يجب النظر إلى منطقة المغرب العربي باعتبارها مجالًا يمكن لبايدن التركيز عليه لممارسة المزيد من الاستقلالية في صياغة سياسات جديدة تدعم قيم الديمقراطية والحكم الرشيد.
ويبدو أن الرسائل التي توجهها إدارة بايدن تؤكد على عودة أمريكا إلى دفة القيادة العالمية، بخلاف شعار "أمريكا أولاً" الذي اعتمدته إدارة ترامب. لكن الواقع الذي يواجه بايدن ينطوي على حقيقة أن ترامب أقام علاقات جيدة مع معظم قادة الشرق الأوسط - من المحيط الأطلسي إلى الخليج - باستثناء إيران وحلفائها. وقد استطاع ترامب إعادة الثقة إلى حلفاء أمريكا التقليديين في مصر ودول الخليج، والمساهمة أيضًا في احتواء التوتر الذي نشب مع تركيا بنهاية عهد أوباما عام 2016.
في المقابل، يمكن ملاحظة جوانب سلبية لهذا النوع من النفوذ الأمريكي: فقد فاز ترامب بصداقة الزعماء العرب والأتراك عبر الامتناع عن ممارسة الضغوط الأمريكية المعتادة الهادفة إلى دعم الديمقراطية والإصلاح السياسي وحماية حقوق الإنسان – أي كل القضايا التي تشكل نقطة حساسة في أنظمة الحكم الاستبدادية. لكن بموازاة ذلك، لم تبذل واشنطن أي جهد واضح لدعم التغيرات السياسية الجارية التي شهدتها بعض الدول كالجزائر والسودان خلال العامين الماضيين.
وبالتالي، فإن الرضا الضمني الذي شعرت به الأنظمة الحاكمة في المنطقة حيال سياسة ترامب في الشرق الأوسط قد يفرض منطق الأمر الواقع على توجهات السياسة الخارجية للرئيس بايدن، حتى مع بقاء الأزمات في سوريا وليبيا واليمن بدون حل. وثمة على العكس توقعات بالعودة التدريجية إلى تقاليد الحكمة المؤسسية لواشنطن عبر تأمين وجود دبلوماسي وغير دبلوماسي كافٍ لتحقيق الاستقرار والتوازن في المنطقة، في ظل التساؤلات عما إذا كانت السياسات الأخيرة لأوباما وترامب – القاضية بتجنب التدخلات العسكرية المباشرة والحروب المكلفة – ستبقى قائمة.
مع ذلك، ثمة فرصة أمام بايدن للحث على تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد والابتعاد عن سياسات الإقصاء والتهميش وانتهاك حقوق الإنسان التي تؤجج العنف والقتال، خصوصًا في شمال أفريقيا. وفي حين أن مسألة إبرام صفقة جديدة مع إيران مطروحة بشكل واضح على الطاولة مع إدارة بايدن، يجب أيضًا النظر إلى منطقة المغرب العربي باعتبارها مجالًا يمكن لبايدن التركيز عليه لممارسة المزيد من الاستقلالية في صياغة سياسات جديدة تدعم قيم الديمقراطية والحكم الرشيد، سيما وأن التحركات تجري على قدم وساق في تلك المناطق.
أضف إلى ذلك أن المغرب العربي سيستفيد حتمًا من تنامي الاهتمام الدولي. فهو يواجه حاليًا عددًا من الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية على مختلف الأصعدة، بما في ذلك الصراع الليبي المستمر والأعمال الإرهابية في منطقة الساحل والتوترات في الصحراء الغربية.
وعلى وجه الخصوص، تشكل الأزمة الليبية مصدر قلق عميق لكل من الليبيين والدول المجاورة، حتى مع ظهور بعض بوادر التقدم في العملية السياسية الراهنة. ففي كانون الثاني/يناير، اتفق المشاركون في محادثات جنيف التي توسطت فيها الأمم المتحدة على آلية اختيار الحكومة الجديدة. وفي محادثات جنيف المقبلة، يُتوقع أن يعمل الممثلون الليبيون معًا لإنشاء سلطة تنفيذية مؤقتة تتولى مسؤولية إجراء الانتخابات، إلى جانب مساعي "منتدى الحوار السياسي الليبي" لإجراء استفتاء دستوري قبل ذلك. وبوسع الولايات المتحدة، التي نأت بنفسها عن هذه العملية في عهد ترامب، أن تشارك في الدعم الدولي اللازم لمواصلة هذه العملية السياسية الضرورية، سيما وأن لذلك فائدة إضافية تتمثل في زيادة التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هذا التعاون الذي يسعى بايدن إلى استئنافه بعد تعثره في عهد ترامب.
فضلاً عن ذلك، تمر الجزائر حاليًا – وهي أكبر دولة في المغرب العربي - بتحولات سياسية مهمة. وفي ظل احتمال إجراء انتخابات تشريعية ومحلية مبكرة في نهاية العام الحالي، تحتاج البلاد إلى بيئة مستقرة لبناء مؤسسات قوية ومواصلة التغيير المنشود نحو جمهورية جديدة، وذلك لدرء الاضطرابات التي ابتليت بها أماكن أخرى من المنطقة. وكذلك الأمر بالنسبة للسودان حيث لا تزال العملية الانتقالية جارية لتشكيل حكومة جديدة – بالموازاة مع إزالة السودان مؤخرًا عن قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب - وسوف تستفيد هذه العملية من دعم الولايات المتحدة فيما تتعامل الحكومة مع مختلف الفرقاء السياسيين والعسكريين.
وحتى تونس، التي تُعتبر مثالاً للديمقراطية في المنطقة حتى الآن، اهتزت صورتها مؤخرًا بسبب الاحتجاجات الشعبية والانقسامات السياسية والمشاكل الاقتصادية المستمرة. ومع أن الإدارة الأميركية الحالية بقيت حتى الآن صامتة نوعًا ما إزاء هذه القضايا والتطورات في المنطقة المغاربية، إلا أن التشديد على دعم الشعوب وتقديم محفزات دبلوماسية في هذه الحالات قد يتيح الفرصة أمام إدارة بايدن للمساهمة الفعالة في إرساء معالم الاستقرار والنمو في الدول الثلاث التي تجري بها هذه التحولات.
إن المغرب العربي بحاجة إلى مجموعة شراكات جديدة لتغيير الوضع التاريخي والجغرافي القائم الذي يمكّن بعض القوى - كفرنسا وروسيا - من التدخل في شؤونه بدون مساعدة دول المنطقة على معالجة مشاكلها. وفي حين أن إدارة ترامب لم تركز على هذه النقاط بشكل يذكر، أمام بايدن، شأنه شأن كل الإدارات الأمريكية، فرصة تقديم النفوذ الموازن الذي تحتاجه الجزائر وتونس والسودان وغيرها من أجل مواصلة عمليات الديمقراطية والحوكمة التي تم وضعها خلال السنوات القليلة الماضية. وهذا الخيار متاح أمام واشنطن لإعادة اكتشاف القوى الفاعلة حاليًا في المغرب العربي وبذل الجهود لفهمها. وهنا، تستطيع إدارة بايدن الاضطلاع بدور بنّاء وتعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنولوجي في الدول التي قد تلعب فيها هذه الجهود دورًا فعليًا في تشجيع الجهود الناشئة على مستوى الديمقراطية والمجتمع المدني.
وكما هو واقع الحال على الدوام، تنطوي هذه الجهود على جانب يتعلق بالأمن القومي في الدول المعنية والولايات المتحدة على حدٍّ سواء. ولا بد أن يدرك بايدن أن تهديد "داعش" وغيره من التنظيمات المتطرفة قد انحسر منذ تركه منصبه السابق كنائب للرئيس في إدارة أوباما، ولكن هذا لا يعني أن خطر التطرف اختفى، بل انتقل إلى حالة الاستتار الكامن بانتظار الصعود إلى السطح متى خفّ الضغط – والمثال على ذلك هو الهجمات الأخيرة في بغداد. فالمناطق التي ينعدم فيها الاستقرار هي تجذب بشكل طبيعي هذا النوع من التطرف، وجيوب المغرب العربي التي تفتقر إلى الاستقرار كفيلة على النحو نفسه بتوفير هذه الفرص.
وجدير بالذكر أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تتوقع من بايدن أن يعيد تحديد الدور الأمريكي في المنطقة بشكل تام. فالنظام العالمي يمر حاليًا بعدة تغيرات مهمة، ويبدو أن عهد بايدن هو مجرد تصحيح للدور الأمريكي في ضوء عالم متعدد الأقطاب يتميز بصراع كبير على السلطة. ولا أحد يتوقع العودة الكاملة إلى نظام ليبرالي يحاول فرض وصاية أيديولوجية على العالم. عوضًا عن ذلك، تملك رئاسة بايدن الفرصة لاستعراض نفسها في المنطقة بدور المصحّح للموجة الشعبوية التي ضربت أوروبا وأمريكا الشمالية في العام 2016.
من هذا المنطلق، أفضل ما يستطيع بايدن فعله حيال الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو المساهمة في إرساء التوازن – ما بين دعم المنظمات المهمة كجامعة الدول العربية ودول الخليج التي عادت وتوحّدت نوعًا ما في جهودها لمقاومة النفوذ الإيراني، ومساعدة دول المغرب العربي حيث يتمتع الانخراط الأمريكي بتأثير كبير على جهود الحوكمة والإصلاح الاقتصادي وترقية حقوق الإنسان.