تعرض لبنان دوماً للغزو من قبل الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، حتى بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى.
وكل الحكومات التي وصلت إلى السلطة في لبنان على مدى العقود القليلة الماضية، اتبعت سياسات قريبة من الغرب تقريباً، وحتى في اتخاذ قرار بشأن الشؤون الداخلية لبلدهم، لا يمكنهم التصرف بمعزل عن مواقف الغرب.
لبنان وسلسلة التدخلات الغربية المتكررة
المقاربة الضعيفة للمسؤولين اللبنانيين سهّلت على الدول الغربية تصميم مشاريعها في لبنان، بل وتنفيذها بالأدوات الداخلية في هذا البلد. ولا يخفى على أحد أن فرنسا ما زالت تعتبر لبنان مستعمرةً، وأن على اللبنانيين أن يستطلعوا رأي الفرنسيين قبل اتخاذ أي إجراء أو قرار داخل البلاد.
ويعتقد الكثير أن اللعبة الأمريكية الفرنسية في لبنان تتبع سياسة "العصا والجزرة"، ودور الطرفين في هذا البلد واضح تماماً. بحيث أن الفرنسيين ينفذون نفس المطالب الأمريكية في لبنان بسياسة ناعمة، والمطالب الأمريكية واضحة أيضًا: مواجهة المقاومة والسعي لمصالح الكيان الصهيوني.
لكن في غضون ذلك، تلعب بريطانيا دورًا أكثر غموضًا من دور الولايات المتحدة وفرنسا في لبنان، ولهذا السبب عادةً ما تكون بريطانيا أقل ذكرًا من الولايات المتحدة وفرنسا في إثارة التوتر أو التدخل في شؤون هذا البلد؛ لكن هذا لا يعني غياب أو عدم أهمية دور البريطانيين في لبنان.
الإستعمار البريطاني الناعم في المنطقة
البريطانيون بارعون جدًا في الاستعمار القديم، وما زالوا يلعبون دورًا رائدًا في الخدمات الاستعمارية الجديدة.
في العراق، سخروا من الأمريكيين لرغبتهم في إدارة الأمور في خضم الاضطرابات، وفي سوريا تمكنوا من إقناع الأمريكيين بترك بعض الأعمال لهم. كما نرى الآن في الدول الخليجية واليمن أيضًا، يعكف البريطانيون مرةً أخرى علی تحديد الشباب الذين يميلون إلی الغرب.
لكن في بلد مثل لبنان، يعرف البريطانيون جيدًا ما كان يحدث في هذا البلد منذ 18 شهرًا على الأقل، وبصماتهم موجودة على أشياء كثيرة، وفي نفس الوقت لا يتحدثون بشكل حاسم عن استراتيجية واضحة وحاسمة.
بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية اللبنانية في 17 تشرين الأول 2019، وفي وقت يتفشى فيه الإحباط خاصةً بين شباب هذا البلد، حرَّضت بريطانيا العديد من هؤلاء الشباب والناشطين الاحتجاجيين وعرضت عليهم العديد من المشاريع، بالتركيز على الفساد وكشف القضايا الخفية للطبقة السياسية الحاكمة في لبنان والمخاطر التي تهدد موقع البلاد.
ماذا يريد البريطانيون في لبنان؟
يستشهد الكاتب الغربي "كيت كلارينبيرج" بوثائق مسربة من وزارة الخارجية البريطانية، توضح كيف نفذت أدوات بريطانيا عمليات تسلل في لبنان لاستهداف الشباب والمجتمع المدني، لتكوين احتجاجات واسعة في هذا البلد خدمةً للمصالح البريطانية.
وبحسب وثائق مسربة من وزارة الخارجية البريطانية، قبل بدء الاحتجاجات اللبنانية، أطلقت بريطانيا حملةً لاستطلاع وتحليل آراء الناس، وخاصةً الشباب والمجموعات المدنية، بهدف تحديد الأطراف التي يمكن حشدها بشكل فعال لتنفيذ الخطط البريطانية للتغيير الاجتماعي والسياسي في لبنان.
تم إجراء هذا الاستطلاع من قبل ARK، وهي شركة استشارية غامضة مسؤولة عن تنفيذ العمليات النفسية المزعزعة للاستقرار في دول مختلفة نيابةً عن الولايات المتحدة وبريطانيا. وبعد تحليل وتقييم اللبنانيين، خلصت الشركة أخيرًا إلى أن 12٪ من اللبنانيين، بما في ذلك الجماعات المدنية، يمكنهم تنفيذ الخطط والبرامج البريطانية.
کما أطلقت الشركة حملة اتصالات استراتيجية واسعة النطاق لاجتذاب الجماهير اللبنانية، وتقدر تكلفة هذا المشروع بحوالي 2.1 مليون جنيه إسترليني، من نيسان (أبريل) 2019 إلى آذار (مارس) 2021.
وتعدّ شبكات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"انستغرام" أدوات مهمة للشركة لتنفيذ المشروع البريطاني في لبنان، والذي يشجع الشباب على المشاركة في مختلف المسيرات والحملات ضد الطبقة السياسية والأوضاع الاجتماعية.
وتم تنفيذ هذه العملية من خلال تجنيد وتدريب عدد كبير من الصحفيين، 50٪ منهم على الأقل من النساء، والذين يمكنهم التواصل بشكل فعال مع الجمهور، بهدف إبراز دور المرأة في التغيير الاجتماعي والسياسي.
وقد التزمت الشركة بأن هذه البرامج لن تُنسب مباشرةً إلى بريطانيا، وسيتم تصميمها وتقديمها كبرنامج تماسك اجتماعي في لبنان، ويمكنها دحض أي مزاعم ضد بريطانيا بشأن دورها في هذه البرامج.
تظهر العملية الخاصة لوزارة الخارجية البريطانية في لبنان أن الشباب اللبناني، في نظر البريطانيين، هم أهم أداة لتغيير النظام في البلاد وتنفيذ المشاريع البريطانية.
وكان الهدف من هذه البرامج، التي استمرت من نيسان 2019 إلى آذار 2021، تحريض الشباب على تحدي الانتخابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان.
كما تضمنت الأهداف الرئيسية المذكورة في البرنامج، الطلاب والمجموعات الشبابية والحركات الاجتماعية وأعضاء البرلمان والأحزاب السياسية، ونظراً للوضع السياسي المضطرب في لبنان، كانت ARK في وضع جيد للوصول إلى هذه العناصر.
محاولات لندن للتأثير على الانتخابات النيابية اللبنانية
من الواضح أن جميع المشاريع التي نظمتها دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا أثناء احتجاجات أكتوبر 2019 وحتى قبل ذلك، كانت لهدف مهم واحد: انتصار أدوات الغرب في الانتخابات النيابية اللبنانية.
والواقع أن هذه النفقات الفلكية كانت للتأثير على الانتخابات النيابية اللبنانية، بهدف زيادة ثقل السياسيين المحسوبين على الغرب وتقليص وجود حزب الله أو إبعاده عن المشهد السياسي اللبناني؛ انتخاباتٌ نقف علی أعتابها ومع اقتراب موعد إجرائها ستكشف أبعاداً جديدةً للخطط الغربية للتأثير في هذه الانتخابات.
بصرف النظر عن الخطط التي تنتهجها الولايات المتحدة بتحركات عديدة في الفترة التي تسبق الانتخابات، ومنها جريمة الطيونة ببيروت بأدواتها الداخلية في لبنان بقيادة زعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، لإضعاف المكانة الشعبية للمقاومة، فلا ينبغي التغاضي عن الدور الهادئ والغامض للندن.
خاصةً أن بريطانيا ترى في انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وهزيمتها في أفغانستان فرصةً جيدةً لحضورها في المنطقة، وقد رأينا ذلك في تحركات لندن للتأثير على عملية الانتخابات العراقية الأخيرة ونتائجها.
قبل أيام، أفادت وسائل الإعلام أنه تم إنشاء غرفة عمليات مشتركة مع ممثلين من بريطانيا والولايات المتحدة والإمارات والسعودية، لإدارة الانتخابات اللبنانية والتأثير على نتائجها وإضعاف حزب الله وحلفائه، وكسب الأغلبية البرلمانية لحلفائهم وممثلي المنظمات غير الحكومية.
أحد كبار الأعضاء في هذه الغرفة هو إيان كولارد، السفير البريطاني في لبنان. كولارد الذي تولى منصبه بعد المغادرة المفاجئة والمريبة للسفير البريطاني السابق لدى بيروت مارتن لانغدون، بعد الكشف عن معلومات حول تدخل بلاده في أعمال الشغب اللبنانية، بعد جريمة الطيونة بدأ بالتعليق على الأوضاع في لبنان خلال الأسبوعين الماضيين، قائلاً إن الإصلاحات في هذا البلد لم تتطور، ونحن قلقون من الأحداث في بيروت وتأثيرها على النساء والأطفال!
من الواضح أن البريطانيين غير قلقين على حياة اللبنانيين بسياساتهم الاستعمارية، بدلاً من ذلك، مثل الأطراف الغربية الأخرى، يرون في فتنة الطيوانة فرصةً للمناورة ضد حزب الله في الفترة التي تسبق الانتخابات، لاستكمال خطتهم الطويلة التي بدأت في أكتوبر 2019.
يعتقد المراقبون أن استبدال بريطانيا لسفيرها السابق في بيروت، بمثل شخص مثل إيان كولارد، لا يمكن أن يكون صدفةً. يتمتع كولارد بأكثر من عقدين من الخبرة في الشؤون الخارجية والعلاقات الدبلوماسية. ومنذ مارس 2020، شغل منصب نائب السفير البريطاني في كابول.
السفير البريطاني الجديد في لبنان کان يتولى رئاسة إدارة مكافحة الإرهاب في مكتب وزارة الشؤون الخارجية وشؤون الكومنولث(FCO) في لندن منذ عام 2002، وكان مسؤولاً عن توجيه أهداف مكافحة الإرهاب الخارجية لبريطانيا، والإشراف على الشبكة العالمية لتحالفات مكافحة الإرهاب في البلاد.
كما شغل منصب وزير شؤون أمريكا الشمالية في وزارة الخارجية البريطانية، وقدم المشورة السياسية بشأن مصالح السياسة الخارجية والأمنية البريطانية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وعمل كولارد سابقًا كسفير لملكة بريطانيا في جمهورية بنما من 2013 إلى 2017، مع التركيز على العلاقة التجارية لبلدها مع بنما ومكافحة الجريمة المنظمة والخطيرة.
وبالإضافة إلى عمله في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك والسفارة البريطانية في واشنطن العاصمة، فقد مثَّل المصالح البريطانية في التعامل مع حكومة الولايات المتحدة.
كما مثَّل كولارد بريطانيا في المفاوضات الدولية حول قضايا مثل القرصنة والصراع والإرهاب. وعندما استضافت لندن أولمبياد 2012، قاد أنشطة الأمن ومكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية.
كما ذكر، وصل كولارد إلى بيروت بعد الإطاحة بلانغدون بشكل مريب، بعد الكشف عن وثائق وزارة الخارجية البريطانية بشأن دور هذا البلد في أعمال الشغب اللبنانية. وبناءً على ذلك، يبدو أن الحكومة البريطانية وجدت كولارد أكثر قوةً، وهذا يدق ناقوس الخطر لتوسيع مشاريع لندن الجديدة في لبنان.
بالطبع، لا بريطانيا ولا الولايات المتحدة ولا أي طرف أجنبي آخر ينوي التدخل في لبنان، لا يجد أمامه مهمةً صعبةً؛ لأن أدوات مثل تيار 14 أذار جاهزون دائمًا لخدمتهم.
رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري، الزعيم الحالي للتيار، كان مكلفًا في السابق بتنفيذ المشاريع الغربية، ويبدو أنه بعد خروجه من ساحة السلطة في لبنان يحاول حاليًا سداد ديونه للسعودية، وحل محله سمير جعجع.