• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50

القرار بكسر الحصار والاتيان بسفينة (صاروا سفنا) لن تتوقف مفاعيله على الحصار فحسب. بل هو سيكون انقلابا واسعا سوف يطال حتما مستويات عدة في كامل الاقليم عامة وخطوة كبرى على درب التغيير الحقيقي، تغيير الاقتصاد السياسي للتبعية بشكل خاص.
فلبنان، كبقية الكيانات المصطنعة، تاريخيا عبارة عن كيان اقتطعه الاوروبي من محيطه، ومن سوقه، ومنح سلطته لاحدى قراباته الروحية مع ما يستتبع ذلك من مغانم وامتيازات ووكالات ومصارف وانشطة خدمات، وذلك مقابل خدمة وتسهيل عمليات النهب لصالح الغرب.
اذن لم يقم الاوروبي الصاعد آنئذ بانقلاب في الاقتصاد السياسي المحلي، كل ما فعله هو تثبيت العلاقات القرابية السابقة من حيث الجوهر، بالإضافة الى عنصرين جديدين: قطع العلاقة الاقتصادية بالمحيط وتحويلها الى علاقة عامودية وحيدة معه. فصار الاقتصاد المحلي عبارة عن نشاطات متعلقة بخدمة المركز الغربي تديرها القرابات المختارة من قبله ووفقا لعلاقات الماضي: من يمتلك المُلْك يمتلك الاقتصاد السياسي.
وبما ان الفرنسي كان صاحب الحظ السعيد في هذا الكيان فقد قرر كاستثناء اعتماد التحاصص كقاعدة فـ"منح المجد" لقرابة على ان تشاركها قرابة اخرى بحصة دنيا.
واستمر هذا “النظام” متواصل الاستقرار حتى بعد تراجع الفرنسي وتسلم الامريكي وراثته الى حين اتفاق الطائف الذي حافظ على المحتوى ذاته لكن بعد تبديل اصحاب الحصص. فمن كان اغلبية صار اقلية والعكس بالعكس.
 
الاقتصاد السياسي في لبنان اذن هو رهن هذا الكيان الكسيح غير القابل للحياة. فهو من حيث النشأة لا يحمل بذور الاستقلال والقدرة على الدوران حول نفسه. تم خلقه ليكون كسيحا مقطوع الاوصال فهدف الهيمنة من الاساس كان تجويف قطاعاته المنتجة وجعله رهنا للمساعدات المالية وربطه بعوائد الريع العربي كوسيلة وحيدة للعيش وسد الحاجات الاساسية.
ونتيجة لهذا الربط ازدهرت قطاعات المال والترانزيت والسياحة والبناء والاعلام وكان دورها يتمحور حول تأمين وصول عائدات المواد الاولية العربية الى اسواق المال الغربية كما الى تأمين وصول السلع الغربية الى اسواق الكيانات العربية، وهو ما عرف بدور اقتصاد الوساطة.
هذا الدور تعرض اليوم الى ازمة بسبب قرار المعلم نقل دور لبنان الى مكان اخر فكانت الازمة والحصار والتجويع.
هذا الدور تعطل بسبب الهزائم التي مني بها الامريكي في المنطقة وبسبب التحولات في بنية التوازنات العالمية وبالتالي تغير سياساته واهدافه من جهة وبسبب حرصه في ذات الوقت على الاحتفاظ بلبنان في محوره ولو جثة كي لا يستدير نحو الشرق وينقلب على نظام التبعية للغرب. فهو يريد شطبه دون ان يخسره.
في هذا السياق بالضبط جاءت الباخرة الايرانية ليس فقط لكي تحل ازمة انقطاع المازوت بل لكي تساعد لبنان على تغيير نظامه هذا. ذلك النظام التبعي الكسيح المشلول والمسجون في ماضيه الاجتماعي.
ان الاتيان بباخرة المازوت هو من دون شك خطوة اقتصادية، تقنياً لسد النقص، لكنه بالعمق خطوة سياسية كبرى تطال اساسات الاقتصاد السياسي للتبعية. فهو يكسر اطر العلاقة السابقة المتمحورة حول المركز وايضا يكسر شبكات احتكار محلية يعود تاريخ نشوئها الى اكثر من مئة عام، وهو احتكار منحته الهيمنة لمن تعامل معها وقبل بشروطها.
السفينة كسرت العلاقة العامودية مع المركز واعادت فتح العلاقة الافقية مع المحيط، بالإضافة لكسر شبكة الاحتكار المحلية التي حرص على اقامتها لديمومة هيمنته.
وهذا الكسر ليس الا رأس جبل الجليد فسوف يتبعه كسر لاحتكارات اخرى تطال موادا وسلعا اخرى، وحتى نشاطات اقتصادية كاملة، كانت محمية بنظام الوكالة الحصرية التي كانت تمنح وفق الاقتصاد الزبائني المعروف.
ومن البديهي ان هذا الكسر سوف يقوض القاعدة المادية التي يقوم الاقتصاد السياسي التبعي عليها.
السفينة تنقل المازوت الايراني لا شك لكنها تنقل لبنان معها من ضفة الى ضفة اخرى، ضفة الاستقلال والكفاف المحلي غير المشروط، اضافة الى فتح آفاق التكامل العربي والاقليمي وعصر الاقتصاد المنتج المعتمد على عناصر الانتاج المحلية.
وبهذا اتضح ان الوطني لا يعني عدم الاهتمام بالداخل بل هو العمل على اساسات الداخل التبعي الحقيقية وتقويضها.
ان الاقتصاد الذي بني على الريع وعلى بناء شبكات زبائنية لقاء توزيعه (الفساد بلغة الأنجيئيين) اصطدم اليوم بالسفينة التي تحمل فرصا جديدة للتقدم والتغيير الفعلي وكسر الاحتكارات المحمية بالهيمنة الخارجية.
الهيمنة تفرض اقتصادًا كسيحًا مربوطا بنظامها المصرفي وبعملتها بحيث يسهل عليها ادارته عن بعد فجاءت السفينة لتفك هذا الرابط وتحررنا من الدولار ومن قيوده الاخرى. فالشحنة مدفوعة بالعملة المحلية ومن خارج السياق المصرفي الغربي وبأسعار حقيقية بدون كلفة النهب ومن خارج شبكة الاحتكار التابعة.
هذا التغيير الحقيقي هو ما اقلق الغرب فعليا لأنه يصيب قواعد الاقتصاد السياسي التابع ويساهم في فتح الافق نحو مستقبل متحرر واقتصاد حقيقي.
وهذا ما جعله يتحرك بارتباك لكي يلحس ما كان قد فرضه على لبنان ويتظاهر بالمساعدة. فالغرب يخشى تغيير الهيمنة اما تغيير النخب الحاكمة فهو يدعمه ويدعم حراكه ونخبه بالمال والرجال.
ان تغيير علاقات البشر بالثروة واسترجاع الموارد والمواد الاولية وحق التمتع بها وحق استعمالها لمصلحة الداخل هو التغيير المطلوب عندما تكون ثروات البلاد مستلبة وحقها بثرواتها مصادر.
هذا هو المطلوب تغييره وهذا ما تساهم به السفينة. فهي اذن ليست سفينة تجارية ككل السفن، بل هي سفينتنا الى التغيير الحقيقي الى التحرر الوطني وفك الهيمنة.