• اخر تحديث : 2024-05-15 19:58

المشاهد الأليمة للأفغان اليائسين، وهم يحاولون الفرار من (كابول) هذا الأسبوع بعد انهيار حكومة أفغانستان، المدعومة من الولايات المتحدة ، مثلت منعطفا تاريخيا ، ابتعدت فيه الولايات المتحدة عن العالم. الحقيقة، ان انتهاء عصر الولايات المتحدة، جاء مبكرا، وأسباب هذا الانحدار داخلية ، أكثر من كونها خارجية. ستبقى أمريكا، قوة عظمى لسنوات عديدة قادمة، ولكن قدرتها على أن تكون دولة مؤثرة ، يعتمد على نجاحها في إصلاح مشاكلها الداخلية.

ذروة الهيمنة الأمريكية ، استمرت لمدة أقل من عشرين عاما، منذ سقوط حائط برلين إلى الأزمة المالية في 2007 ــ 2009؛ وقتها ، هيمنت أمريكا على العديد من المجالات؛ عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية. وصلت الغطرسة الأمريكية إلى ذروتها عندما اجتاحت (العراق) على أمل أن تغير، ليس فقط العراق وأفغانستان، بل الشرق الأوسط بأكمله.

 

بالغت أمريكا في تقديرها لكفاءة قوتها العسكرية ، من أجل إحداث تغيرات سياسية جوهرية، ولم تقدر أهمية نموذجها الاقتصادي الحر في التأثير على الاقتصاد العالمي. انتهى العقد بتورط القوات الأمريكية في حربين ، وأزمة اقتصادية عالمية ، زادت من حدة عدم المساواة ، التي أحدثتها العولمة تحت القيادة الأمريكية. في تلك الفترة كانت الأحادية القطبية قد بدأت في التراجع، وبدأ العالم في التحول إلى حالة طبيعية من تعدد الأقطاب مع اكتساب الصين وروسيا والهند وأوروبا،ومراكز أخرى في العالم ، مزيد من القوى. ولكن، تظل أمريكا تتمتع بالعديد من المزايا الاقتصادية ، والثقافية التي لا تمتلكها العديد من الدول.

التحدي الأعظم لمكانة الولايات المتحدة العالمية ، ينبع من الداخل؛ فالاستقطاب في المجتمع الأمريكي عميق، وأصبح تقريبا من المستحيل الوصول إلى إجماع على أي شىء. هذا الاستقطاب ، بدأ حول قضايا تقليدية ، مثل : الضرائب والإجهاض، ومنذ ذلك تفاقم إلى صراع حول الهوية الثقافية. مطالبة الجماعات التي تشعر بأنها مهمشة من قبل النخبة بالاعتراف بها ، هو أمر حددته قبل 30 عاما ، بأنه كعب أخيل للديمقراطية الحديثة. كان من الطبيعي أن يدفع وجود تهديد خارجي المواطنين للتعاضد من أجل الوصول إلى استجابة مشتركة؛ ولكن أزمة كوفيدــ 19 على العكس ، أدت إلى تعميق الانقسامات في المجتمع الأمريكي، مع قواعد التباعد الاجتماعي وارتداء الأقنعة ، والآن التطعيمات التي ينظر إليها كـ(أداة) تخدم أجندات سياسية “بدلا” من كونها وسيلة للحفاظ على الصحة العامة.

وصلت هذه الصراعات إلى جميع مناحي الحياة، من الرياضة إلى أنواع السلع الاستهلاكية، التي يشتريها الأمريكيون (الزرق والحمر). حل الجدل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، أنشأت على العبودية ، أم على الكفاح من أجل الحرية ، محل الهوية المدنية ، التي افتخرت بها أمريكا ، باعتبارها ديمقراطية متعددة الأعراق. هذا الصراع يمتد أيضا إلى جوانب أخرى، مثل الجدل حول انتخابات 2020 ، إما كونها الأكثر عدلا في التاريخ الأمريكي ، أم الأكثر تزويرا ، وما نتج عنها من رئاسة غير شرعية.

طوال الحرب الباردة ، وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين، كان هناك إجماع قوي من النخبة في أمريكا حول الحفاظ على موقع قيادي في السياسة العالمية. أدت الحروب الطاحنة التي لا نهاية لها في “أفغانستان والعراق” إلى عدم قدرة الأمريكيين على تحديد أهمية التدخلات الأمريكية من عدمها، ليس فقط في الأماكن الصعبة مثل الشرق الأوسط، ولكن حول التدخل الدولي بشكل عام.

لقد أثر الاستقطاب في المجتمع الأمريكي على السياسة الخارجية بشكل مباشر. خلال سنوات “حكم أوباما”، اتخذ الجمهوريون ، موقفا متشددا ، وهاجموا الديمقراطيين بسبب سياسة «إعادة ضبط» روسيا ، وسذاجتهم فيما يتعلق بالرئيس (بوتين) . قلب الرئيس السابق دونالد (ترمب)، الطاولة باحتضانه بوتين ،علنا. واليوم يعتقد معظم الجمهوريين -تقريبا- أن الديمقراطيين يشكلون تهديدا أكبر من روسيا على أسلوب الحياة الأمريكية. سافر مذيع الأخبار المحافظ، “تاكر كارلسون”، إلى بودابست للاحتفال برئيس الوزراء المجري الاستبدادي، “فيكتور أوربان” في مشهد أوضح ، أن ازعاج الليبراليين ، كان أهم من الدفاع عن القيم الديمقراطية.

هناك إجماع بين الديمقراطيين والجمهوريين حول (الصين)، على أنها تشكل تهديدا للقيم الديمقراطية. ولكن الاختبار الأصعب من أفغانستان للسياسة الخارجية الأمريكية ، سيحدث إذا تعرضت “تايوان” لهجوم مباشر من الصين. هل ستكون الولايات المتحدة ، مستعدة للتضحية بأبنائها وبناتها من أجل استقلال تلك الجزيرة ؟ أو هل ستخاطر الولايات المتحدة بنزاع عسكري مع روسيا إذا غزت الأخيرة أوكرانيا ؟ هذه أسئلة ، يصعب الإجابة عليها.

دمر هذا الاستقطاب بالفعل التأثير الأمريكي العالمي، التأثير الذي أسماه العالم الأمريكى جوزيف ناي : «القوة الناعمة»، والذي يعني مدى جاذبية المؤسسات والمجتمع الأمريكي للشعوب حول العالم. تضاءلت الجاذبية الأمريكية، ومن الصعب قول : ان المؤسسات الديمقراطية الأمريكية ، كانت تعمل بشكل جيد في السنوات الأخيرة، ومن الصعب دعوة أي دولة لتقليد النظام القبلي الأمريكي المختل. السمة المميزة للديمقراطية الناضجة، هي القدرة على إجراء عمليات نقل سلمية للسلطة بعد الانتخابات، وهو اختبار فشلت فيه البلاد بشكل هائل في 6 يناير.

كانت أكبر هزيمة سياسية لإدارة الرئيس “جو بايدن” خلال الأشهر السبعة ، التي قضاها في الحكم ، هو الفشل في التخطيط السليم لمنع سقوط أفغانستان السريع، على الرغم من أن قرار الانسحاب ، كان سليما. آمن الرئيس بايدن ، أن الانسحاب كان لابد منه ، حتى تركز أمريكا على مواجهة التحدي الأكبر ، القادم من روسيا والصين. نتمنى أن ينجح بايدن في ذلك ، وألا يفشل مثل أوباما في التحول نحو آسيا ، الذي استمر تركيزه على حروب الشرق الأوسط.

على الأغلب ، لن تسترجع أمريكا هيمنتها، ولا ينبغي لها أن تطمح لذلك. ما يمكن أن تطمح إليه ، هو الحفاظ على نظام عالمي ، يحترم القيم الديمقراطية من خلال معرفة غايتها ، واستعادة شعورها بالهوية الوطنية.