تسعى إدارة بادين لترويج الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان، ولكن عليها أن تواجه اعتقادا مترسخا لدى العرب بأن السياسات الأميركية غير عادلة تجاه قضاياهم، وأنها منحازة إلى النخب الحاكمة في بلدانهم.
في ظل الموقف الأميركي من قضايا المنطقة العربية، ولاسيما في ظل دعمها المستمر لإسرائيل، وغض النظر عن انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين كما هو موقفها من قصف غزة، التي يتعاطف معها معظم سكان المنطقة، فإن خطة الرئيس بايدن لترويج الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان ستواجه ترددا في قبولها، إن لم يكن رفضا كاملا من قبل نشطاء الديمقراطية والتنمية السياسية، والمدافعين عن الحريات والحقوق العرب.
تسعى إدارة بايدن لوضع خطط لدعم حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم والشرق الأوسط. كما قالت متحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي1، موضحة أن الإدارة الأمريكية بدأت منذ كانون الثاني/ يناير 2021 في اتخاذ مواقف تظهر دعمها للديمقراطية ورفضها لانتهاكات حقوق الإنسان، مثل توقيعها بيانا مشتركا لمجلس حقوق الإنسان 46، يدعو مصر إلى تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، وكإبداء القلق والمخاوف لدى الحكومة العراقية بشأن حالة حقوق الإنسان في العراق، وحثها جميع القوى السياسية العراقية على احترام حقوق الإنسان والامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي. وأضافت المتحدثة بأن إدارة بايدن لم تضع، بعد، خططا محددة تجاه كل ملفات حقوق الإنسان في المنطقة، وأنها ستسعى إلى التعامل مع كل دولة بشكل منفصل.
إعادة الولايات المتحدة خطاب ترويج الديمقراطية يطرح تساؤلا عن القيم والمصالح والمعايير التي ستوازن بها علاقاتها بحكومات عربية ترتبط معها بمصالح استراتيجية من جهة، ومن جهة أخرى إظهار رفضها انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة. ستواجه الولايات المتحدة إشكاليتين تتعلقان بمصداقية طرحها لترويج الديمقراطية في المنطقة العربية، الأولى تتعلق بسياستها تجاه قضايا المنطقة، والثانية انحيازها للنخب الحاكمة.
إدارة جديدة.. سياسات مختلفة؟
منح فوز مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة جو بايدن كثير من العرب تفاؤلا في أنه سيسعى لإحداث تغيير بدلا من تصعيد التوتر في المنطقة، رغم شكهم في أن شيئا جوهريا سيتغير في السياسات الأميركية تجاه الأوضاع في بلدانهم. وهذا ما يثبته الموقف الأميركي الحاسم تجاه إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها وعرقلة صدور بيان لمجلس الأمن يطالب إسرائيل بوقف قصفها لغزة، رغم استخدام اسرائيل القوة المفرطة، ومقتل نحو 230 فلسطينيا، بينهم 65 طفلا و39 امرأة.
لا يتوقع العرب أن تضغط إدارة أمريكية على إسرائيل لحل هذا الصراع. وحتى إذا استمر مسلسل التطبيع مع إسرائيل، فلا تزال الشعوب العربية غير راضية عن هذا المسار لأنها تعتقد أنه لا يحقق العدالة للفلسطينيين. وتنظر لأي دولة طبعت مع إسرائيل على أنها اختارت أن تقدم مصلحتها على مصلحة الفلسطينيين، مثل موقفهم من تطبيع دولتي الإمارات والبحرين. العرب يرفضون مبدأ ما يوصف باتفاقات سلام بوصفها اتفاقات ترمي فقط إلى جعل العلاقات مع إسرائيل عادية، وقبول احتلالها للأراضي الفلسطينية مع استمرار عمليات الاستيطان وانتهاك حقوق الفلسطينيين.
لقد كشف المؤشر العربي أن 88 في المئة من العرب يرفضون أن تعترف بلدانهم بإسرائيل، مقابل 6 في المئة قالوا إنهم يقبلون اعتراف بلدانهم بإسرائيل. واللافت أن نصف الذين وافقوا على أن تعترف بلدانهم بإسرائيل اشترطوا مقابل ذلك إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. ووفق نفس المؤشر، اعتبر نحو 22 في المئة من العرب إسرائيل الدولة الأكثر تهديدا لبلدانهم، تليها الولايات المتحدة بنسبة 14 في المئة وبشكل عام تحتل إسرائيل المكانة الأولى بوصفها الدولة الأكثر تهديدًا للمنطقة العربية كافة.
والملفت أن منطقة الخليج تحتل مرتبة متقدمة في رفض الاعتراف بإسرائيل، رغم تطبيع دولتين خليجيتين. وحتى فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب يرى 17 في المئة من العرب المستطلعة آراؤهم أن أهم إجراء هو حل القضية الفلسطينية، بينما يعتبر 15 في المئة وقف التدخل الأجنبي، و12في المئة دعم الديمقراطية هما الإجراءان الأهم لمكافحة الإرهاب في المنطقة. كما قيّم 81 في المئة من العرب سياسات الولايات المتحدة بأنها سيئة أو سيئة جدًا تجاه فلسطين، واعتبرت السياسات الأمريكية بنسبة 77 في المئة تجاه سورية، و74 في المئة نحو اليمن و70 في المئة نحو ليبيا بأنها سيئة أو سيئة جدا.
هذه المواقف من السياسات الأميركية في المنطقة، ستشكل عقبة في تقبل مشروع ترويج الديمقراطية، وسوف تلقي بظلالها من جهة أخرى في مدى مصداقية طرح الولايات المتحدة، لدى العرب، ومدى عزمها على اتخاذ مواقف أكثر عدالة وتوازنا في المنطقة.
فشل الاختبار الأول لإدارة بايدن
قالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي إن الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن أكدا مرارا أن الترويج للديمقراطية ودعم حقوق الإنسان سيكون في صميم السياسات الخارجية للولايات المتحدة، ويشمل ذلك بلدان الشرق الأوسط بما فيها المملكة العربية السعودية. وأشارت المتحدثة إلى أن بلادها تشجع شركاءها على بذل كل جهد ممكن لتحسين معاملة مواطنيهم، وأنها، أي الولايات المتحدة، اتخذت، على سبيل المثال، خطوات للتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية أو تلك التي قامت بها السعودية في الخارج. وأوردت المتحدثة باسم المجلس القومي مثالا لهذا الخطوات: إبداء وزير الخارجية بلينكن ومسؤولين أمريكيين آخرين، القلق، في مناسبات ديبلوماسية، بشأن اعتقال وسوء المعاملة "المزعوم" للمدافعين عن حقوق الإنسان بمن فيهم الناشطات والمدافعات عن حقوق المرأة في السعودية.
بيان وزير الخارجية الأميركي بلينكن الصادر في 26 شباط / فبراير والمعنون ب "المحاسبة على مقتل جمال خاشقجي"، أشار أنه بموجب سياسة "حظر خاشقجي" الجديدة لفرض قيود على تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، فقد تم حظر 76 سعوديًا يُعتقد أنهم شاركوا في تهديد منشقين في الخارج، بمن فيهم أشخاص شاركوا، على سبيل المثال، في مقتل خاشقجي.
الرئيس بايدن اكتفى في محادثة مع الملك سلمان بإثارة ملف حقوق الإنسان في السعودية، والتعبير عن ارتياحه لإطلاق سراح الناشطة الحقوقية لجين الهذلول. ويبدو أن هذه المحادثة أنهت النقاش في قضية "مقتل خاشقجي" من الناحية السياسية بين الحكومتين، دون الإشارة إلى دور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان سواء في بيان الخارجية، أو في المحادثة بين الزعمين. وحتى تقرير حقوق الإنسان للخارجية الأمريكية الذي تطرق لانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية ودول عربية أخرى، لم يورد اسم ابن سلمان مقترنا بقضية " خاشقجي". هذا يكرس لدى المواطن العربي استمرار إفلات منتهكي حقوق الإنسان في البلاد العربية من العقاب، وحصانة مرتكبي الجرائم بسبب انتمائهم للنخب الحاكمة، ويعزز الاعتقاد السائد بأن الولايات المتحدة لا تتخذ مواقف حاسمة من قضايا قد تهدد مصالحها الاقتصادية أو تفسد علاقاتها بشركائها الاستراتيجيين في المنطقة.
ثورات الربيع العربي وترويج الديمقراطية
كانت ثورات واحتجاجات الربيع العربي عام 2011 تطمح إلى الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية يكون للشعوب فيها صوتا مسموعا، وهذا ما يسعى إلى تحقيقه النشطاء الديمقراطيون والمدافعون عن حقوق الإنسان، الذين يشكون في صدق النوايا الأميركية في دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمدى الذي ستذهب إليه لتعزيز هذه المبادئ في بلدانهم، وفي إمكانية أن تغلب أمريكا القيم على المصالح.
يذكر المؤشر العربي لعام 2019/2020 أن 89 في المئة من مواطني المنطقة العربيّة قدموا تعريفا إيجابيا للديمقراطية؛ حيث عرّفها 39 في المئة، منهم، بأنّها ضمان الحريات السياسيّة والمدنيّة، بينما قال 20 في المئة إن الديمقراطيّة هي ضمان المساواة والعدل بين المواطنين، في حين أكد 12 في المئة على المشاركة والجانب المؤسسي للنظام الديمقراطي المتمثل في تداول السلطة والمحاسبة والفصل بين السلطات. تجدر الإشارة إلى أن غالبية مواطني البلدان العربية رفضت مقولة أن المجتمع العربي غير مهيأ لممارسة العملية الديمقراطية. وهي مقولة روجت لها معظم الحكومات العربية لتبرر استمرار رفضها مطالب الشعوب بالإصلاحات السياسية والتحول إلى نظم حكم ديمقراطية، كما وظفت تداعيات ثورات الربيع العربي في دول مثل ليبيا وسوريا واليمن لتأكيد هذه المقولة. ورغم أن 79 في المئة من الرأي العام العربي اعتبر النظام الديمقراطي هو الأكثر ملاءمة لبلدانهم، فإن النخب الحاكمة، في كثير من الدول العربية، قامت بقهر المحتجين المطالبين بالديمقراطية وسجنهم وإقصائهم.
يعتقد 58 في المئة من العرب أن ثورات الربيع العربي ظاهرة إيجابية وهي أعلى نسبة يحظى بها تقييمٌ للربيع العربي منذ العام 2013. وفي المنطقة العربيّة 51 في المئة من المواطنين يقبلون وصول حزب سياسّي لا يتّفقون معه إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، مقابل 43 في المئة أفادوا أنّهم لا يقبلون ذلك.
هذه الإحصاءات تكشف عن توق أصيل لدى العرب لممارسة الديمقراطية، وقد تشجع مشروع ترويج الديمقراطية ودعمها، ولكن على الولايات المتحدة أن تتخذ شركاء استراتيجيين جدداً، يتمثلون في مجتمع مدني قوي يتمتع بحريات فردية وعامة تحت حماية القانون. إذا كانت الولايات المتحدة تولي أهمية أساسية لاحترام حقوق الإنسان والحريات العامة وتعترف بالحاجة إلى مجتمع مدني قوي، كما ذكرت المتحدثة باسم المجلس القومي، فإنه ينبغي ألا تكتفي الإدارة الأميركية بتوقيع بيانات مشتركة، وألا يكتفي مسؤولوها بإبداء القلق والمخاوف بشأن حقوق الإنسان وإنما عليها، أيضا، مراجعة مواقفها وسياساتها تجاه قضايا العرب الأساسية والصراعات الدائرة في منطقتهم، والعمل على بناء شراكات استراتيجية جديدة ليست محصورة في النخب الحاكمة والعائلات المالكة.