شكّل مبدأ "الأغلبية اليهودية" هاجساً كبيراً بالنسبة لمؤسسي الحركة الصهيونية، وقادة إسرائيل لاحقاً، بشكل جعله ربما أحد أهم ركائز وأهداف المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني لأرض فلسطين ولعب دوراً كبيراً في تشكيل السياسات الإسرائيلية المختلفة التي سعت، ولم تزل، إلى الحفاظ على "ميزان ديمغرافي" يميل لصالح اليهود في فلسطين التاريخية من خلال المجازر وعمليات التطهير العرقي المستمرّة، بأشكال مختلفة، منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن مسألة الزيادة السكّانية تُشكّل هاجساً بالنسبة للعديد من الدول ينبع من دوافع ومنطلقات اقتصادية بحتة (القدرة على تطوير المنظومة الصحية والتعليمية والبنية التحتية المادية)، إلا أن إسرائيل تعاملت مع الموضوع من منطلق أمني- سياسي- عرقي سعى، ولم يزل، لخلق، والحفاظ على "أغلبية يهودية" في إسرائيل لا تقل عن 80%.
في ظل وجود الأقلية العربية الفلسطينية فيها التي تُصنّفها كـ "خطر ديمغرافي"، واعتبرت أن أي تغيير في هذه النسبة بمثابة مساس بـ"أمنها القومي" بمعناه الواسع. وتُسهم التركيبة الاجتماعية المُعقّدة لإسرائيل (خصوصاً في ظل وجود الحريديم) في زيادة حدّة النقاشات حول الموضوع الديمغرافي الذي يحظى باهتمام كبير من قِبَل صانعي القرار والسياسة في إسرائيل، إلى جانب المراكز البحثية والمؤسسات الأكاديمية المختلفة، والتي أصبحت تضع التغييرات الديمغرافية ضمن "مؤشر المخاطر والتحدّيات" التي تواجه إسرائيل على المديين البعيد والقريب.
في هذا السياق تأتي الدراسة الجديدة الصادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) بعنوان "ديمغرافية إسرائيل في مطلع العقد الجديد: المعاني والأبعاد القومية" للباحث الإسرائيلي شموئيل إيفن لتسلّط الضوء على هذا الموضوع، حيث تسعى لقراءة مستقبل إسرائيل "كدولة يهودية وديمقراطية متطورة" في العقود القادمة من منظور ديمغرافي، وتتناول البيانات الديمغرافية الحالية؛ معانيها وتداعياتها، في ظل تزايد أعداد الوفيات، والحدّ من "الهجرة اليهودية القادمة لإسرائيل" وهي التي تسبّبت بها جائحة كورونا التي سلّطت الضوء على التكوين القطاعي (الانقسامات الاجتماعية) للمجتمع الإسرائيلي، بعد أن كشفت الأزمة السياسية (أزمة النظام السياسي) عن الانقسامات بين اليهود (غير الحريديم) الذين يُشكّلون حوالي 62% من السكان وغيرهم، كما تُحاول تبيان الآثار والتداعيات المختلفة التي ستترتّب على التغيّرات الديمغرافية المستقبلية وتأثير ذلك على "الأمن القومي الإسرائيلي" بمعناه الواسع. ولا بُد من ذكر أن الأفكار الواردة أدناه مصدرها كاتب الدراسة.
عدد سكان إسرائيل
بلغ عدد سكّان إسرائيل في نهاية السنة الأخيرة من العقد الماضي (2020)، وهي السنة التي شهدت انتشار جائحة كورونا عالمياً، حوالي 9.293 مليون نسمة،
[1]حيث زاد عدد السكان بنسبة 1.67% فقط مقارنةً بـ 1.93% في العام السابق (2019)، وبـ 1.9% كمعدّل سنوي خلال العقد الماضي، بحسب مكتب الإحصاء الإسرائيلي. جدير بالذكر أن معدّل النمو السكّاني في إسرائيل هو الأعلى بين "الدول المتقدّمة" بسب ارتفاع معدّل الخصوبة فيها والبالغ 3.1 طفل لكل امرأة مقارنةً بـ 1.7 طفل لكل امرأة في "الدول المتقدّمة" على مستوى العالم. وتشمل هذه البيانات (عدد السكان نهاية العام 2020) 6.87 مليون يهودي (73.9% من مجمل السكّان مقارنةً بـ 75.6% في العام 2008)؛ 1.96 مليون عربي (مسلم، درزي، مسيحي عربي) (21.1% من السكّان مُقارنةً بـ 20.2% في العام 2008)؛ و465 ألف "آخرون"[2] (يُشكّلون 5.0% من السكّان مُقارنةً بـ 4.2% في العام 2008). ويُوضّح الجدول رقم (1) البيانات الديمغرافية خلال السنوات 1995-2020.
وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي؛ بلغ عدد المواليد خلال العام 2020 حوالي 176000 طفل (مُقارنةً بـ 177000 ألف خلال العام 2019)، 73.8% لأمهات يهوديات؛ 23.4% لنساء عربيات و2.8% لأخريات. في المقابل، توفي خلال العام نفسه (2020) قرابة 48688 شخصاً، وهو رقم استثنائي مقارنة بالسنوات السابقة نتيجة الزيادة في أعداد الوفيات التي تسبّبت بها جائحة كورونا.
وتُعتبر "الهجرة" العنصر الثاني الذي يُحدّد النمو السكّاني بعد التكاثر الطبيعي (معدّل الولادة والوفيات)، وقد بلغ عدد "المهاجرين" 20000 (منهم 8200 فقط يهود) مقارنةً بحوالي 34000 خلال العام 2019 من الدول التالية: 38.1% من روسيا؛ 15.8% من أوكرانيا؛ 11.0% من فرنسا و10.7% من الولايات المتحدة. وقد تسبّبت جائحة كورونا في انخفاض معدّل "الهجرة الإيجابية" بسبب حالة عدم الاستقرار بالإضافة إلى تقليص الملاحة الجوية خلال انتشار الجائحة.
جدول 1: عدد سكان إسرائيل (بالآلاف)[3]
السنة اليهود اليهود و"الآخرون" العرب (بما في ذاك القدس الشرقية) المجموع
1995 4.522.3 4.607.4 1.004.9 5612.3
2000 4.955.4 5.180.6 1.188.7 6.369.3
2005 5313.8 5613.6 1.377.1 6990.7
2010 5802.9 6121.3 1.573.8 7.695.1
2011 5803.9 6122.3 1.574.8 7.697.1
2012 5804.9 6123.3 1.575.8 7.699.1
2013 5805.9 6124.3 1.576.8 7.701.1
2014 6216.9 6576.4 1.720.2 8296.6
2015 6334.5 6705.6 1.757.8 8463.4
2016 6446.1 6831.3 1.797.3 862.8.6
2017 6554.5 6.959.8 1.838.2 8798.0
2018 6664.3 7.089.2 1.878.4 8.967.6
2019 6773.2 7.221.4 1.919.0 9.140.4
2020 6870.9 7.335.7 1.957.6 9293.3
النمو في العقد الماضي 18.4% 19.8% 24.4% 20.8%
اليهود في إسرائيل
لا يوفّر مكتب الإحصاء المركزي بيانات تفصيلية عن التركيبة السكّانية حسب الدين، لكن يتم الاستناد إلى الاستطلاعات العرضية حول أسلوب الحياة ونمط العيش، وبحسب الاستطلاع الذي أجراه المكتب في العام 2016 في أوساط اليهود (تم نشره في العام 2018) فإن 25% يُعرّفون أنفسهم كـ"تقليديين [4]"؛ 16% مُتديّنين ومُتديّنين بشدّة؛ 14% حريديم، أي أن المجموعة اليهودية غير الحريدية تُشكّل 86% من اليهود و64.2% من إجمالي السكّان، وعلى الرغم من كونها أغلبية في أوساط اليهود، إلا أنها لا تُشكّل أغلبية مُطلقة.
المجموعة الحريدية
تُعتبر هذه المجموعة المُتغيّر الأهم في الدراسة استناداً على افتراضاتها ونتائجها النهائية واستناداً إلى غياب البيانات الدقيقة حول أعدادها، فهذه المجموعة تتكون من قطاعات فرعية وتنمو بسرعة كبيرة، ويُمكن الحصول على مؤشّرات حول النمو السريع لهذه المجموعة من خلال الزيادة المُضطردة لعدد الطلاب في المؤسسات الأرثوذكسية المتطرّفة، وزيادة أعدادهم في تجمّعاتهم السكّانية. تتركّز هذه المجموعات في عائلات كبيرة وأعمار صغيرة؛ وحتى لو انخفض معدّل المواليد في أوساط هذه المجموعة بشكل كبير خلال السنوات القادمة؛ إلاّ أن التركيبة العمرية الصغيرة تضمن لهم نموا مرتفعا في العقدين المُقبلين بسبب عدد النساء الكبير نسبياً في سنّ الإنجاب.
بلغ عدد اليهود الحريديم في العام 2020 قرابة 1.07 مليون شخص، أي ما نسبته 11.5% من مجموع السكّان، و15.6% من السكّان اليهود فقط، حيث أن نسبة النمو لهذه المجموعة تبلغ حوالي 4.4% سنوياً (24% خلال السنوات الخمس الماضية) وهي نسبة كبيرة وغير مُعتادة في العالم سببها معدّل الخصوبة المرتفع للنساء الحريديات (6.6 طفل للمرأة الحريدية مقارنة بـ 2.1 طفل للمرأة العلمانية). وهذه البيانات بالإضافة إلى الرغبة في العيش في أماكن محدّدة تُساعد في خلق كثافة سكّانية عالية في هذه المجموعة (في مدينة بني براك مثلاً يسكن 26 ألف شخص في كل كيلومتر مربع وفق إحصائية العام 2017، ما يجعلها واحدة من أكثر المدن التي تضم كثافة سكّانية في العالم وهي مُعطيات مُشابهة لتلك الموجودة في منهاتن/ نيويورك).
العرب في إسرائيل
بلغ عدد العرب في إسرائيل 1.96 مليون نسمة في نهاية عام 2020 (بمن في ذلك الفلسطينيون في القدس الشرقية)، وتركّز الدراسة على عامل الدين في قراءة الأقلية العربية في الداخل، حيث يتم تقسيمهم إلى مجموعات: مسلمون؛ دروز؛ مسيحيون عرب؛ بدو وشركس.
تُعتبر المجموعة الأولى (أي المسلمون العرب) أكبر مجموعة بين العرب في إسرائيل، وقُدّر عددهم في نهاية العام 2020 بحوالي 1.673 مليون نسمة، أي ما نسبته 85.6% من إجمالي عدد العرب في إسرائيل، وحوالي 18% من مجمل السكّان (تشمل هذه الأرقام العرب المسلمين في القدس الشرقية- لا يتم تصنيفهم كمواطنين في إسرائيل) وعليه يُمكن الاستنتاج بأن عدد
المسلمين العرب (مواطنو إسرائيل بدون احتساب المقدسيين) يُقدّر بحوالي 1.3 مليون نسمة، بمعدّل نمو سنوي 2.3% في العام 2019، وعلى الرغم من أن هذا المعدّل انخفض خلال العقدين الماضيين من 3.8% إلى 2.3% إلا أنه ما زال مرتفعاً مُقارنةً باليهود (1.6% في العام 2019) والمسيحيين (1.6% في العام 2019) والدروز (1.3% في العام نفسه).
بالنسبة للبدو، لا يقدّم مكتب الإحصاء المركزي بيانات موثوقة عن هذه المجموعة، إلا أن المعطيات تُشير إلى أن عدّدهم ابتداءً من كانون الثاني 2021 قد بلغ 279000 نسمة، أي حوالي 14.3% من المواطنين العرب، بمعدّل نمو سنوي 3.4% خلال العقد المنصرم. أما بالنسبة للعرب غير المسلمين فيُشكّلون نسبة 14% من مجمل المواطنين العرب، ويضمون: 145 ألف درزي؛ 139 ألف مسيحي (أي 77% من مجمل المسيحيين في إسرائيل). أما فئة الشركس، والتي يتم تصنيفها كمجموعة مسلمة (سنّية) لكن ليسوا عرباً حسب الجنسية، فقد بلغ عددهم حوالي 5000 شخص فقط.
وتُعتبر القدس (بشقّيها الشرقي والغربي كما ترد في الدراسة) أكبر مدينة من حيث عدد السكّان،
إذ بلغ عددهم 952.300 نسمة، منهم 585.500 يهودي (62%) و366.800 عربي (38%) بحسب مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل.
التوقّعات الديمغرافية طويلة الأمد (2065)
نشر مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي في أيار 2018 توقّعات ديمغرافية حتى العام 2065 على النحو الموضّح في الجدول رقم (2) أدناه:
الجدول رقم (2): توقّعات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي بخصوص الزيادة السكّانية 2015-2065.
السنة يهود و"آخرون"
باستثناء الحريديين الحريديين
مجموع اليهود والحريديم و"آخرون"
العرب (بما في ذلك القدس الشرقية) مجموع السكان
% من سكان إسرائيل النسبة النسبة النسبة بالآلاف
2015 68.0 11.2 79.2 20.8 8.463.4
2020 66.3 12.6 78.9 21.1 9.293.3
2025 64.5 14.3 78.7 21.3 10.188.3
2035 60.6 17.9 78.5 21.5 12.133.4
2045 57.0 22.0% 79.0 21.0 14.405.9
2055 52.9 26.9 79.8 20.2 17.022.1
2065 48.4 32.3 80.7 19.3 19.954.0
البيانات الديمغرافية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة
ترى الدراسة أن الأرقام والبيانات الصادرة عن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية غير دقيقة وتنطوي على مبالغة لأسباب سياسية عدّة، وأن جهاز "الإدارة المدنية"- سلطة الحكم العسكري في الضفة الغربية- لم يقم بإجراء هذا المسح منذ توقيع الاتفاقات المؤقتة في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم (اتفاقات أوسلو)، وعلى الرغم من ذلك؛ فقد أعلن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة قد بلغ 5.1 مليون نسمة حتى نهاية العام 2020، منهم 3.05 مليون في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية)، و2.05 مليون في قطاع غزة، وأن معدّل النمو السكّاني السنوي للفلسطينيين في هذه المناطق اعتباراً من العام 2020 قد بلغ 2.5% سنوياً (2.2% في الضفة الغربية و2.9 في قطاع غزة).
تولي الدراسة أهمية كبيرة للتركيبة السكانية الفلسطينية في هذه المناطق وتستعرضها من حيث الهوية الدينية (مسلم ومسيحي)، وتركّز على أعداد الفلسطينيين في المناطق المصنّفة (ج) بحسب اتفاق أوسلو والبالغة مساحتها 61.8% من مساحة الضفة الغربية، حيث بلغ عددهم في العام 2018 قرابة 393 ألف نسمة.
توقّعات "الإدارة المدنية" للميزان الديمغرافي
في أيار 2018، قدّم أوري مندس، نائب رئيس "الإدارة المدنية" في الضفة الغربية آنذاك، تقريراً إلى لجنة الكنيست يتضمّن تنبؤاً/ تقديراً لعدد الفلسطينيين المتوقّع بحلول العام 2050 بناءً على طلب هذه الأخيرة، وفيما يلي أهم ما ورد في التقرير بشكل مُكثّف:
أ- في أيار 2018 بلغ عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية 2.5-2.7 مليون نسمة بمعدّل نمو سكّاني 3% وهي نسبة آخذة بالانخفاض، وبافتراض متوسط معدّل نمو سنوي 2.0%، سيكون هناك 6 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية بحلول العام 2050، أو 7.2 مليون نسمة بافتراض معدّل نمو سنوي 2.6%، وبحسب كاتب الدراسة فإن العدد سيكون 5.1 مليون نسمة على أقل تقدير (جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني يتوقّع معدّل نمو سنوي 2.2% في هذه الأيام).
ب- في أيار 2018 أيضاً، بلغ عدد الفلسطينيين في قطاع غزة 2.1 مليون نسمة، لكن لا يوجد توقّع دقيق لمعدّل الزيادة السنوي كما في الضفة الغربية، إلا أنه من المرجّح أن يصل العدد إلى 4-4.3 مليون نسمة بحلول العام 2050.
ت- بحسب التقرير؛ فإن عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المتوقّع بحلول العام 2050 قرابة 10 ملايين فلسطيني في الضفة الغربية (بدون القدس الشرقية) وقطاع غزة فقط، في المقابل؛ من المتوقّع أن يصل عدد اليهود و"الآخرون" في إسرائيل إلى 10.6 مليون نسمة (7.5 مليون يهود و"وآخرون" دون الحريديم، و3.1 مليون حريدي) و3.2 مليون عربي (بمن في ذلك الفلسطينيون في القدس الشرقية).
ث- بناءً على البيانات الواردة والمتوقّعة أعلاه؛ بحلول العام 2050 سيكون عدد الفلسطينيين في فلسطين الانتدابية (من البحر إلى النهر) أكثر من عدد اليهود، إلا أن التقرير يعتبر أن استثناء قطاع غزة من الحسابات الديمغرافية بسبب الانسحاب الإسرائيلي أُحادي الجانب منها سيُقلّص الفارق في الميزان الديمغرافي لصالح اليهود.
المعاني والأبعاد التي تتضمّنها المُعطيات الديمغرافية السابقة وحلول مقترحة
يُفضّل كاتب الدراسة الاعتماد على خطاب رئيس الدولة السابق رؤوفين ريفلين في العام 2015، والذي افترض وجود تركيبة اجتماعية في إسرائيل تنقسم إلى أربع مجموعات/ أسباط؛ المتديّنون؛ العلمانيون؛ الحريديم والعرب، بسبب وجود العديد من الانقسامات الرئيسة والفرعية في "الهويات الإسرائيلية" المختلفة المكوّنة للمجتمع الإسرائيلي، ويُحاول الكاتب قراءة أبعاد ومعاني البيانات الديمغرافية والتوقّعات المستقبلية الواردة أعلاه على الصعيد "الوطني/ القومي الإسرائيلي" في المستقبل القريب والبعيد وفق التالي:
أ- التحدّي الديمغرافي الداخلي
يولي الكاتب في هذه الدراسة- ويتماهى في ذلك مع مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي- أهمية كبيرة للمجموعة الحريدية وللعرب في إسرائيل (البدو بشكلٍ خاص)، استناداً إلى موقفهم "المتردّد" من الدولة الصهيونية وكونهم يُشكّلون أيدي عاملة رخيصة مُقارنةً ببقية المجموعات بالإضافة إلى مشاركتهم الضئيلة في "الخدمة العسكرية"، إلّا أن تأثيرهم السياسي كبير (خاصّة المجموعة الحريدية). نتيجةً لذلك؛ تنخفض نسبة اليهود غير الحريديم من إجمالي السكّان، ولا سيّما المجموعة العلمانية بسبب انخفاض نسبة الخصوبة للمرأة العلمانية، نسبياً، مُقارنةً بالمجموعات الأخرى.
إن الزيادة الطبيعية (المرتفعة) للمجموعة الحريدية هي مؤشر ذات أهمية كبيرة في التوقّعات المعروضة أعلاه (حتى العام 2065- الجدول رقم 2)؛ حيث أن هذه الزيادة ستحافظ على "التفوّق الديمغرافي اليهودي" في إسرائيل، وفق أقل التقديرات، وبناءً على ذلك ستُحافظ إسرائيل على طابعها وهويتها اليهودية بشكل واضح وجليّ حتى حينما يكون العرب خُمس السكان والحريديم ثلث السكّان بحلول العام 2065. لكن السؤال الذي يجب التركيز عليه هو هل ستظلّ إسرائيل "دولة ديمقراطية ومتطوّرة"، في ظل هذه الزيادة المتوقّعة للمجموعة الحريدية التي تُعتبر غير ديمقراطية، بطبيعتها، وتتبنّى أنماطا اجتماعية وحياتية يصعُب على العلمانيين اليهود (الذين يُشكّلون اليوم الأغلبية) قبولها، مثل الموقف من الخدمة العسكرية؛ المساواة؛ النظرة للمرأة؛ المشاركة في سوق العمل، طبيعة التعليم الروحاني.... الخ؟ وهذا ما يتضّح من خلال حالة عدم الاستقرار الحكومي (الائتلافات الحكومية) في الفترة الأخيرة والتي تلعب الأحزاب الحريدية دوراً فيها.
إن التغيير في التركيبة الديمغرافية لإسرائيل سيضرّ، حتماً، بالمؤشّرات الرئيسة للقوة الاقتصادية، وسيكون من الصعب عليها أن تحافظ على هويتها "كدولة يهودية وديمقراطية متطوّرة" خاصّة مع تقلّص عدد اليهود غير الحريديم الذين قد يلجأ عدد كبير منهم إلى الهجرة (العلمانيون والشباب المتعلّمون) إذا لم يجدوا مكاناً لهم في سوق العمل، ويزداد الأمر تعقيداً إذا ما تعمّقت الفجوة بين إسرائيل و"الدول المتقدّمة" وأصبحت هذه المجموعة غير قادرة على التأثير في هوية إسرائيل وطابعها مُستقبلاً وهو التدهور الذي يعتبره الكاتب "غير مرغوب" لأي من المجموعات المكوّنة للمجتمع الإسرائيلي. لذلك يقترح أن يتم التوصّل إلى تفاهمات جديدة بين المجموعات السّكانية المختلفة في إسرائيل، بحيث يُمكن للجميع العيش فيها- وهو أمر مُمكن وليس صعباً بالنسبة للكاتب- بشكل يضمن العمل على تعزيز مبدأ "تكافؤ الفرص" بين المجموعات المختلفة؛ تحسين نظام التعليم الابتدائي ونشر قيم "التعايش"؛ تحمّل الحريديم والعرب المسؤولية في المجالات المهمّة لمستقبل إسرائيل (التعليم والعمل) بحيث يُصبح تحسين الوضع الاقتصادي- الاجتماعي هدفاً مشتركاً للمجموعات المختلفة بدلاً من الخلافات السياسية القائمة، ويُمكن برأيه تحقيق ذلك من خلال الاستثمار في التعليم الذي يستجلب الدخل؛ زيادة معدّل المشاركة في القوة العاملة وإنتاجية العمل للرجال الحريديم وللرجال والنساء العرب وباقي المجموعات أيضاً، وهذا يتطلّب وضع نظام تعليم "ذي صلة"، واستثمارات اقتصادية كبيرة، وتغييرات في نظام "الخدمة العسكرية" وهيكلية الجيش الدائمة.
ب- التحدّي الديمغرافي السياسي
مع وصول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض (الحزب الديمقراطي) مرةً أخرى تتزايد فرص إعادة إحياء "العملية السياسية" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتعود قضية "حدود إسرائيل الدائمة" التي تُشكّل الاعتبارات الديمغرافية حجر الزاوية فيها، وأيضاً، حقّ العودة بالنسبة للفلسطينيين- الذي ترفضه إسرائيل بشكل قاطع بسبب الاعتبارات الديمغرافية- بحسب ادّعاء كاتب الدراسة.
يتمثّل التحدّي الديمغرافي لإسرائيل- بحسب الكاتب- في الحفاظ على هويتها كـ"دولة يهودية وديمقراطية" في مواجهة الفلسطينيين الذين تتنامى ديمغرافيتهم بشكل كبير، كما يتضّح من البيانات السابقة، ويتمثّل الهدف الإسرائيلي في الحفاظ على "ميزان ديمغرافي إيجابي" لليهود مقابل الفلسطينيين في إسرائيل، وهي العملية التي يُطلق عليها الكاتب "الميزان الضيّق"، والذي سيتأثر بشكل سلبي في حال أقدمت إسرائيل على ضم مناطق تحتوي على فلسطينيين (على سبيل المثال ضم بعض مناطق ج أو الأغوار)، خصوصاً وأنها لا تمتلك إحصائيات دقيقة لعدد الفلسطينيين في هذه المناطق (ويرى أنه يجب التعامل بحذر شديد مع البيانات الواردة من الفلسطينيين كونها تنطوي على اعتبارات سياسية).
إن التحدّي الثاني أمام إسرائيل يتمثّل في "الميزان الواسع"- عدد اليهود والفلسطينيين في فلسطين الانتدابية (من البحر إلى النهر)؛ إذ أن الزيادة المتوقعة للفلسطينيين لن تؤثّر على هوية إسرائيل "كدولة يهودية وديمقراطية"، لكنها، وبشكل مؤكّد ستؤثر على صورة إسرائيل دولياً، بشكلٍ سلبي، باعتبارها تُسيطر على الفلسطينيين في عيون المجتمع الدولي وفي عيون جزء كبير من الإسرائيليين الذين لا يرغبون في السيطرة على شعب آخر. وعلى الرغم من أن "الميزان الواسع" يميل لصالح اليهود؛ إذ بلغ مجموع الفلسطينيين حتى نهاية العام 2020 وفق التقديرات الإسرائيلية (التي تعتبر الفلسطينيين في إسرائيل هم العرب المسلمون فقط مع تخفيض عدد المقدسيين!) حوالي 6.5 مليون نسمة، مقابل 7.4 مليون نسمة (يهود وآخرون) في فلسطين الانتدابية، إلا أن الزيادة المتوقّعة للفلسطينيين مُستقبلاً ستكون لها انعكاسات كبيرة في حال كانت إسرائيل مُطالبة بضم الفلسطينيين وتُصبح "دولة ثنائية القومية"، وهذا الأمر في غاية الخطورة كما يراها الكاتب، وتراها أيضاً مختلف المجموعات اليهودية.
إجمالاً، يخلص الكاتب إلى أن إسرائيل مُطالبة، بشكل جدّي، بتبنّي منظور سياسي- أمني تُشكّل الجغرافيا والديمغرافيا حجراً رئيساً فيه؛ يتضمّن- من ضمن أمور أخرى كثيرة- الابتعاد عن ضم أي مناطق تتضمّن فلسطينيين في الضفة الغربية، والعمل استناداً إلى مبدأ "تبادل الأراضي" ضمن أية تسوية سياسية مُستقبلية والذي يضمن أكبر عدد مُمكن من اليهود وأقل عدد من الفلسطينيين داخل حدودها. كما يُبدي الكاتب تحمّساً شديداً لفكرة "تقليص حدود القدس الشرقية" بشكل يضمن التخلّص من أكبر قدر من الفلسطينيين هناك، والاهتمام أكثر بالمجموعة السكّانية المُصنّفة "الآخرون" في التركيبة السكّانية الإسرائيلية والذين لا يُبدون اليوم أية معارضة لهوية إسرائيل أو لليهود فيها، بشكل يمنع أي احتمالية لنشوب نزاعات بينهم وبين إسرائيل في المستقبل.
تشمل هذه البيانات، وفقاً للدراسة، فلسطينيي القدس الشرقية ولا تشمل العُمّال الأجانب في إسرائيل والبالغ عددهم 167000 نسمة في نهاية العام 2019. ↑
2.بحسب الدراسة؛ "الآخرون" هم السكان غير المصنّفين حسب الدين في سجّل السكّان سابقاً بالإضافة إلى "المسيحيين غير العرب"، وتزداد نسبتهم بفعل "الهجرة القادمة إلى إسرائيل" سنوياً. ↑
3.المصدر: مكتب الإحصاء الإسرائيلي، قواعد البيانات، انتهت صلاحيتها في 8 آذار 2021. ↑
4.التقليديون أو "الماسورتيون"- كما يُطلق عليهم باللغة العبرية- هم ظاهرة مُنتشرة في أوساط اليهود الشرقيين، وهي أقرب لأن تكون هوية مرنة (تعريف ذاتي) تقع في النطاق المُمتد بين هويتين يهوديتين خاصة باليهود الأشكناز؛ علمانيين ومتديّنين، ولا يُمكن اعتبار هؤلاء تياراً محدداً؛ إذ إن موقفهم من الدين مرتبط برغبتهم وميلهم لأن يكونوا جزءاً من الإطار اليهودي الشامل دون الدخول في التصدّعات والخلافات القائمة على أساس درجة التديّن كتلك القائمة في المجتمع الإسرائيلي والمنتشرة بشكل رئيس في أوساط اليهود الأشكناز.