في حدث فريد من نوعه، وقع أكثر من مائة من كبار علماء السياسة والمتخصصين في قضايا الديمقراطية، في مطلع شهر يونيو الماضي، من أبرزهم "فيليب شميتر" و"لاري دايموند" و"بييا نوريس"، بياناً، أعربوا فيه عن مخاوفهم بشأن التهديدات التي تتعرض لها الديمقراطية الأمريكية، وذلك ضمن موجة من الجدل العام في الدوائر الفكرية الأمريكية حول تراجع الديمقراطية بعد سنوات الرئيس السابق، دونالد ترامب، لاسيما محاولات اقتحام الكونغرس في 6 يناير الماضي.
وقد تزامن هذا الجدل مع تحركات للحزب الديمقراطي بهدف تغيير قوانين الانتخابات، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات حول الديمقراطية الأمريكية، وأهداف الديمقراطيين وراء محاولة تغيير قوانين الانتخابات.
مظاهر تراجع الديمقراطية الأمريكية
وفقاً للعديد من الدراسات والمؤشرات الخاصة بقياس مستوى الديمقراطية، تعاني الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد واحدة من أهم الديمقراطيات الغربية، تراجعاً حاداً في مستوى الديمقراطية في العقد الأخير، إلى درجة أدت إلى حديث البعض في دوائر النخبة والمثقفين الأمريكيين عن "موت الديمقراطية" الأمريكية. وفي هذا الصدد يمكن رصد الجوانب التالية:
1 - تراجع في مؤشرات ممارسة الديمقراطية: استناداً إلى العديد من المؤشرات التي ترصد مستوى تقدم وتراجع الدول من حيث الممارسات الديمقراطية، يمكن القول إن الولايات المتحدة تراجعت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة. وعلى سبيل المثال، أشار أحدث تقرير سنوي لمجلة "الإيكونوميست" حول الديمقراطية في العالم لعام 2020، إلى تراجع الولايات المتحدة من "الديمقراطية الكاملة" إلى "الديمقراطية المعيبة"، كما كشف تقرير صدر عن مؤسسة بيت الحرية الأمريكي، في مارس 2021، عن تراجع الولايات المتحدة 11 نقطة - على مقياس من 100 نقطة - خلال 10 سنوات في التصنيف العالمي للحرية، حيث تراجع تصنيفها من 93 نقطة في عام 2010 إلى 83 نقطة في عام 2020.
2 – انخفاض نسبة رضا الأمريكيين عن ديمقراطيتهم: أدى الخلل الوظيفي لمبدأ الفصل بين السلطات أكثر من مرة في العقدين الأخيرين إلى تعطيل أو إعاقة أداء الحكومات السابقة نسبياً، وهو ما أدى إلى تقويض ثقة الجمهور في الديمقراطية؛ فوفقاً لتقرير أصدره "مركز مستقبل الديمقراطية"، فإن نسبة الأمريكيين الذين يقولون إنهم غير راضين عن ديمقراطيتهم قد زادت بأكثر من الضعف خلال العقدين الماضيين، ففي عام 2000 كانت نسبتهم تقل عن 25%، بنما زادت إلى 55% في عام 2020. ولهذا يرى كثير من المراقبين أن ما كان يُرَّوج له من أن النظام السياسي الأمريكي قادر على حماية الديمقراطية مهما اختلف الأشخاص الذين يصلون للسلطة، قد أثبت فشله إلى حد كبير.
3 - عدم قبول نتائج الانتخابات: وفقاً لتعريف عالم السياسة البارز "آدم برزورسكي" للديمقراطية، بأنها نظام تخسر فيه الأحزاب الانتخابات ولا تخسر الديمقراطية"، فإن الديمقراطية تتطلب قبول الأطراف المختلفة بالهزيمة في الانتخابات، وأن تكون لديهم فرصة معقولة للفوز مرة أخرى في المستقبل، بما يعني أن الهزيمة لا تشكل تهديداً وجودياً لقادة الأحزاب والمرشحين الخاسرين وناخبيهم.
وبناءً على ذلك، ومن واقع الممارسة الأمريكية، يُلاحظ أن الرئيس السابق "ترامب" ردد كثيراً رواية "سرقة الانتخابات"، وشكك في نزاهة العملية الانتخابية، وطالب نائبه حينذاك، مايك بنس، بعدم التصديق على نتيجة الانتخابات باعتباره رئيساً للكونجرس في ذلك الوقت، بل إنه جمع مبالغ طائلة تجاوزت 255.4 مليون دولار كتبرعات من مؤيديه خلال الأسابيع الثمانية التي أعقبت انتخابات 2020، لتمويل الطعون في النتائج الانتخابية بناءً على مزاعمه عن تزوير الناخبين. كما تناولت عدة تقارير إعلامية في مطلع شهر يونيو الماضي تصريحات منسوبة لـ "ترامب" تطمئن أنصاره بأنه سوف يعود إلى المنصب في أغسطس القادم.
الغريب أن هذا الموقف لم يكن شخصياً، بل مؤسسياً من قطاع كبير من كبار الساسة في الحزب الجمهوري، والذين يرددون رواية "ترامب" نفسها من دون أي سند أو دليل، ووصل الأمر ببعض المسؤولين السابقين في إدارته إلى الدعوة إلى تدخل الجيش للانقلاب على الإدارة المُنتخَبَة، وهو ما قاد إلى محاولات اقتحام الكونجرس في مشهد عبر بشكل واضح عن تراجع الديمقراطية الأمريكية. ناهيك عن وجود قطاع واسع من الجمهوريين لم يعترفوا بنتائج الانتخابات، وفق ما أشار لذلك استطلاع للرأي أجراه "مركز استطلاع الرأي بجامعة كوينيبيك"Quinnipiac University Poll، في شهر أبريل الماضي، حيث وجد الاستطلاع أن 70% من أنصار الحزب الجمهوري لا يعتبرون "جو بايدن" رئيساً منتخباً بشكل قانوني، وأن نتائج التصويت كانت مزورة، وأنه تمت "سرقة" الفوز من الرئيس ترامب.
3 – حدة الاستقطاب السياسي: يعتبر الاستقطاب في الداخل الأمريكي هو القوة الدافعة وراء تآكل المعايير للديمقراطية، فهناك معياران أساسيان ضروريان للديمقراطية ولتجنب حدة الاستقطاب السياسي، أحدهما هو التسامح المتبادل، والآخر هو الاعتراف المتبادل وقبول شرعية المنافسين الحزبيين.
وقد أرجع العالم السياسي الشهير، دانييل زيبلات، هذا الاستقطاب، إلى التغير الديموغرافي في أعداد الملونين والأقليات، وهو ما ساهم في كسر احتكار الأغلبية الساحقة من البيض، مؤكداً على "أن الاستقرار الظاهري للديمقراطية الأمريكية كان يعتمد بشكل أساس على الإقصاء العنصري، والذي استبعد قسراً ملايين الأمريكيين الأفارقة في الجنوب.
كما أدى ازدياد أعداد المهاجرين من الأقليات والمُلَّونين خلال نصف القرن الماضي إلى تآكل كل من الحجم والوضع الاجتماعي للأغلبية المسيحية البيضاء. ونتيجة لهذه التغييرات، يمثل الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة الآن شرائح مختلفة جداً من المجتمع الأمريكي؛ حيث يمثل الديموقراطيون تحالف "قوس قزح" الذي يضم ناخبين بيض مدنيين ومتعلمين وأشخاص مُلَّونين، وما يقرب من نصف الناخبين الديمقراطيين من غير البيض.
تجدر الإشارة إلى أن المسيحيين البيض كانوا يشكلون أكثر من 90٪ من الناخبين الأمريكيين منذ خمسينيات القرن الماضي، وحينما تم انتخاب "بيل كلينتون" في عام 1992، كانوا يشكلون 73% من الناخبين، فيما انخفضت هذه النسبة لدى انتخاب "باراك أوباما" في عام 2012 إلى 57%، وتشير التوقعات المستقبلية إلى أن هذه النسبة سوف تقل عن 50% في عام 2024، ما يعني فقدان أغلبيتهم الانتخابية، وربما مكانتهم الاجتماعية المهيمنة.
إن هذا التحول الديموغرافي ساهم في إعادة رسم التكوين الحزبي للحزبين الكبيرين، حيث يظل الجمهوريون في الأغلب من البيض والمسيحيين، فهم يمثلون بشكل كبير أمريكا المسيحية البيضاء، بينما أصبح الديمقراطيون يمثلون أي شخص آخر. هذا هو الانقسام الذي يكمن وراء الاستقطاب الحاد، والذي يزداد خطورة مع شعور الحزب الجمهوري بالتدهور العددي والمكانة، بشكل يجعله خائفاً على مستقبله السياسي، وهو ما تعكسه شعارات مثل "استرد بلدنا" و"اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
مساعي تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية:
أضحت السياسة على المستوى الوطني الأمريكي شديدة التنافسية، فالحزبان، الديمقراطي والجمهوري، يعتبران أن تغيير القواعد الأساسية للديمقراطية هي مفتاح النصر في المستقبل.
ويعود ذلك بالأساس إلى اشتداد حدة الاستقطاب السياسي بينهما، خاصة منذ تولي "ترامب" منصب الرئاسة في عام 2016، فوفقاً لاستطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" في العام نفسه، أكد حوالي 49٪ من الجمهوريين و55٪ من الديمقراطيين "خوفهم من الطرف الآخر". وبمرور الوقت ازدادت الكراهية، ففي استطلاع أجرته شبكة "سي بي إس نيوز" في شهر فبراير 2021، رأى 57٪ من الجمهوريين أن الديمقراطيين هم عدو وليسوا مجرد خصوم سياسيين، ورأى 41٪ من الديمقراطيين أن الجمهوريين هم عدو. كما أظهرت دراسة حديثة أجراها عالما السياسة "داني هايز" و"ليليانا ماسون" أن حوالي 60% من الديمقراطيين والجمهوريين قالوا "إنهم يعتقدون أن الطرف الآخر يمثل تهديداً خطيراً للولايات المتحدة".
وفي هذا الإطار، يسعى كلا الحزبان إلى إعادة تشكيل هذه القواعد وإعادة هندسة العمليات الانتخابية، لكنهما يتخذان مقاربات مختلفة للغاية لتغيير هذه القواعد، تتمثل في كيفية توظيف "حقوق التصويت".
في هذا السياق يعتقد الديمقراطيون أن هيكل الحكم يميل ضدهم، وأنهم لا يفوزون بمقاعد تتناسب مع تزايد أعدادهم، وبالتالي يضغطون من أجل إحداث تغييرات رئيسية لقلب ما يرون أنه خلل هيكلي، مستفيدين من زيادة الكتلة الصوتية للملونين (خاصة مع ارتفاع عدد من يحق لهم التصويت من أصول لاتينية وأفريقية في الولايات المتأرجحة مثل "فلوريدا" و"أريزونا" اللتين سيكون لهما وزن في حسم انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2022).
وبالفعل فقد سعى الحزب الديمقراطي، مستفيداً من تحقيقه الأغلبية النيابية في انتخابات 2020، إلى تمرير مشروع "قانون من أجل الشعب" For the People Act، والذي يضمن حصول الناخبين على بطاقات الانتخاب بالبريد حال طلبها، ويحتم أن يكون التصويت المبكر قبل 15 يوماً على الأقل من موعد أي انتخابات فيدرالية. كما يمنع هذا القانون الولايات من حرمان المتهمين الجنائيين الذي استكملوا عقوباتهم من التصويت، ويفرض قيوداً جديدة على التبرعات غير المعلن عنها، والتي تُسمَّى بـ "الأموال السوداء"، ويجعل القانون عملية تسجيل الناخبين الجدد تلقائية، ويلزم شركات التكنولوجيا بالإفصاح عن المعلومات الخاصة بالإعلانات السياسية، ويقدم دعماً حكومياً جديداً لصغار المرشحين الذي يعتمدون على أموال التبرعات.
من جانبهم، عمل الجمهوريون على إحباط مشروع القانون، وذلك لتداعياته السلبية عليهم مستقبلاً، حيث توجد رؤية لديهم بأن تمرير هذا المشروع سيقود إلى صعوبات كبيرة لهم في الانتخابات القادمة. وبديلاً عن طرح الديمقراطيين، يسعى الحزب الجمهوري في الولايات التي يسيطر عليها إلى إصدار قوانين تشدد من إجراءات التسجيل والاقتراع، سواءً كان التصويت عبر البريد أو التصويت الشخصي، بحجة تفادي إمكانية حدوث عمليات التزوير التي طالما رددها ترامب.
ووفقاً "لمركز برينان"، تشير التقارير إلى أنه منذ يناير الماضي، تم سن 22 قانوناً جديداً تُقيد حقوق التصويت في 14 ولاية، من أبرزها: فلوريدا وجورجيا وأيوا. وفي ولاية بنسلفانيا التي أدت بطاقات الاقتراع بالبريد إلى فوز الرئيس جو بايدن، قدم المشرعون الجمهوريون ثلاثة مقترحات مختلفة تتطلع إلى إلغاء ما يسمى بتشريع التصويت عبر البريد "من دون عذر".
إنقاذ الديمقراطية الأمريكية
دفع التراجع الواضح للديمقراطية الأمريكية العديد من الخبراء في الداخل الأمريكي إلى طرح مجموعة من الأفكار التي قد تساعد على تعافي الديمقراطية الأمريكية واستعادتها بشكل فعَّال، ومن أبرز هذه الأفكار ما يلي:
1 – إعادة النظر في نظام المجمع الانتخابي: أثبت نظام المجمع الانتخابي الذي يمثل محور النظام الانتخابي الأمريكي أنه غير فعَّال ويشوبه العوار، مما يحتم إعادة النظر في إعادة هيكلته أو إلغائه عن طريق تعديلات دستورية. وهذا يتوافق إلى حد كبير مع المزاج الشعبي، فوفقاً لاستطلاع للرأي أجراه مركز "جالوب"، أكد 61% من الأمريكيين تأييدهم لإجراء تعديل دستوري لإلغاء المجمع الانتخابي وتحديد الانتخابات الرئاسية بالتصويت الشعبي الوطني. ولجعل الانتخابات التشريعية أكثر عدلاً، يمكن أن يتم ذلك من خلال الاعتماد على نظام التمثيل النسبي لانتخابات مجلس النواب والولايات.
2 - تغيير القواعد الانتخابية للحزب الجمهوري: لن تكون الديمقراطية الأمريكية آمنة إلا عندما يلتزم الحزبان الرئيسيان بقواعد اللعبة الديمقراطية. ولكي يحدث ذلك، يجب أن يتغير الحزب الجمهوري وأن يصبح أكثر تنوعاً وتعبيراً عن مختلف الأعراق، وقادراً على جذب الناخبين الأصغر سناً والمُلَّونين، وبالتالي تقل تخوفاته المستقبلية، وتقل حدة الاستقطاب السياسي. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق هذا التحول في المدى القريب، فإن تكلفة الاستمرار في السياسات الحالية والتمسك بالأفكار التقليدية سوف تكون لها آثار خطيرة على مستوى الحزب والدولة أيضاً.
3 - توافق الحزبين على نظام وحقوق التصويت: يجب اتباع نظام غير حزبي على الصعيد الوطني لمراقبة الانتخابات؛ من أجل حماية حق الوصول إلى التصويت للجميع، وإنشاء لجان مستقلة لإعادة تقسيم الدوائر، وهذا لن يتم إلا من خلال اتباع أجندة توافقية بين الحزبين، وذلك خلافاً لما يحدث حالياً، حيث يصر الجمهوريون على تقييد حق الانتخاب، بينما يصر الديمقراطيون على توسيعه.
وتبدو خلاصة ما سبق أن الصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري من أجل تغيير قوانين الانتخابات يكشف عن إشكالية رئيسية، تتمثل في تراجع وتآكل الديمقراطية الأمريكية، بشكل سوف يقود لمزيدٍ من الجدل ليس بين السياسيين فقط، ولكن في أوساط النخب المثقفة في الداخل الأمريكي، وهو ما دفع البعض إلى التأكيد على أنه إذا لم يتبن الأمريكيون عموماً، والجمهوريون خصوصاً، أجندة تعلي أولوية الديمقراطية على الأهداف الحزبية، فإن البلاد قد تدخل في نفق مظلم من الاستمرار في هشاشة الديمقراطية الأمريكية.