ما إن انتهت جولة القتال الأخيرة، وصمتت المدافع، حتى بدأت حرب من نوع آخر بين طرفين إسرائيليين أساسيين هما وزارة المالية ووزارة الدفاع حول كلفة هذه الجولة وكيفية سداد فاتورتها الاقتصادية، وهو ما يثير الى جانب الأسئلة الاقتصادية والمادية، أسئلة أخلاقية وسياسية تتعلق بجدوى جولات القتال المتكررة دون أفق سياسي، في ظل عدم الحسم من جهة، وتكبد المواطن العادي من جيبه تكاليف هذه الجولات التي تترجم على شكل ضرائب وارتفاع في الأسعار.
خلفت جولة القتال الأخيرة والتي استمرت أحد عشر يوما بين الجيش الإسرائيلي وفصائل المقاومة في غزة، وراءها فاتورة مالية ليست بسيطة (لم يتم إجمال الخسائر بشكل نهائي حتى الآن) وذلك بالتزامن مع بداية حدثين كان لهما أكبر الأثر على الاقتصاد الإسرائيلي، وهما بداية تعافي الاقتصاد من آثار جائحة كورونا بكل الأعباء التي ألقتها على المالية العامة، وحالة عدم الاستقرار السياسي وعدم إقرار موازنة منذ ما يزيد عن العامين.
تقرير معهد أبحاث الأمن القومي
نشر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في التاسع من حزيران الحالي تقريرًا أوليًا حول فاتورة جولة القتال الأخيرة، أعده رئيس قسم الأبحاث في المركز مانويل تراختنبيرغ والباحث تومر فدلون، تطرق بشكل تفصيلي ليس للكلفة المالية وتوزيعها على القطاعات المختلفة العسكرية والمدنية فقط، بل وأهم مميزات هذه الجولة مقارنة بالجولات السابقة.
يقسم الباحثان فاتورة تكاليف جولة القتال على ثلاثة محاور أساسية هي: الكلفة العسكرية المباشرة المتعلقة بحاجات الجيش والذخيرة المستخدمة ومدة القتال، وعدد الطلعات الجوية... الخ، والثاني المتعلق بالاقتصاد والسوق جراء خسارة أيام عمل وتباطؤ النشاط الاقتصادي، وتضرر قطاعات معينة مثل السياحة والطيران، أما الثالث فهو متعلق بالأضرار التي تنجم عن سقوط الصواريخ على المباني والحقول والسيارات والتعويضات التي تقدمها الدولة عنها.
مقارنة بين معركتين
يعقد التقرير مقارنة عامة ما بين جولة القتال السابقة والتي وقعت في صيف العام 2014 واستمرت 51 يوما وكلفت ما يقارب 8.7 مليار شيكل (7 منها ذهبت للإنفاق على القتال ومتطلباته و1.7 تعويضات) وما بين الجولة الحالية والتي استمرت 11 يوما فقط والتي لم تقدم حتى الآن فاتورة نهائية حول كلفتها، لكنها تميزت بأنها مكثفة رغم قصر مدتها، واستخدمت فيها قوة نيران مضاعفة خمس مرات عن سابقتها، كما أطلقت المقاومة عدد صواريخ (4360) يوازي ما تم إطلاقه خلال الخمسين يوما في الجولة السابقة.
الفارق الثاني الذي قد يجعل فاتورة هذه الجولة من القتال كبيرة رغم قصر المدة، هو توسيع مدى إطلاق الصواريخ والمناطق التي تم إعلان "وضع خاص" أمني فيها (حالة طوارئ) حيث بلغت هذه المرة مدى 80 كيلومترا مقابل 40 كيلومترا في الجولة السابقة، وهو ما يعني المس بشكل جدي بالنشاط الاقتصادي والتأثير عليه سلبا خاصة وأن مدنًا في مركز البلاد كانت ضمن هذا النطاق.
الفارق الثالث الذي اعتبره الباحثان الأكثر أهمية كونه غير مسبوق ولا مثيل له في الجولات السابقة، يتصل بالحالة التي سادت في المدن المختلطة داخل الخط الأخضر والصدامات العنيفة التي شهدتها والتي أدت الى حدوث إصابات بشرية وأضرار كبيرة في الممتلكات لا يمكن حصرها الآن، كما أنه قد تكون لها آثار بعيدة المدى بسبب حالة الخوف المتبادل التي سادت بين السكان اليهود والعرب وهو ما يمكن أن يؤثر على نشاطهم الاقتصادي وقابلية عودة التعاون المتبادل تجاريا بينهم.
الكلفة العسكرية المباشرة:
دائما ما تظهر إشكالية في كيفية احتساب الكلفة العسكرية المباشرة لجولات القتال العسكرية وتحديدا ما بين وزارة المالية ووزارة الدفاع، وهذا تجلى مثلا في تقدير وزارة الدفاع لكلفة الجولة السابقة بـ9 مليارات دولار بينما اعتبرت وزارة المالية أنها لم تتجاوز 6.5 مليار.
يمكن تقدير تكلفة يوم قتال واحد لدى سلاح الطيران بما بين 80-120 مليون شيكل وتكلفة صاروخ الاعتراض للقبة الحديدية بـ50 ألف دولار للوحدة. وهذه الأرقام تجعلنا نفترض وفق الباحثين أن جولة القتال الحالية التي تميزت بكثافتها سواء من حيث عدد الطلعات الجوية التي وصلت في بعض الأحيان إلى 150 جولة في نفس الوقت، أو من جهة عدد الصواريخ التي أطلقت من قبل حركتي حماس والجهاد الإسلامي وتم اعتراضها، لن تكون أقل كلفة من الجولة السابقة وقد تتراوح بين 4-5 مليارات شيكل لهذا الباب فقط.
نشرت "القناة 12" بدورها مقالا في 25 أيار يعزز هذه الخلاصة حيث أشار إلى أن هذه الجولة اعتمدت على ذخيرة متطورة وذكية عالية الكلفة تم استخدامها بكثافة بالإضافة طبعا إلى عدد الجولات الجوية المكثفة، حيث تقدر تكلفة ساعة الطيران الواحدة لطائرة من نوع إف. 15 بـ20.000$ وطائرات إف 35 بـ 18500$ بينما الأقل كلفة هي طائرات إف 16 والتي تبلغ 8000$ فقط، عدا عن الدبابات والمدفعية وغيرها من القطع الحربية.
وقدّم موقع" بيزنس" الاقتصادي في اليوم الثامن للقتال تقريرا أشار فيه إلى أن يوم القتال الواحد سيكلف ميزانية الدولة 120 مليون شيكل، وهو ما يعادل ملياري شيكل في أسبوع.
الأضرار المادية الناجمة عن الصواريخ
بلغ حجم طلبات التعويض الناتجة عن الأضرار المادية المباشرة في جولة القتال السابقة في 2014 ما يقارب 4600 طلب بمبلغ وصل الى 200 مليون شيكل بمتوسط 44 ألف شيكل لكل طلب تعويض.
وقالت سلطة الضرائب إن 5245 طلب تعويض قدم لها مع نهاية جولة القتال الحالية، وهو ما يؤشر إلى أن الأضرار المباشرة ستكون أكبر بسبب القدرات الصاروخية التي أظهرتها المقاومة من حيث المدى والقوة التفجيرية بحيث سيكون متوسط طلب التعويض الواحد حوالي 60 ألف شيكل ليصل الإجمالي إلى 315 مليون شيكل.
وأشار موقع "غلوبس" إلى أن كلفة جولة القتال لن تتوقف على النفقات العسكرية التي استخدم فيها الجيش خلال خمسين ساعة قوة نيران تعادل خمسين يوم قتال مقارنة مع الجولات السابقة، حيث أن عدم اللجوء للحرب البرية التي يفترض أن تقلل من كلفة القتال بشكل هائل لم تؤثر بسبب المشاكل الأخرى التي ظهرت أثناء القتال وخاصة مشكلة التحصين وإدخال مناطق جديدة لدائرة المدن التي شهدت "وضعا خاصا" بكل ما يترتب على ذلك من تحصين، حيث يعتقد أن مدينة عسقلان لوحدها ستكلف 1.4 مليار شيكل من أجل تحصينها، يضاف إلى ذلك كلفة إدخال وحدات جديدة من حرس الحدود في المدن المختلطة داخل الخط الأخضر وهو ما سيتطلب زيادة ميزانية وزارة الأمن الداخلي وجهاز "الشاباك".
الأضرار الواقعة على السوق
يستند التقرير في هذه الجزئية إلى تقديرات أولية أصدرها القسم الاقتصادي في اتحاد الصناعيين حيث قدر أن التكلفة المالية بسبب الأضرار المباشرة التي طالت النشاط الاقتصادي بلغت 1.2 مليار شيكل، بسبب خسارة أيام عمل لثلث العاملين في منطقة الجنوب وانخفاض معدل العمل بـ10% في منطقة المركز وهو ما يعني انخفاضا بنسبة 20% مقارنة بجولة القتال السابقة.
إن مجمل هذه الخسائر والفاتورة العالية للجولة الحالية من القتال ستلقي بظلالها على مجمل النشاط الاقتصادي وستنعكس مباشرة على جيب المواطن العادي، ومع ذلك يرى الباحثان أنه لا يجب الاستهانة بعامل الزمن وكون الجولة الحالية كانت قصيرة نسبيا (رغم كثافتها وتوسع مداها وحجم الصواريخ التي أطلقت فيها من غزة)، حيث يمكن تسجيل الملاحظات التالية التي يمكن أن تجعل الأثر المباشر للنفقات أقل تأثيرا على الاقتصاد:
- إن الخروج من جائحة كورونا بعد عام من العمل عن بعد جعل الاقتصاد أكثر مرونة وأكثر قابلية على ملاءمة نفسه مع الحالة الناتجة عن القتال وإمكانية الاستعاضة عن العمل المباشر بالعمل من البيت خاصة في قطاع الهايتك المسؤول عن 52% من الصادرات الاسرائيلية، وذات الشيء ينسحب على قطاع التعليم بالاستناد الى الخبرة التي تراكمت في مواجهة الجائحة وهو ما أدى الى عدم حدوث حالة من الشلل.
- إن عدم استدعاء جنود الاحتياط الذين يكلف الجندي الواحد فيهم 500 شيكل يوميا، بسبب عدم الدخول البري (تم استدعاء عشرة آلاف جندي فقط مقارنة بـ40 ألفاً في الجولة السابقة) أدى الى تقليل الخسائر واستمرار دورة النشاط الاقتصادي.
- تزامن الجولة الحالية من القتال مع دخول عيد "هشفوعوت" (البواكير) وهو ما يعني تقليل أيام العطل التي تضطر الدولة لتعويضها، بالإضافة الى قيام أصحاب المصانع القريبة من مناطق القتال بفضل التجارب السابقة بتحصين مصانعهم وتهيئتها للاستمرار في العمل في ظروف القتال وسقوط الصواريخ.
- تضرر السياحة التي لا تعتبر من الموارد الهامة في الاقتصاد الإسرائيلي (2% فقط) كان محدودا أيضا بسبب جائحة كورونا، وهو ما لا يمكن مقارنته بالجولة السابقة التي قال البنك المركزي إن الخسائر في قطاع السياحة لوحده بلغت 2 مليار شيكل.
على الجانب الآخر
على الجانب الآخر من الحرب وحول كل ما يتعلق بقطاع غزة لم تصدر حتى الآن فاتورة تحدّد الثمن الباهظ الذي يدفعه القطاع (المحاصر والفقير أصلا) جراء جولة القتال الحالية والتي سيدفع المواطنون الذين هدمت منازلهم وتعطلت حياتهم ثمنها كاملا.
وأشار تقرير نشره موقع الجزيرة في 23 أيار إلى أن "تقديرات أولية تشير إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة كبدت القطاع الخاص خسائر فادحة بمئات ملايين الدولارات، جراء الدمار الذي أصاب مصانع وشركات ومحال تجارية ومنشآت سياحية".
في التقرير ذاته يؤكد نائب رئيس الاتحاد العام للصناعات الفلسطينية علي الحايك "أن إسرائيل تعمدت خلال الحرب تدمير ما تبقى من مكونات اقتصادية قاومت الانهيار على مدار السنوات الماضية رغم الحروب وعمليات التصعيد والحصار، وهي سياسة إسرائيلية معتادة تستهدف ضرب عصب الحياة في غزة" وأنه كان هناك "تدمير متعمد لأكثر من 70 منشأة اقتصادية متعددة النشاطات، من بينها حوالي 14 مصنعا كبيرا في المنطقة الصناعية المتاخمة للسياج الأمني، والتي من المفترض أنها منطقة آمنة، إضافة إلى تدمير كلي وجزئي لعشرات المصانع المنتشرة على امتداد القطاع".
وصف الحايك للموقع ما خلفته الحرب بالكارثة، "فآلاف العمال شُردوا من أماكن عملهم وفقدوا مصادر رزقهم، والتحقوا بجيش من العاطلين عن العمل كان يضم قبل وقوع الحرب نحو 250 ألف عامل، وأكثر من 200 ألف خريج جامعي".
ونقل موقع العربية نت بتاريخ 21 أيار عن وكالة "أونروا" أن الهجمات الإسرائيلية "أدت إلى نزوح أكثر من 75 ألف فلسطيني لجأ منهم 28700 إلى مدارس تابعة للوكالة".
كما ذكر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في ذات التقرير أن " 75 مقرا حكوميا ومنشأة عامة تعرضت للقصف الإسرائيلي، تنوعت ما بين مرافق خدماتية، ومقار أمنية وشرطية. كما تضررت 68 مدرسة ومرفقا صحيا وعيادة رعاية أولية، بشكل بليغ وجزئي، بفعل القصف الشديد في محيطها، فيما تضررت 490 منشأة زراعية من مزارع حيوانية، ودفيئات زراعية، وآبار، وشبكات ري، كما تضررت شبكات الصرف الصحي، وإمدادات المياه تحت الأرض، بشكل كبير، نتيجة الاستهداف المباشر. ولم تسلم بيوت العبادة من العدوان، حيث تعرضت 3 مساجد للهدم الكلي، بفعل الاستهداف المباشر، و40 مسجدا وكنيسة واحدة تعرضت لدمار بشكل بليغ، وقصف جيش الاحتلال أكثر من 300 منشأة اقتصادية وصناعية وتجارية، وهدم 7 مصانع بشكل كلي، وألحق أضرارا بأكثر من 60 مرفقا سياحيا كما تضرر 31 محوّلا للكهرباء في غزة، بفعل هجمات الاحتلال الإسرائيلي، وتعرضت 9 خطوط رئيسية للقطع، كما كشفت الإحصائيات الحكومية الفلسطينية أيضا، تضرر 454 سيارة ووسيلة نقل بشكل كامل، أو بأضرار بليغة".
اللافت أنه وفي الوقت التي تتحدث فيه التقارير الاسرائيلية عن تصنيفات مختلفة للكلفة الناتجة عن جولة القتال بين عسكري ومدني وسوق، اعتبر قادة إسرائيل أن كل الأهداف في غزة بما فيها المدنية مثل استهداف المباني السكنية والأبراج والبنية التحتية والمنشآت أهداف عسكرية تهدف "إلى ردع حماس ومنعها من إعادة بناء قوتها مجددا" كما نشر موقع "واينت" في 19 أيار.
غير أن التكلفة العالية على جانبي المتراس في جولات القتال المتعاقبة والدورية، لم تحقق أيا من الأهداف التي وضعها الجيش، وفق تقرير "واينت" نفسه، وهي" تثبيت حالة ردع دائمة واستراتيجية أمام التنظيمات الفلسطينية ودفعها إلى عدم التفكير في تحدي إسرائيل وعدم وجود أي ضمانة بإعادتها لبناء قوتها العسكرية والأهم تعاظم قوة التنظيمات التي تخوض الحرب سياسيا وشعبيا بدل انفضاض الجمهور عنها وتخلي حاضنتها الشعبية عنها".
ووفقاً لمحللين كثيرين فإن فاتورة الحرب ستبقى تجبي عشرات المليارات طالما أن الأفق السياسي مغلق، ولا توجد استراتيجية حلّ واضحة تجاه القطاع، وهو ما يعني أن نهاية كل جولة قتال تعني عملياً بدء العد العكسي في انتظار جولة القتال التالية.