لا يبدو أن هناك حلاً يلوح في الافق فيما يخص التواجد التركي في سوريا، والواقع يقول أن تركيا لا تعير أي أهمية لجميع الاتفاقات والمقررات التي خرجت عن أستانا وغيرها من الاجتماعات التي كان من شأنها حل الأزمة السورية، فالبرلمان التركي أعطى من جديد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان "تفويضاً ممنوحاً" لإرسال قوات عسكرية إلى سورية والعراق لمدة سنتين.
وزارة الخارجية السورية ومجلس الشعب أدانا بأشد العبارات هذا التفويض وشدد مجلس الشعب على أن أفعال هذا النظام واعتداءاته على الأراضي السورية غير مقبولة "لا شرعياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً ولا إنسانياً".
التواجد التركي في سوريا هو تواجد غير شرعي، فالدولة السورية ترفض هذا التواجد وتعتبره احتلال ويجب اخراج القوات التركية من الأراضي السوري بكل الطرق المتاحة، وقد ناشدت مرارا وتكرارا المجتمع الدولي للضغط على تركيا للخروج من سوريا، فالتواجد التركي بات يشكل تهديداً كبيراً ومباشراً للأمن والسلم الإقليميين والدوليين ويخالف أبسط معايير الالتزام بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان ومبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة القائمة على المساواة في السيادة بين الدول واحترام استقلالها السياسي وسلامتها الإقليمية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالوضع في سوريا.
تركيا لم تتوقف عند فكرة بقاء قواتها على الأراضي السورية، بل تهدد في كل يوم بشن عملية عسكرية جديدة ستكون هي الرابعة في حال نفذت تركيا ما تخطط له، فتركيا تقول أنها ستتوغل داخل الاراضي السورية للرد على هجمات استهدفت قواتها، أخيراً، في المناطق الواقعة تحت سيطرة القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها في شمال البلاد.
التفويض الجديد الذي حصلت عليه تركيا يساعدها في المضي قدما في شن هذه العملية العسكرية، لكن هذا وحده لا يكفي، فالمحاذير كثيرة أمام العملية، وفي مقدمتها الخلاف مع الولايات المتحدة وروسيا، والكلفة الكبيرة والتداعيات المتوقعة لأية عملية موسعة ومتدحرجة دون التنسيق معهما أو مع أحدهما. وكذلك افتقاد تركيا للغطاء الجوي فوق الأراضي السورية، والوضع الاقتصادي الداخلي، وحالة الاستقطاب المتزايدة مع المعارضة.
على سبيل المثال نفذت مؤخراً مقاتلات روسية انطلقت من مطار القامشلي، طلعات تدريبية، ألقت فيها بالونات حرارية فوق منطقة رأس العين، بريف الحسكة الشمالي الغربي، التي تحتلها تركيا والفصائل الموالية لها؛ ويأتي ذلك بعد أيام من نقل الروس لمقاتلات سوخوي، إلى مطار القامشلي.
ولا يمكن فصل الأمر عن قصف سلاح الجو الروسي لمواقع الفصائل الموالية لأنقرة في محيط قرية الدردارة، بريف الحسكة الغربي، أواخر شهر أيلول الماضي كنوع من الرد على قصف القرية بشكل متكرر والتسبب بنزوح سكانها والقرى المحيطة بها.
النشاط الروسي يشير إلى مدى الأهمية التي توليها موسكو لمنطقة الشمال والشمال الشرقي، ولضمان الحركة على الطريق الدولية بين الحسكة والرقة، ولسلامة طوق مدينة حلب الشمالي، في حال اشتعال جبهة تل رفعت.
وعليه فإن روسيا ومن خلال توسيع حضور قواتها الجوية في القامشلي (مقاتلات سوخوي) وفي قاعدة صرين بريف حلب الشمالي (مروحيات K-52 وMI-28)، تعزز عبر الميدان أوراقها على طاولة الحوار مع شريكتها أنقرة.
وبدورها، تذهب الأخيرة إلى الرهان نفسه، إذ واصلت المسيرات التركية خلال اليومين الماضيين عملياتها، فقصفت ليل السبت حاجز الحمّام، القريب من جسر قره قوزاق، الرابط بين ضفتي نهر الفرات شرق حلب، ثم نفذت عدة استهدافات لنقاط "قوات سوريا الديموقراطية"، شمال تل تمر بريف الحسكة الغربي، وذلك بالتزامن مع استمرارية التحشيد التركي في شمال غربي محافظة الحسكة وشمالي محافظة الرقة.
الرسائل الروسية واضحة بالنسبة لأنقرة، وهذا ما يعقد الأمور أكثر، ويجعل أي عملية عسكرية تركية جديدة محفوفة بالمخاطر، خاصة وأن سوريا وروسيا لن يسمحوا بالتغيير الديمغرافي الذي تحاول تركيا القيام به في شمال شرق البلاد وغربها، ولا ننسى أن هذا الأمر لا يتناسب أيضاً مع سياسة الولايات المتحدة الامريكية، التي تجد في الاكراد ورقة قوية لها في سوريا.
عندما توغلت تركيا داخل الحدود السورية، سيطرت على شريط حدودي بطول نحو 120 كيلومتراً، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان. وأسفر التوغل العسكري التركي في عام 2019 عن تهجير ما يزيد على 300 ألف شخص من شمال شرقي سوريا، ما دفع الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية وحقوقية إلى التحذير من كارثة إنسانية جديدة.
واتهمت منظمة العفو الدولية، آنذاك، القوات العسكرية التركية وتحالف الجماعات المسلحة السورية المدعوم تركياً، بارتكاب انتهاكات جسيمة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل العمد، والهجمات غير القانونية التي قتلت وجرحت مدنيين، خلال الهجوم. وفي حين نفت أنقرة مسؤوليتها عن تلك الجرائم، إلا أن المنظمة الحقوقية الدولية أكدت وجود أدلة دامغة. وطالب مجلس الأمن تركيا بالانسحاب من الشمال السوري.
وبالنظر إلى هذا الماضي القريب، تتزايد المخاوف بين سكان الشمال السوري، وتحديداً الأقليات الدينية والعرقية من موجة جديدة من التهجير. وأعرب قادة مسيحيون سوريون، الأسبوع الماضي، عن مخاوفهم من تصاعد الهجمات التركية في شمال شرقي سوريا، قائلين، إن النشاط العسكري الأخير دفع العديد من المسيحيين وأفراد الأقليات الأخرى إلى ترك منازلهم بالفعل.
الاحتلال التركي للأراضي عبر شمال سوريا يمثل تهديداً خطيراً، ليس فقط للأقليات الدينية الضعيفة في تلك المنطقة، ولكن أيضاً للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا نفسها.
غالبا لن تستطيع تركيا أن تنفذ ما تقوله في الاعلام، وكل ما تتحدث عنه لا يعدو كونه هرطقة سياسية هدفها احداث تأثير نفسي على بقية المحاور في سوريا، ولن يكون لها تأثير كبير على الأرض، خاصة مع تزايد قوة الجيش السوري وحلفائه وامكانية الرد بحزم على اي محاولة لاختراق الوحدة السورية.