احيا الفلسطينيون امس الأحد 12 أيلول/ سبتمبر ذكرى مرور 16 عامًا على انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وإخلاء مستوطناتها منه، بعد مضي 38 عامًا على احتلاله عام 1967 في حرب النكسة (الأيام الستة حسب التسمية الإسرائيلية).
وأطلق الناطق الرسمي باسم "كتائب القسام" أبو عبيدة على هذا اليوم اسم "يوم المقاومة"، وذلك خلال خطاب له السبت الفائت حول إعادة اعتقال الأسرى الستة الذين فرّوا من معتقل جلبوع.
فقد أنهت إسرائيل في مثل هذا اليوم من العام 2005 إخلاء 21 مستوطنة كانت تمثل نحو 35 في المئة من مساحة قطاع غزة، في حدثٍ فريد من نوعه، حيث لم يسبق لإسرائيل أن أخلت أرضًا استولت عليها منذ احتلالها فلسطين عام 1948. ولا تزال صور آليات الجيش الإسرائيلي وهي تخرج تباعًا من أراضي القطاع وفي مقابلها أهالي غزة الذين خرجوا ابتهاجًا بانتصارهم حاضرة في الأذهان حتى اليوم.
وفي هذا التقرير، نسلط الضوء على أبرز الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى الانسحاب من غزة، وما تبعه من حصار خانق وحروب متتالية.
دوافع الانسحاب
لم تكن دوافع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون السياسية والشخصية وحدها التي أدت إلى انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، فقد كان لعمليات الفصائل الفلسطينية الأثر الكبير على قرار الانسحاب.
وكشفت قناة "كان" العبرية في تقرير سابق لها أن أحد أبرز الأسباب التي دفعت شارون للتفكير في قرار الانسحاب من قطاع غزة هو عملية "نتساريم" التي قُتل فيها ثلاثة جنود إسرائيليين، معتبرةً أن هذه العملية كانت بمثابة "القشة التي قصمت ظهر شارون".
وقال غلعاد شارون - نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون- إن المستوطنات في تجمع "غوش قطيف" والمستوطنات المجاورة لها في قطاع غزة لم تكن جنة عدن كما يحاول أن يُصور بعض الإسرائيليين، بل كانت جحيمًا لا يُطاق.
وأضاف غلعاد شارون في تصريحات سابقة لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية أن كثيرًا من المستوطنين التقوه، وأوضحوا له أن والده (شارون) أنقذهم من الجحيم في غزة، وأنقذهم من الجنون الذي عاشوه في غزة، وبأنهم كانوا يعيشون تحت وطأة نيران الفصائل الفلسطينية باستمرار.
وكشفت دراسة بعنوان: "التوازن الاستراتيجي للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة 2005-2016" أن التهديدات الكثيفة حوّلت المستوطنات في قطاع غزة إلى مناطق أمنية، فقد أُنشئت قواعد للجيش وأبراج مراقبة في كل مستوطنة، كما أحيطت بمنظومة جدار أمني وألغام وعوائق هندسية، وبدت المستوطنات كمواقع عسكرية، وفي بعض الأحيان زاد عدد الجنود على عدد المستوطنين.
وأضافت الدراسة أن تحركات المستوطنين في قطاع غزة باتت تحتاج إلى مرافقة أمنية من الجيش، وقد وصف ضابط احتياط إسرائيلي خدم في تلك الفترة أنه في كل صباح كانت تخرج فيه سيارة تقل ثلاثة أشخاص ترافقها ناقلة جند ودبابة وجرافة "D9" التي كانت تفتح الطريق وتزيل العبوات.
وبحسب الدراسة، وصف الباحثان الإسرائيليان عميرام أوران ورافي ريجف بأن هذا "أعنف روتين أمني مستمر يتم فرضه على المستوطنين الإسرائيليين منذ حرب الاستقلال".
وأوضحت الدراسة أن حوالي 8000 مستوطن سكنوا قطاع غزة قبل الانسحاب، مقابل 1.5 مليون فلسطيني، أي أن نسبة المستوطنين إلى عموم من يسكن في القطاع هو 0.2 في المئة، وشغلت المستوطنات حوالي 35 في المئة من مساحة القطاع.
هذه الحقائق بحسب الدراسة أوجدت تداعيات أمنية ثقيلة في عملية حماية مستوطني القطاع، كما أن الصعوبة تضاعفت ووصلت إلى مستويات عالية مع بدء انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام 2000.
وأشارت الدراسة إلى أن المستوطنين كانوا في تلك الفترة أهدافًا سهلة للفصائل الفلسطينية التي كانت تجد صعوبة في تنفيذ العمليات داخل الخط الأخضر، كذلك كانت هناك أهداف أخرى سهلة للفصائل وهي سيارات المستوطنين التي كانت تتحرك على محاور الطرق بالقرب من التجمعات الفلسطينية.
ولفتت إلى أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية كانت مطالبة طوال هذه السنين بتوفير الحماية للمستوطنين مقابل ثلاثة أنواع من التهديدات المركزية، وهي: عمليات اقتحام المستوطنات، والعمليات على محاور الطرق، وعمليات إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون.
وقد نفذت الفصائل الفلسطينية على مدار سنوات احتلال قطاع غزة العديد من العمليات، تنوعت بين إطلاق النار من مسافة صفر واقتحام المستوطنات الإسرائيلية وتنفيذ العمليات الاستشهادية وإطلاق الصواريخ وعمليات تفجير المواقع العسكرية الإسرائيلية عبر الأنفاق، والتي كانت الأشد وقعًا على الجيش الإسرائيلي والمستوطنين.
وحول دوافع قرار الانسحاب من غزة، كشف مسؤول إسرائيلي أن شارون بادر إلى تنفيذ خطة "فك الارتباط" عن غزة من أجل الهروب من التحقيقات الجنائية والشبهات القانونية ضده، وهو ما بدأ بالتحضير له عند نهاية عام 2003، أي قبل عام ونصف من تنفيذ الانسحاب على الأرض.
وأوضح عضو الكنيست حينها تسفي هندل الذي شغل منصب رئيس مجلس غوش قطيف لمدة ثماني سنوات، أن رئيس ديوان شارون، وأحد المقربين منه المحامي دوف فايسغلاس هو من أشار عليه بهذه الخطة مع أحد مسؤولي العلاقات العامة المتواجدين حوله، "لأن جميع الإسرائيليين يكرهون غزة وهذه الخطة كفيلة بإخراجهم من ذلك الوحل"؛ وأشار هندل إلى أن "شارون لم يؤمن بهذه الخطة على الفور، بل إنه وصفها بالجنون، لأنه كان يعتبر أن الاستيطان في غزة له ميزة استراتيجية، وهو يؤمن به حقًا".
وقال هندل: إن "خطة الانسحاب من غزة التي شملت تدمير المستوطنات هناك أصعب ألف مرة من تدمير الهيكل، لأنها تسببت بالسعي لاندلاع حرب أهلية بين المؤيدين والمعارضين لها، لأن إزالة تلك المستوطنات قام بها أرئيل شارون تنفيذًا لدوافع نجسة"، وفق تعبيره.
انسحاب على الأرض فقط
صحيح أن إسرائيل أنهت تواجدها الفعلي على أرض قطاع غزة، لكنها تمركزت عند حدوده وأحكمت سيطرتها عليه، وباتت تتحكم في كل ما يخرج منه ويدخل إليه.
ويرى مراقبون أن إسرائيل أعادت الانتشار في غزة ولم تنسحب فعليًا، فهي لا تزال تفرض سيطرتها على قطاع غزة جوًا وبرًا وبحرًا. ومنذ انسحابها مارست إسرائيل كل أصناف الخنق والتدمير ضد قطاع غزة، وشنت العديد من التوغلات العسكرية والحروب المتتالية، بُغية القضاء على الفصائل الفلسطينية ونزع سلاحها.
فبعد عملية أسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط عام 2005، وفوز حركة حماس في الانتخابات عام 2006 وتسلمها زمام الحكم في قطاع غزة وخروج السلطة الفلسطينية منه، فرضت إسرائيل على القطاع حصارًا خانقًا لايزال مستمرًا منذ 15 عامًا.
وبفعل الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل وسيطرتها على البحر والمعابر التجارية، ومنعها التصدير من القطاع إلا في أضيق نطاق، ومنع دخول الكثير من السلع بما فيها المواد الخام تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل خطير، مما أضر بحياة سكان القطاع وأصابهم باليأس والقهر.
ولم تكتفِ إسرائيل بهذا الأمر، بل شنت منذ انسحابها أربع حروب ضروس أودت بحياة آلاف الشهداء وخلّفت آلاف الجرحى كذلك.
وعلى الرغم من ذلك كله، يرى الفلسطينيون أن انسحاب إسرائيل من قطاع غزة كان نتاجًا للتضحيات التي بذلوها في سبيل ذلك، ومنح فصائل المقاومة فرصة كبيرة لمراكمة قوتها وبناء ترسانتها العسكرية استعدادًا لخوض معركة تحرير فلسطين، وقد أطلق الفلسطينيون آنذاك شعارهم المشهور: "اليوم غزة وغدًا القدس".