في إشارة لا ينقصها الوضوح إلى العقدة الأساسية التي يتذرع بها الإثيوبيون لإفشال جميع جولات التفاوض حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، قال نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونن أمس الأربعاء إن "الحصة العادلة" لبلاده من مياه نهر النيل "هي 86 في المائة، ولا يستطيع أحد أن يهاجمها أو ينتقص منها"، وذلك في إطار احتفالات أديس أبابا على مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الرسمية للدولة، بمرور عشر سنوات على بدء إنشاء سد النهضة.
ووفقاً لمصدر سياسي إثيوبي مطلع، فإنّ أديس أبابا تشير إلى مسألة وجوب فرض محاصصة جديدة لمياه نهر النيل قبيل كل جولة تفاوض حول قواعد الملء والتشغيل، حتى تؤثر بشكل سلبي على مسار المناقشات، وتبعدها عن سياقها المرغوب من مصر والسودان، وخصوصاً أنها غير راغبة حالياً في اتباع آلية الوساطة الرباعية (الأمم المتحدة وأميركا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي)، المقترحة من الخرطوم والقاهرة، والمتعثرة بالفعل بسبب حرج بعض أطراف الوساطة المطروحة من الدخول على الخط قبل الاتفاق الثلاثي على ذلك.
وأضاف المصدر، متحدثاً لـ "العربي الجديد"، أنّ سلاح المطالبة بالمحاصصة الجديدة والخروج عن الاتفاقات القديمة، كان قد خفت استخدامه منذ فشل المحاولة المصرية السودانية للجوء إلى الأمم المتحدة، الصيف الماضي، لكنه يبقى "سلاحاً فعالاً للمقايضة". مع الأخذ في الاعتبار البيان الصادر عن القمة الأفريقية المصغرة التي عقدت في يوليو/ تموز 2020، بالتزامن مع إتمام الملء الأول للسد، وتضمن عبارة "التطورات المستقبلية على النيل الأزرق"، حسب الطلب الإثيوبي، ليفتح بذلك الباب لمفاوضات "قد تكون طويلة الأمد" تتضمن الاتفاق على قواعد الملء السنوي والتشغيل المستمر من جهة، ومن جهة أخرى إعادة المحاصصة في مياه النيل الأزرق، فضلاً عن النص على كيفية التعامل مع المشروعات المستقبلية التي يمكن لإثيوبيا إنشاءها على النيل الأزرق في المسافة الواقعة بين المنابع وسد النهضة. وهي النقطة التي أصرت كل من مصر والسودان على أن يكون من الواضح فيها ضرورة الإخطار المسبق قبل فترة كافية. وكانت إضافة هذه العناصر للاتفاق من الأمور التي رفضت مصر والسودان التطرق إليها في المفاوضات السابقة، لكن إثيوبيا تمسكت خلال التفاوض تحت لواء الاتحاد الأفريقي، نهاية العام الماضي، بما حمله بيان قمة يوليو من عناصر، بما في ذلك الاعتراف بعمل حساب للتطورات الجديدة على النيل الأزرق، تماماً كتمسكها بالتفسير الحرفي لاتفاق المبادئ الموقع عام 2015.
وفي ذلك الوقت، أعلنت الرئاسة المصرية أنه "سيتم لاحقاً العمل على بلورة اتفاق شامل لكافة أوجه التعاون المشترك بين الدول الثلاث في ما يخص استخدام مياه النيل"، وهو ما اعتُبر ارتداداً كبيراً عن موقف مصري ثابت ضد الخطة الإثيوبية لإعادة المحاصصة، الأمر الذي فسرته مصادر فنية ودبلوماسية مصرية بأن "إثيوبيا اشترطت للمضي قدماً في المفاوضات للوصول إلى اتفاق كامل بشأن قواعد الملء والتشغيل لسد النهضة، أن يتم الاتفاق أيضاً على خطة جديدة للتعاون في الاستخدام المنصف والعادل لمياه النيل الأزرق، أي بين مصر والسودان وإثيوبيا فقط، والانعكاس المباشر لهذا الأمر هو إلغاء جميع الاتفاقيات السابقة لتقاسم المياه بين دولتي المصب، خاصة اتفاقية عام 1959 التي سيفرغها سد النهضة عملياً من مضمونها".
والآن تحاول مصر والسودان إعادة الفصل بين المسارين نهائياً، بالتركيز على مشاكل السد، خصوصاً بعدما اقتنعت السلطة الحاكمة في السودان - بعيداً عن بعض الدوائر الحكومية الفنية - بخطورة تسليم قرار التحكم في النيل استراتيجياً إلى إثيوبيا.
وأوضح المصدر السياسي الإثيوبي، الذي تحدث لـ "العربي الجديد"، أنّ الثابت الأبرز في أديس أبابا حالياً هو أن يكون أي اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة "استرشادياً"، طالما استمرت مصر والسودان في تمسكهما باتفاق المحاصصة الموقع عام 1959، باعتبار أنه من المستحيل الوفاء بذلك التقسيم المائي في حال الأخذ بأي مصفوفة من أي طرف تتعلق بتنظيم تدفق المياه من السد. وبالتالي، هدفها الحالي، إذا أرادت مصر والسودان منها واقعياً إتمام الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل، قبل الملء الثاني المتوقع إتمامه نهاية يوليو/ تموز المقبل، هو أن تقرنه باتفاق جديد ينظم محاصصة جديدة لمياه النيل الأزرق، وبصورة تتعامل واقعياً مع استفادة مصر من كميات أكبر بكثير من حصتها المنصوص عليها، واستفادة السودان المتوقعة من كميات إضافية أيضاً حال البدء في ملء سد النهضة وتفعيل مصفوفات التدفق في حالتي الفيضان والشح المائي.
الثابت الأبرز في أديس أبابا حالياً هو أن يكون أي اتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة "استرشادياً"
وحتى الآن، تستفيد مصر من فوائض الحصص أو بواقي الفيضان. وعلى الرغم من أهميتها، فإنّ إثيوبيا والسودان تبالغان في تقدير كميتها وتعتبران أن مصر تستفيد منها بشكل كبير، وكانتا تقولان خلال مفاوضات واشنطن، العام الماضي، إنّ مصر يصلها حالياً أكثر من 80 مليار متر مكعب من المياه، أي أكثر من الحصة المنصوص عليها في اتفاقية 1959 مع السودان بواقع 30 ملياراً. وتجادل إثيوبيا بأنّ ملء بحيرة سد النهضة سيخفض الحصة المصرية الفعلية إلى رقم يراوح بين 52 و55 مليار متر مكعب، شاملة بواقي الفيضان، مقابل ارتفاع نصيب الخرطوم الفعلي إلى ما يراوح بين 18 و20 مليار متر مكعب، بدلاً من 8 مليارات كان منصوصاً عليها في اتفاقية 1959. وترفض السودان ومصر تلك الحسابات، خصوصاً الخرطوم، التي صرح مسؤولوها أكثر من مرة بأنّ الاتفاق المنشود لا يجوز أن يمتد لإعادة المحاصصة، كما أشارت إلى ذلك - ضمنياً - في خطابها إلى مجلس الأمن في يونيو/ حزيران الماضي.
أما مصر، فعلى الرغم من أنها ستكون المتضرر الأكبر من إعادة المحاصصة، فهي ترغب - حال الاضطرار لذلك - في فتح حديث أوسع عن الموارد المائية المتاحة لدى كل بلد بحوض النيل، بغية إحراج إثيوبيا التي لها مشاكل مائية مع دول أخرى، ولإثبات أنها الطرف الأضعف في المعادلة، والأكثر تضرراً على الدوام، وليس الجانب الإثيوبي الذي يروج على نطاق واسع لرواية مفادها بأنّ مصر هي الطرف الأكثر استفادة من النيل، وأنها تحرم إثيوبيا من الاستفادة من مواردها الطبيعية، وترغب في استمرار حرمانها.
وفي أغسطس/ آب الماضي، أدلى وزير الخارجية المصري سامح شكري بتصريحات لوكالة "أسوشييتد برس" الأميركية، قال فيها إنه "يتوجب أخذ جميع الموارد المائية للدول في الاعتبار عند عقد أي اتفاق جديد على حصص مياه النيل"، وهو تصريح اختلفت على تقييمه مصادر دبلوماسية بديوان الخارجية المصرية استطلعت "العربي الجديد" آراءها آنذاك. إذ اعتبره البعض "سلبياً" لأنه يفتح مجالاً لمفاوضات طويلة الأمد حول المحاصصة وإلغاء اتفاقية 1959، وعلى أسس ربما تكون جديدة ولا تخدم مصر على الإطلاق، بينما اعتبره آخرون "إيجابياً" لأنه يطرح أهمية النظر لقضية السد من جميع جوانبها، بما في ذلك مراعاة تمتع إثيوبيا بالعديد من الموارد الطبيعية التي لا تحسن استغلالها.
ولوّحت إثيوبيا للمرة الأولى بورقة إعادة المحاصصة قبل الجولة الأخيرة الفاشلة في مفاوضات واشنطن في فبراير/ شباط 2020، وكانت مقدمة لانسحابها منها. إذ أبلغت أديس أبابا واشنطن بأنها باتت ترى أن أي اتفاق ثلاثي حول مياه النيل الأزرق، من دون العرض على باقي دول حوض النيل، أمر يفتقر للعدالة، ويسمح باحتكار دولتي المصب للمياه، وإهدار نتائج الاتفاق الإطاري في عنتيبي عام 2010. وهو ما فسرته مصادر مصرية لـ "العربي الجديد"، آنذاك، بأنه تمهيد للانسحاب الرسمي من المفاوضات الثلاثية برعاية واشنطن والبنك الدولي، خصوصاً أن اتفاق عنتيبي يقوم في الأساس على إعادة توزيع الحصص بصورة مجحفة لمصر والسودان، وتزيد عن إمكانيات دول المنبع في التخزين والاستفادة، الأمر الذي يفرغ جميع المفاوضات الثلاثية - بما فيها اتفاق المبادئ، 2015 - من قيمتها ومعناها.