في السياسة الإسرائيلية يبدو قاتما الآن، ويُبيِّن التقرير أن استطلاعات الرأي وضعت حظوظ حزب غانتس "أبيض أزرق" القادمة في إطار خمسة أو ستة مقاعد فقط، أي بالكاد تُعَدُّ أعلى من العتبة الانتخابية القانونية.
ما سيُميِّز الانتخابات الرابعة عن الثلاثة اللاتي سبقنها هو أن منافس نتنياهو الرئيس هذه المرة سيكون من جناحه اليميني نفسه، إذ إن وزير الليكود السابق "جدعون ساعر" الذي أسس حزب "نيو هوب" أو (أمل جديد)، ورغب خلال الأيام الماضية في حل الكنيست في أسرع وقت ممكن، يُكرِّس جهده حاليا للإطاحة بنتنياهو، حيث يطمح الرجل الأكثر تشدُّدا في قضايا النزاع مع الفلسطينيين والاستيطان، الذي يُفضِّله اليمينيون الساخطون من نتنياهو، يطمح بشدة في تولّي رئاسة الوزراء وتغيير الوجه الذي مَثَّلَ اليمين منذ عام 2009 بلا انقطاع.
يمتلك ساعر بوصفه خصما رئيسيا عدة مزايا، فهو قادم من الجناح اليميني ومن ذات الطيف السياسي، ولم يجرؤ نتنياهو على وصمه مثلا بأنه "يساري شرس" أو حتى "خائن" كما فعل مع معارضيه، كما أنه يَعِد الناخبين بأنه أكثر فعالية في مواجهة فيروس كورونا، وهو أمر غاية في الحيوية للداخل الإسرائيلي في الفترة الحالية، ويعدهم أيضا بأنه "مستقيم" ينافس داخل قاعدة ناخبين سئمت من آثار قضايا فساد نتنياهو، وسبق أن قال إن الجميع يعلمون أن نتنياهو لديه عدة معوقات، كعلاقاته الشخصية مع مختلف قادة الأحزاب، والأحزاب التي تريد استبعاده بسبب القضايا التي تلاحقه، والناخبين اليمينيين الذين سيتركون هذه الجبهة ولن يعودوا إذا قادهم نتنياهو مرة أخرى.
إذن، كوّن القيادي السابق في حزب الليكود جيبا صغيرا من المؤيدين له داخل الكنيست وبين الأحزاب اليمينية، وتبنّى سياسات يمكن أن تُغري العديد من أنصار اليمين. ووفقا لبعض استطلاعات الرأي الأخيرة فمن المتوقع أن يفوز حزبه بنحو 19 مقعدا في الانتخابات القادمة، مما سيجعله ثاني أكبر حزب في الكنيست، وسيمنع كتلة نتنياهو اليمينية من الفوز بأغلبية.
بشكل عام، كان السبب الرئيس في إجراء ثلاثة انتخابات في إسرائيل خلال الفترة الماضية هو حسابات نتنياهو القانونية والسياسية، إذ أراد التشبُّث بالسلطة من خلال وجوده في مكتب رئاسة الوزراء وإنقاذ نفسه من سلسلة الفضائح وقضايا الفساد التي تحاصره، والمرتبطة بقضايا الاحتيال وقبول الرشى وخرق الثقة وتقديم رشًى لعدد من الشخصيات الإعلامية مقابل تغطية صحفية إيجابية عنه وعن عائلته.
وكما ذكرنا، فقد سعى نتنياهو من خلال عرقلة إقرار ميزانية العامين للوصول إلى حل الكنيست محاولا أن يوفر ثغرة هرب من اتفاق الائتلاف، لكن ما ينتظره أوائل العام المقبل ربما يقلب موازين ما خطط له، فهو على موعد مع محاكمة بالفساد قد تنقله إلى مرحلة يحتاج فيها إلى إثباتات كثيرة ودقيقة ومفصلة لبناء إستراتيجية دفاع متماسكة، وبشهادة الشهود سيكون مخرج نتنياهو صعبا هذه المرة لتزامن محاكمته مع حملته الانتخابية التي ستجري على قدم وساق.
لكن رغم ما سبق، لا يزال الملك "بيبي"، كما يُطلِق عليه أنصاره، يراهن على أن الانتخابات القادمة ستمنحه فرصة جيدة لتشكيل حكومة يمينية تضمن له حصانة من الملاحقة القضائية بإلغائها نهائيا أو تأجيل المحاكمة حتى إشعار آخر، لكن في وقت تبدو فيه الأحزاب الإسرائيلية ذات الميول الوسطية واليسارية مُهمَّشة إلى حدٍّ كبير، فقد ينتج عن الانتخابات العامة تحوُّل كبير في تكوين الأحزاب السياسية الإسرائيلية، وهو ما قد يضر بفرصه.
في هذا السياق، يذكر تقرير لصحيفة "هآرتس" المحلية واسعة الانتشار أن العديد من الأحزاب المتنافسة حاليا قد تواجه مشكلة في تجاوز الحد الانتخابي البالغ 3.25%، وهو ما يُمثِّل أحد العوامل التي يمكن أن تصب في صالح نتنياهو، لكن الكتلة التي تُمثِّل التهديد الأكبر له تأتي من داخل جناحه اليميني، وهي كتلة تضم ثلاثة أحزاب؛ "أمل جديد"، وحزب يامنيا، وحزب إسرائيل بيتنا، بينما لا توجد طريقة حتى الآن يمكن بها لجميع أحزاب يسار الوسط أن تدخل الكنيست المقبل إذا خاضوا الانتخابات بشكل منفصل، وما لم يحدث اندماج قريب في يسار الوسط قبل الموعد النهائي في 4 فبراير/شباط المقبل لتقديم المُرشَّحين إلى لجنة الانتخابات المركزية، فستكون هذه هي أضعف جبهة للمعارضة.
يبدو إذن أن طريق نتنياهو لتشكيل الحكومة منفردا مفروش بالورود إن لم يكن هناك تكتل يميني مضاد يحمل توجهاته نفسها بدون الصبغة السياسية السيئة والسمعة الشخصية الأكثر سوءا له حاليا داخل أروقة معارضيه وبعض مؤيديه أيضا، وإن استطاع نتنياهو تجاوز هذا المأزق، وهو مأزق ستنتظر إدارة جو بايدن الأميركية القادمة ما سيُسفر عنه قبل فعل أي شيء، إن استطاع الملك بيبي تجاوزه فإننا نُرجِّح أن هذا سيضمن له فترة مستقرة على رأس حكومة الكيان القادمة وسلطة سيصبح من الصعب تعديها في المستقبل القريب، وستعني نجاته وفوزه إن حدثا أنه سيُعزِّز مكانته بوصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي التاريخي، وسيفتح ذلك آفاقا أكثر رحابة لتوسيع عملية التطبيع الجارية على قدم وساق، وسيجعل آفاق الحقوق الفلسطينية أكثر قتامة.