• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقارير

ما هي دلالات فساد وقُرب انهيار النظام الأمريكي الليبرالي؟


في نداء قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي لموسم حج هذا العام رسائل متعددة الاتجاهات، حملت في طيّاتها طروحات فكرية إلى جانب المعاني الدينية الثابتة لمناسبة الحج واستثنائية موسم هذا العام بفعل إجراءات جائحة كورونا العالمية. بالمقارنة مع ندائَي الحج لعامَي 2018 و2019، يُلاحَظ أن الإمام الخامنئي كان نداؤه هذا العام أكثر شمولية واحتوى على مضامين قدّمت للعالم جانباً من فكر سماحته في ظل تحوّلات يمرّ بها النظام الدولي ويتأثر بها المسلمون وسائر شعوب الأرض.

أكثر ما يلفت المراقب والمتابع لخطابات سماحة القائد أنّه في نداء هذا العام ركّز على مخاطبة المسلمين على امتداد العالم الإسلامي بخصوص مسألة الوحدة الإسلامية بما يمكن اعتباره غوصاً في أعماق الأسباب التي تحتّم عليهم بأن يتّحدوا. لقد استعمل القائد في ندائه مصطلح "المصلحة الإلزامية" عند حديثه عن وجوب الوحدة بين المسلمين لمواجهة العدوَّين المشتركَين لهم، أميركا والكيان الصهيوني، انطلاقاً مِن المضمون القرآني. ولم يكتفِ القائد بالدعوة إلى الوحدة – كما عادته – فقط كعنوان عام يكون وروده في نداء الحج أمراً تلقائياً، بل دق سماحته باب الأسباب الفكرية والمنطقية التي على كل مسلم – أياً كان توجّهه أو مذهبه – أن يتفكّر بها ليستنتج أن المصلحة العليا المشتركة مع المسلم الآخر تفرض تنحية الخلافات جانباً، كون الأخطار والعداوات (كما وصّفها سماحته) تفرض ذلك.

لقد تحدث سماحة القائد في ندائه عن العوامل الدالة على تضعضع وانهيار النموذج الحضاري الغربي المتمثّل اليوم بالنظام الرأسمالي الليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية لكي يقول للمخدوعين أو المأخوذين بالحرب الناعمة الأميركية على امتداد العالم الإسلامي أنّ أميركا التي لطالما تحدّثنا سابقاً ولا نزال عن سقوطها الأخلاقي وافتضاح نموذجها الثقافي، لم تعد نماذجها الأخرى كما صورّت لكم. فالمخدوعون بما يُتَعارَف عليه عملياً بــ "الهيبة والعظمة" الأميركية من بوابة الاقتصاد والسياسة، خاطبهم سماحته بالحجج والبراهين والأدلة التي باتت ماثلة أمام أعين الأمم، بل وبشهادة منظّري النظام الرأسمالي الليبرالي، بأنّ علامات انهيار وسقوط النموذج الأميركي باتت أمراً واقعاً وملموساً ولم تعد في إطار التنظير أو تمني ما يجب حصوله.

أشار سماحته في ندائه إلى المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما دون تسميته عند الإشارة إلى اضطراره إلى التراجع عن نظريته المثيرة للجدل حول "نهاية التاريخ"، التي تقول بأنّ تطور التاريخ البشري كصراع بين الأيديولوجيات إنتهى إلى حد كبير، مع إستقرار العالم على الديمقراطية الليبرالية بعد الحرب الباردة وسقوط جدار برلين عام 1989. ليس فوكوياما وحده اليوم الذي يعيد التفكير بنظريته، فعلماء وسياسيون آخرون كستيفن وولت وهنري كيسنجر يتحدثون اليوم عن نهاية ما سُمِّيَ بــ "الاستثنائية الأميركية" كنموذج يتفوّق عالمياً ويجذب إليه شعوب العالم.

إنّ عوامل ضعف النموذج الرأسمالي الليبرالي وانهياره لم تتحقّق بفعل صعود قوىً عالمية أخرى، أو انبعاث قوىً حضارية خامدة فحسب، بل لأسباب الضعف البنيوية والعضوية لنفس النظام الأميركي الذي يتزعّم هذا النموذج. أشار السيد القائد إلى الأسلوب الذي يتعامل فيه رجال الدولة في أميركا مع شعبهم، عقب اندلاع التظاهرات الاحتجاجية على العنصرية وقتل المواطنين من ذوي البشرة السمراء، وهو أسلوب معتمد على امتداد العقود الماضية، لكن الجديد في الأمر اليوم هو أنّه بات يُنشَر بالصوت والصورة بفعل تطور وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، وهذا يعني أنّ النظام الأميركي الذي تتجذّر فيه العنصرية والتمييز تعرّى وافتُضِحت زيف ادعاءاته عن الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الأقليات.

أحد أهم البراهين الماثلة أمامنا اليوم على فساد وعدم فاعلية الديمقراطية الغربية القائمة على المال والرأسمالية الطبقية التمييزية (بعبارات القائد) تتجلّى في المصائب التي تعرّض لها السكان في الولايات المتحدة الأميركية عندما اجتاحها ولا يزال فايروس كورونا المستجد. بسبب سيطرة الشركات الخاصة على القطاع الصحي الأميركي وتحكّمها بمصير السكان، لم يستطع كثير من المصابين بالوباء أن يدفعوا ثمن الاستشفاء، وسط إنفاق حكومي إجمالي لا يتجاوز نسبة 45% من مجموع ما يُنفَق على الرعاية الصحية (أنظر الرسم رقم 1).

ومن مظاهر فساد النموذج الأميركي الذي غالباً ما يُعتَّم عليه هو أن العدالة الاجتماعية التي غالباً ما تكون حجة تستعملها واشنطن لانتقاد أو حصار نظام ما في دولة ما، هي مفهوم مفَرَّغ من معناه وغير مطبَّق كما تدعي المدرسة الليبرالية، فمثلاً بحسب أرقام عام 2015 امتلك أغنى 5% من سكان الولايات المتحدة حوالي 36% من إجمالي الدخل الأميركي (أنظر الرسم رقم 2).

وتحدث سماحة الإمام الخامنئي في بيانه إلى مسألة عمق الأزمة الأخلاقية والاجتماعية للحضارة الغربية، وهنا لا بد من التوقّف عند بعض المؤشرات التي يمكن أن تبيّن ما قصده القائد وآثاره على المجتمع الأميركي الذي نظّر انطلاقاً من ليبراليته المفرطة إلى الكيفية التي ينبغي أن تكون عليه مجتمعات العالم. تشير الأرقام مثلاً إلى أنّ عدد الأميركيين المؤيدين لزواج المثليين في تصاعد بعد إقرار أعلى سلطة قضائية أميركية زواج المثليين بشكل قانوني (أنظر الرسم رقم 3)، بالتزامن مع تحذير خبراء الجغرافيا السكانية الأميركيين من تراجع أعداد الولادات بسبب عوامل عدة منها ازدياد زواج المثليين وتراجع معدل الخصوبة لدى الأميركيات.

الأزمات الاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الأميركي تبرز في ارتفاع معدلات القتل اليومي مقارنة بدول أخرى، وارتفاع معدلات الإدمان والوفيات جراء تعاطي المخدرات. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه حتى على مستوى الالتزام الديني بالمسيحية، تشير الأرقام والإحصاءات إلى تراجع كبير مقارنة بأرقام وإحصاءات عام 2000 (أنظر الرسم رقم 4).

هذه الأزمات التي طفت على السطح في الولايات المتحدة الأميركية كانت كامنة أو معتّم عليها على مدى عقود، ولا يمكن معالجتها بسهولة كما يتمنى كثيرون في العالم ومنهم مسلمون للأسف، وذلك لأنّها مزمنة ومبنيّة على أسس فاسدة. يعتقد كثيرون أنّ حالة الانهيار الاقتصادي الأميركي الحالية هي بسبب اجتياح فايروس كورونا المستجد الولايات الأميركية، وهذا تصوّر خاطئ. بحسب تقرير "مكتب التحليل الاقتصادي الحكومي" الأميركي الصادر قبل شهرين، دخل الاقتصاد الأميركي مرحلة الركود في شباط/فبراير عام 2020 بعد أن اكتملت الدورة الاقتصادية التي نما فيها الاقتصاد بين عامي 2009 و2020. أي أنّ الركود الاقتصادي بدأ قبل دخول كورونا إلى أميركا. بحسب أحدث تقرير صادر عن المكتب المذكور أعلاه قبل أيام انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الأميركي بمعدل سنوي قدره 32.9% في الربع الثاني من عام 2020، أي أن الأميركيين فقدوا النمو الاقتصادي التي اكتسبوه في السنوات الأربع الماضية.

وكانت التقديرات الحكومية الأميركية تشير إلى أنّ هناك عجزاً وقصوراً عن تمويل مشاريع تأهيل البنية التحتية الأميركية حتى قبل أن تضرب جائحة كورونا الولايات الأميركية. وهذه التقديرات كانت تتحدّث عن حاجة البنية التحتية الأميركية لحوالي 5 تريليون دولار، فيما رُصِدَ لهذه المشاريع حوالي 2 تريليون فقط (أنظر الرسم رقم 5).

أما على المستوى السياسي فقد بدا واضحاً لشعوب العالم حجم الانقسام العميق وتراجع حجم الثقة بفاعلية النظام السياسي الذي يحكم في الولايات المتحدة الأميركية، حيث المصالح المالية للشركات واللوبيات وجماعات التأثير باتت تفرز نخبة سياسية وصفها القائد في ندائه بالحمقاء والغبية، وهو ما بات الشعب داخل الولايات المتحدة الأميركية يعبّر عنه في استطلاعات الرأي (أنظر الرسم رقم 6).

سيكون للانهيار الثقافي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يشهده النموذج الرأسمالي الليبرالي حالياً المتمثّل بالولايات المتحدة الأميركية نتائج وارتدادات هامة على المستوى العالمي. تحدّث القائد في ندائه عن "التحول" الذي وصفه بأنه أساسي وقال بأنّه بمتناول الأمة الإسلامية حالياً. وإذا ما نظرنا إلى العالم الإسلامي لنفحص ما فعلته أميركا بالشعوب الإسلامية فيه سنجد الدولة أو الحركة المحاصرة بالعقوبات، أو الشعب الذي قتلته وسفكت دمه أسلحة الأميركيين، أو الشعوب التي حصلت أنظمتها على المعونة والمال الأميركي لتغييبها واليوم مع دونالد ترامب فقدت هذه الشعوب تلك المعونات بفعل السياسة الإنعزالية لحاكم البيت الأبيض. لم يعد بإمكان أميركا أن تمارس دور شرطي العالم كما كانت تفعل سابقاً، والقائد تحدث عن النموذج الإيراني الذي وقف في وجه واشنطن وصفعها على خدها مراراً، وأعاد ذكر ذلك في ندائه من باب تكرار الخطاب الموجَّه للشعوب الإسلامية، بأنّه يمكنكم أن تفعلوا ذلك بأنفسكم، وكيف إذا اتحدتم وحيدتم خلافاتكم جانباً لتحقيق هذا الهدف الكبير للتحرّر من سطوة الهيمنة الغربية والأميركية تحديداً.

من هنا يمكن القول بأنّ خطاب القائد الذي وجّهه في نداء الحج هذا العام جاء ضمن مناسبة أرادها الله للمسلمين بأن تكون مناسبة للاتحاد والوحدة ضد الأعداء، وقد وصف سماحته هذا التجمّع البشري (وإن كان غائباً هذا العام بسبب كورونا) بأنّه استعراض القوة في وجه الأعداء من الأميركيين والصهاينة. كأن القائد أراد أن يضيء للمغيّبين والمغشي على أبصارهم على حقائق باتت بمتناول أيديهم، ليتخلّصوا من كل العقد التي أقعدتهم حتى الآن عن الاتحاد والعمل بموجب ما ينص عليه قرآنهم ودينهم الإسلام للسعي لإنتاج وتقديم النموذج الحضاري الإسلامي، اللا شرقي واللا غربي.