لا صوت يعلو في العالم حاليا على صوت أفغانستان وطالبان. فمع سيطرة الحركة على السلطة في كابول، انبرت الصحف ومراكز الأبحاث لتحليل التطورات الأخيرة وبيان تداعياتها، ومحاولة استشراف مستقبل الدولة الحبيسة في آسيا الوسطى، وأهم القوى الفاعلة على الأرض في البلاد بالتزامن سيطرة طالبان وانسحاب الولايات المتحدة وقوات الناتو عقب حرب استمرت 20 عاما.
من بين حشد متشابك من اللاعبين الإقليميين والدوليين البارزين، تظهر تركيا باعتبارها أحد أبرز اللاعبين المُحتمَلين على الساحة الأفغانية، وقد برز وجود تركيا في المشهد الأفغاني خاصة بعد أن أبدت أنقرة استعدادها تولّي مسؤولية تأمين مطار كابول في أعقاب الانسحاب الأميركي، ورغم أن طالبان رفضت على ما يبدو تولّي القوات التركية المهام الأمنية في المطار، فإنها عرضت على أنقرة تولّي تشغيل المطار وإدارته من الناحية اللوجيستية، وهو عرض تدرسه تركيا في الوقت الراهن.
تُثير هذه العروض والمداولات الكثير من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية لوجود أنقرة في أفغانستان في ظل احتدام الأزمة السياسية وضبابية المشهد، ومدى جدوى مسعاها الأساسي لإدارة مطار كابول وتشغيله، بوابة أفغانستان الرئيسية، وربما الوحيدة، إلى العالم. وللإجابة عن هذا التساؤل فإننا سنتطرَّق إلى 4 أسباب مباشرة تقود مساعي أنقرة لامتلاك موطئ قدم في كابول.
ورقة ضغط للتقارب مع واشنطن وأوروبا
فيما يبدو، يُعَدُّ أحد الدوافع الحقيقية لوجود أنقرة في أفغانستان هو حاجتها ورغبتها في امتلاك أدوات قوة وأوراق تفاوض فعّالة لتعزيز قدرتها على المستوى الإقليمي والدولي عموما، وترميم علاقاتها المتوترة مع واشنطن والاتحاد الأوروبي خصوصا، مع الحرص على ضمان هامش أوسع من الاستقلالية في سياستها الخارجية.
شهدت السنوات الأخيرة توتُّرا متزايدا في العلاقة بين تركيا من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، إذ مَثَّلت محاولة الانقلاب العسكري على الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان عام 2016 تحوُّلا في السياسة الخارجية التركية باتجاه سياسة أكثر حزما وتدخُّلا في المنطقة. وتمتلك أنقرة شكوكا عدّة بضلوع واشنطن في دعم شبكات فتح الله غولن لتقويض حكم أردوغان، كما أدَّى دعم الولايات المتحدة للمشروع الكردي على الحدود السورية إلى توتر حاد في العلاقات. وقد أدَّى مجموع هذه العوامل إلى اتجاه تركيا نحو بناء سياسة خارجية أكثر "استقلالا" وبراغماتية عوضا عن الاعتمادية العالية التي كانت تحكم علاقة أنقرة بواشنطن والحلفاء الغربيين.
على سبيل المثال، اشترت تركيا منظومة الدفاع الصاروخية الروسية "S-400" رغم أن هذه الخطوة تسبَّبت في تصاعد حِدَّة التوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة، التي تحرَّكت باتجاه فرض عقوبات قاسية على أنقرة للضغط عليها لتعطيل وإبطال هذه الصفقة التي أدَّت إلى امتلاك أحد الأعضاء الرئيسيين في حلف الناتو منظومة دفاعية تتعارض مع البروتوكولات الأمنية للحلف، مع تخوُّفات متزايدة من قدرة موسكو على جمع معلومات حساسة حول الأنظمة العسكرية لحلف الشمال الأطلسي. وبالتزامن، أدَّت الدفعة الهائلة في الصناعات الدفاعية التركية إلى تعزيز الشكوك حول مستقبل السياسة التركية في المنطقة والعالم، ومدى التزامها بدورها في حلف الناتو.
ولكن مع انتهاء حقبة دونالد ترامب وصعود الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن لإدارة الولايات المتحدة، تجد أنقرة نفسها في حاجة إلى مساعٍ جادّة لإعادة بناء العلاقة مع الولايات المتحدة، عبر إبراز فائدتها بوصفها حليفا، عوضا عن تقديم تنازلات جوهرية في سياساتها، وهي تأمل على ما يبدو أن إدارتها لمطار كابول سوف تُعزِّز من أسهمها لدى الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين.
بعبارة أكثر وضوحا؛ تأمل تركيا أن حماية بوابة اتصال أفغانستان الوحيدة مع العالم عبر إدارة مطار حامد كرزاي في كابول وتشغيله، في ظل حاجة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جهة تُدير الأزمة هناك، سيُعيد ترميم علاقاتها المتوترة مع الغرب. ويُقدِّر المسؤولون في واشنطن أنه في ظل عدم قدرة أي دولة غربية على البقاء، فإن وجود تركيا يُعَدُّ الخيار الأفضل لتأمين المطار وتشغيله وطمأنة السفارات والمنظمات الدولية التي تدرس الإغلاق ومغادرة أفغانستان. على الجانب الآخر، يمكن أن يكون وجود تركيا في أفغانستان أقل إزعاجا لحركة طالبان مقارنة بأي قوة أخرى، بسبب الميول الإسلامية للحكومة التركية. لذا تأمل أنقرة أن وجودها الفاعل في أفغانستان سيُعزِّز من دورها بوصفها بديلا إقليميا قويا لعلاج الأزمات الناجمة عن الانسحاب الأميركي المستمر من المنطقة، في ظل ميل السياسة الخارجية والأمنية الأميركية للتركيز على التحديات المتفاقمة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
استثمار العلاقات الجيدة مع الجميع.. وطالبان تحديدا
كما أشرنا، تمتلك تركيا فرصا جيدة مقارنة بسائر دول الناتو للبقاء في أفغانستان. بداية، تُعَدُّ القوات التركية هي العناصر "المُسْلِمة" الوحيدة ضمن بعثة الناتو بأفغانستان، ما جعلها محل ترحيب؛ إذ طالما ارتبطت أنقرة بعلاقات طيِّبة مع الحكومة الأفغانية السابقة وحركة طالبان وحتى بعض الجماعات المسلحة الأخرى.
ونتيجة لذلك، ورغم وجود بعض التوترات مؤخرا بين تركيا وطالبان بسبب رفض الحركة وجود قوات عسكرية تركية لإدارة مطار كابول وتشغيله باعتباره "استمرارا للاحتلال الأجنبي"، لا يزال الطرفان يمتلكان فرصا جيدة للتفاهم. من جانبه، أكَّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداده لاستقبال قادة طالبان في أنقرة، كما أعلنت أنقرة بوضوح استعدادها للاستمرار في تقديم التشغيل الفني للمطار "إذا طلبت طالبان ذلك"، وهي بادرة يبدو أن حُكام أفغانستان الجدد قد تلقوها بإيجابية، إذ أعربت طالبان عن استعدادها لإسناد المهام الفنية واللوجستية في المطار للأتراك، على أن تتولَّى الحركة بنفسها المهام الأمنية.
في سياق التقارب ذاته، وصف المتحدث باسم حركة طالبان سهيل شاهين تركيا بأنها شريك رئيس في إعادة إعمار أفغانستان بعد الحرب، مؤكِّدا أن الحركة تُعوِّل على التعاون مع تركيا في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وإعادة إعمار البنى التحتية التي تعرَّضت للدمار جرَّاء الحرب.
من الواضح إذن أن طالبان تحتاج إلى تركيا بقدر ما تحتاج تركيا نفسها إلى البقاء في أفغانستان، حيث ترغب الحركة في تأمين قدر من الرعاية من قِبَل قوة تحظى بمشروعية في المجتمع الدولي مثل تركيا، وبالتأكيد فإنها لا ترغب في استهلال عهدها بعُزلة، وهي التي سعت بصورة واضحة إلى تقديم رسائل
طمأنة داخلية وخارجية تمثَّلت بإعلان عفو عام، والدعوة للسلام والمصالحة، وضمان حقوق المرأة والأقليات.
تُدرِك طالبان مدى حاجتها إلى علاقات جوار وتفاعل على الساحة الدولية، والأهم مدى حاجة الحكومة التي ستُشكِّلها إلى الحصول على اعتراف دولي لتجنُّب ما حصل معها خلال مدة حكمها الأول بين عامَيْ 1996-2001 عندما أدَّى خطابها وسياساتها المتشدِّدة إلى عزلها وعدم الاعتراف بها. وفيما يبدو، فإن الرئيس التركي أردوغان كان يُدرِك بوضوح هذه الحقيقة حين صرَّح مؤكِّدا أن الوجود العسكري التركي في أفغانستان سيُقوِّي يد الإدارة الجديدة في الساحة الدولية ويُسهِّل عملها.
الحضور الإقليمي: دواعي الجغرافيا والاقتصاد
لا تتعلَّق حسابات تركيا في القضية الأفغانية بأفغانستان وحدها على ما يبدو، فمن الواضح أن أنقرة أدركت خلال السنوات الأخيرة أنه لا مفر من مزج القوة العسكرية بالسياسة الخارجية، وأنه إذا ما أرادت تركيا أن تتفاوض فيما يخص أمنها القومي والإقليمي المباشر، فإنها يجب أن تمتلك أوراق قوة أخرى تُعزِّز من موقعها التفاوضي، وأن ذلك لن يحدث بالانكفاء على الذات، لكنه يتطلَّب سياسة أكثر نشاطا وتدخُّلا في المنطقة.
جغرافيًّا، تحتل أفغانستان مساحة جيوسياسية مهمة تربط الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، ما جعلها موضع تنافس بين قوى مختلفة تصارعت من أجل الوصول إلى أراضيها. تُدرِك تركيا هذه الأهمية للأراضي الأفغانية، حيث وصف وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أفغانستان بأنها "قلب آسيا"، إشارة إلى أن وجود تركيا في البلاد سيفتح لها آفاقا لتوسيع نفوذها السياسي وزيادة فرصها الاستثمارية في الدول المجاورة. وفي هذا السياق، تتطلَّع تركيا خاصة إلى مشروع ممر اللازورد (Lapis Lazuli corridor)، الذي يربط أفغانستان بتركيا عبر تركمانستان وأذربيجان وجورجيا، متجاوزا إيران وروسيا والصين، ما سيرفع من قيمة تركيا الجيوسياسية باعتبارها ممرًّا مهما للطاقة.
بخلاف ذلك، يخدم الوجود في أفغانستان أحد أهم أهداف الرئيس التركي أردوغان المُتمثِّل في تحويل تركيا إلى المركز السياسي للعالم الإسلامي، عبر وضعها على أعتاب آسيا الوسطى، موطن الكثير من الشعوب المُسلمة الناطقة بالتركية. كما يُعَدُّ توسيع النفوذ التركي في أفغانستان وآسيا الوسطى إحدى طرق المواجهة الجيوسياسية مع روسيا، خصم أنقرة التاريخي.
مخاوف من أزمة لاجئين جديدة
وكما تسعى أنقرة في تقاربها مع أفغانستان لاغتنام الفرص، فإنها تتحوَّط للمخاطر أيضا. وعلى الرغم من أن تركيا لا ترتبط بحدود مباشرة مع أفغانستان، فإن أنقرة تُعَدُّ أحد أكبر المتأثرين من أي أزمة سياسية أو اقتصادية في البلاد، التي قد تدفع موجات جديدة من اللاجئين عبر حدودها الشرقية مع إيران، ضمن مساعي هؤلاء اللاجئين إما للاستقرار في تركيا، وإما اتخاذها بوابة للاتجاه نحو أوروبا.
تُعَدُّ هذه المسألة تحديدا ورقة تفاوض مهمة في العلاقة بين أنقرة وأوروبا، وهو ما دفع الرئيس التركي لتجديد دعوته لأوروبا لتحمُّل مسؤولية مساعدة تركيا في هذه الأزمة، وتأكيده أن تركيا لن تكون وحدة تخزين للاجئين نحو أوروبا. وفي السياق ذاته، نقلت وكالة الأناضول الرسمية رفض تركيا تنفيذ برنامج الولايات المتحدة الخاص بنقل لاجئين أفغان إلى أراضيها عبر دول ثالثة، في إطار ما يُعرف باسم "برنامج قبول المهاجرين الأفغان العاملين مع الولايات المتحدة وعائلاتهم" الذي أعلنته واشنطن مؤخرا. وفي مسعاها لإيقاف هذا التدفُّق، فإن أنقرة تعمل على بناء سياج حدودي يمتد على طول مئات الكيلومترات على الحدود مع إيران والعراق، ويتضمَّن جدارا أسمنتيا مرتفعا وأسلاكا شائكة وطريقا للمراقبة وكاميرات متطورة وأبراج مراقبة ومخافر حدودية.
تُدرِك الحكومة التركية على ما يبدو أن تصاعد أعداد النازحين من الأراضي الأفغانية، خاصة بعد سيطرة طالبان وانسحاب واشنطن، سوف يضعها في مواجهة سلسلة من الأزمات الداخلية، التي قد لا تستطيع مواجهتها إلا إذا امتلكت يدا للتفاعل مع الأزمة الأفغانية من الداخل. ويحتل اللاجئون الأفغان في تركيا المرتبة الثانية مباشرة بعد الجالية السورية، وهو وضع يُقلِق أنقرة بشدة، خاصة مع تصاعد الغضب الشعبي تجاه اللاجئين نتيجة الضغوطات المتزايدة على الاقتصاد التركي.
ماذا نتوقَّع؟
يظهر من خلال التصريحات المتبادلة بين طالبان وأنقرة أن هناك مساعي جادّة لنزع فتيل التوتر الذي شهدته أيام ما قبل سيطرة طالبان على مقاليد السُّلطة في أفغانستان ومساعي تركيا لإبقاء جنودها لتشغيل مطار كابول وإدارته. من جانبها، تسعى أنقرة إلى استثمار علاقتها "الطيِّبة" مع طالبان خلال السنوات الماضية لتحقيق عدة أهداف، منها استثمار وجودها في أفغانستان باعتباره ورقة تفاوض تُعزِّز مكانتها بوصفها حليفا للولايات المتحدة وأوروبا، وترسيخ حضورها في آسيا الوسطى وزيادة نفوذها الإقليمي والدولي، ووقف تدفُّق اللاجئين الأفغان، بالإضافة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية عدة.
على الجانب الآخر، ستحرص طالبان على تعزيز علاقاتها مع أنقرة، باعتبارها قوة سُنية إقليمية ذات شرعية دولية يمكن أن تفتح أمامها أبواب الاعتراف الدولي، كما تنظر طالبان إلى أنقرة باعتبارها قوة اقتصادية ستُسهم في تسريع عجلة التنمية المحلية.
ورغم ذلك، يبقى التنبؤ بتفاصيل العلاقة وحدودها وتطوراتها مرهونا بمدى جديّة الطرفين وقدرتهما على إدارة الخلافات الناشئة، خاصة في ظل مساعي قوى إقليمية ودولية عديدة لاستثمار الانسحاب الأميركي بهدف تعزيز حضورها في "قلب آسيا"، لذلك، من المتوقَّع أن تشهد الأسابيع والأشهر القادمة جولات من الشد والجذب، تسعى خلالها كل قوة لحيازة أفضل وضع ممكن في أفغانستان الجديدة العائدة إلى أحضان طالبان بعد 20 عاما من الاحتلال.