• اخر تحديث : 2024-05-10 13:04
news-details
مقالات عربية

مبادرة ماكرون تحت المجهر


يقول الكاتب والدبلوماسي الفرنسي "رولان أورو" في كتابه "فرنسا والناتو في سوريا، التضليل الكبير": "بانتخاب إيمانويل ماكرون عام 2017 رئيساً لفرنسا، ظننا أن الرئيس الشاب يحملُ أفكاراً جديدة، ولكن للأسف ظهر عاجزاً عن الخروج من النفق الذي رسمه أسلافُه على خطى الأميركيين في سوريا، وأبقى على قوات فرنسية على الضفة الشمالية لنهر الفرات لمنع الحكومة السورية من السيطرة على حقول النفط في بلاد ما بين النهرين، وتابع تزويد الإرهابيين بالأسلحة الفرنسية مع أنهم كانوا يذبحون المسيحيين ويغتصبون نساءهم ويستعبدونهم".

هكذا كان أداء ماكرون اتجاه سوريا واتجاه المسيحيين، إلى درجة أن السيد "أورو" يشبه أداء بلاده في الفصل السادس من كتابه(صفحة 78)، بالكلب الصغير الـمُقَصِّر الذي ينبح في سرب كلاب دون أن يسمعه أحد" (ويقصد بالسرب الحلف الأطلسي).

بعد هذا السيناريو في سوريا يجدر بنا أن نراقب بتمَعُّن الأداء الفرنسي في لبنان، الذي يسير على أنغام إشارات المرور الأميركية، حيث يتقدم على الضوء الأميركي الأخضر ويتراجع على ضوئهم الأحمر(وذلك لا يختلف بين الجمهوريين والديمقراطيين). والكل يعلم أنه بالإضافة إلى المصالح الفرنسية التي تحكم تعامل فرنسا مع لبنان، تطغى الإرادة التعسفية الأميركية، ما يضع لبنان بين نيران زعيمة الناتو وأتباعها شديدي النهم بنا. وإذا استعرضنا الأداء الفرنسي اتجاه لبنان على سبيل المثال لا الحصر، نرى ما يأتي:

- بعد انفجار مرفأ بيروت رفضت فرنسا تزويد الدولة اللبنانية بصور القمر الصناعي الفرنسي عن المرفأ أثناء تفجيره في 4 آب 2020.

- وصلت باخرتان فرنسيتان إلى المرفأ بعد الانفجار وهَيَّصَ لها الـمُهَيِّصون، ثم رحلتا، ولم يعرف أحد ماذا قدَّمتا للبنان، إلى أن طلعت علينا الأخبار بالأمس لتُنبِئنا بأن فرنسا وأميركا لا تمسحان بإعمار مرفأ بيروت إلا بعد أن ينصاع لبنان لشروطهما الـمُتعلقة بالداخل اللبناني وبالتطبيع وبالانصياع للبنك الدولي وبالتخلي عن حقوق لبنان بالمياه البحرية وبالنفط والغاز.

- توقفت شركة توتال عن الحفر في المربع رقم 4 وتأخرت عدة أشهر عن تقديم تقريرها للدولة اللبنانية، مع العلم أن الدراسات تتحدث عن وجود خزان غاز ضخم جداً في المربع المذكور. وعندما قدمت التقرير بعد إلحاح الحكومة اللبنانية، قدمته مؤلَّفاً من ألف صفحة، لم يظهر مضمونها إلى العلن بعد، ولم نعلم هل أن وزارة النفط تريد إعلام الشعب به أم هي متآمرة مع شركة توتال ومن هم وراءها من الصهاينة والغربيين المعروفين.

- نلاحظ جميعاً أن التدخل الفرنسي بالقوة التي ظهر فيها لم يحصل إلا بعد أن نشطت الحركة اللبنانية نحو التنقيب عن النفط وبعد أن أعلن لبنان عزمه التوجه شرقاً. ومنذ بدأ التدخل الفرنسي هدأ حديث اللبنانيين عن النفط والغاز، بل انخرط الكثير من اللبنانيين في محاربة فكرة التنقيب عنهما، بإيعاز من فرنسا وأميركا، حتى أن الفرنسيين يلتزمون صمتاً مريباً حول الموضوع.

- دعمت فرنسا تكليف السيد سعد الحريري للعودة إلى رئاسة الحكومة عبر ما سُمِّيَ بالمبادرة الفرنسية، مع أن فرنسا تعلم أن الحريري هو أساس الانهيار الاقتصادي للدولة اللبنانية، وتعلم أن السياسات الحريرية لم تكن يوماً لمصلحة لبنان كدولة وشعب. وبعد التدخل الفرنسي راحت الأبواق تعزف نشيد تلك المبادرة صبح مساء، مع العلم أنها لم ترقَ إلى مستوى الخطة الاقتصادية والمالية التي قدمتها حكومة الرئيس حسان دياب لإنقاذ الوضع في لبنان.

- كانت فرنسا وما زالت تدعم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، سراً وعلانيةً، وتتعاون مع كل داعميه في لبنان. ومن ناحية ثانية يجري الحديث عن أن سلامة سلَّم حسابات مصرف لبنان إلى الدولة الفرنسية بعد أن تمرد ورفض تسليمها للدولة اللبنانية. وما الحديث السويسري عن ملاحقة رياض سلامة إلا تمهيد لأمرٍ آخر يعملون عليه وهو الضغط على لبنان لفرض وصاية دولية عليه يمكنهم من نهب ثرواته.

- تتحرك فرنسا تحت سقف الإدارة الأميركية ووفق مصالح الكيان الصهيوني، بالخفاء والعَلَن، وتضغط على لبنان لكي يقبل بشروط صندوق النقد الدولي التي يعلم الجميع أن نتيجتها ستكون إخضاع لبنان اقتصادياً ومالياً وسياسياً بشكلٍ خطير.

- تمارس فرنسا الضغوط على لبنان لكي يتنازل عن حقه في المياه الإقليمية، لمصلحة الكيان الغاصب، وقد ظهر ذلك من خلال أداء شركة توتال ومن خلال التناغم بين السياسة الفرنسية والسياسة الأميركية تجاه لبنان. 

 مع ذلك، عندما زارنا ماكرون مرتين، زحفت الدولة كلها للقاء حفيد الجنرال غورو، واحتاروا كيف يجاملونه وينحنون أمامه ويصفقون له... وراح المعجبون بفرنسا عاطفياً وثقافياً وطائفياً، يرخون بأنفسهم في أحضان زوج اليهودية، حتى أن نساء بعضهم رُحنَ يعانقنه بكل حميمية وتملُّق ويرمون بأنفسهنَّ بين ذراعيه للتعبير عن عشقهن لحضن فرنسا. كثيرون راحوا يتوسلون إليه حل معضلاتهم المستعصية، وراح عن بالهم أن هذا الرئيس مطرود من مواطنيه لفشله الذريع في إدارة مشاكلهم وتلبية احتياجاتهم. ولا يغيب عن بالنا أن التذَلُّل وصل ببعض اللبنانيين إلى أن يشتكوا رئيسهم أمام الرئيس الزائر... فهل هناك أكثر خِفَّةً من ذلك؟

أما بعض الصحافة، فحدِّث ولا حرج؛ لقد نسوا كل مصائب لبنان ولم يبقَ لهم في بثهم المباشر وغير المباشر سوى الحديث عن زيارة ماكرون، حتى كادوا يلحقون به إلى الحمام لينقلوا كيفية تعاطيه مع المرحاض على الطريقة الفرنسية.

فهل يقتنع المسؤولون اللبنانيون، ودُعاة الانتداب، والمتفرنجون في الصالونات وعلى المنابر، أن رئيس جمهورية أمهم الحنون فرنسا لم يأتِ إلى لبنان ليساعده، بل أتى لأهداف محددة قد كلفوه بها في البيت الأبيض ومحافل الماسونية والصهيونية، وأبرز تلك الأهداف هي:

1. حماية مصالح الكيان اللقيط الأمنية والنفطية والحدودية.

2. الالتفاف على ا ل م ق ا و م ة والضغط عليها وعلى الجيش اللبناني لضمان أمن الكيان.

3. السيطرة على النفط والغاز اللبنانيَّين، وضمان حصة فرنسا منهما بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر السيد الـمُطاع بالنسبة لفرنسا، تماماً كما كانت في كل الحروب التي شَنَّها حلف الناتو على سوريا وليبيا واليمن والعراق وفلسطين وغيرها.

4. وضع لبنان تحت وصاية البنك الدولي وتحت الشراكة الانتدابية الغربية، بقيادة أميركية، والتي تمثل فرنسا فيها كما وصفها السيد رولان أورو في كتابه الذي ذكرنا آنفاً، العضو التابع المقصر في القطيع. وكل ذلك تمهيداً لوضعه تحت الوصاية الدولية التي تكلمنا عنها سابقاً.

على ضوء كل ما ذكرناه ونقلناه، يجدر بنا أن نُدرك حقيقة المبادرة الفرنسية التي يُرَوِّجُون لها على أنها خلاص لبنان، والتي جعلها الكثير من الساسة اللبنانيين "مرجعيَّتهم" للحديث عن أي حل، وهم يعقدون من أجل ذلك لقاءاتهم ومناظراتهم التلفزيونية، ويلمعون بها خطاباتهم. والحقيقة هي أن المبادرة الفرنسية التي ينهمكون بها، لا ترتقي إلى مستوى الخطة الاقتصادية التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب. لأن خطة دياب تحاكي الواقع اللبناني بشكلٍ دقيق، وتنطلق من وعي عميق لأحوال البلد، وهي أيضاً خطة لبنانية مئة بالمئة، وقد تجعلنا نثق بأنفسنا ونتخلص ولو جزئياً من عقدة "كل شي فرنجي برنجي".