• اخر تحديث : 2024-07-03 14:23
news-details
مقالات عربية

مستقبل لبنان على وقع الصراع بين الطوائف والدولة


منذ أن تمّ إعلان دولة لبنان الكبير منذ مئة عام ولغاية اليوم، يعيش لبنان أزمات متوارثة ومتكرّرة، كنتيجة لصراع الدول على أرضه، حيث مثّلت الطوائف اللبنانية نوعاً من رأس الجسر لتلك الدول، انطلاقاً من نزعات الخوف على الوجود والمصير والشعور بالغبن وغيرها.

وقد حاذر اللبنانيون على مدى مئة عام المسّ بنظامهم الطوائفي الذي بناه الفرنسيون على فكرة أنَّ الديموقراطية في لبنان لا يمكن أن تكون ديموقراطية مبنية على حرية الفرد، بل على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حَكَم في صراع الطوائف في ما بينها، وهو في النتيجة والواقع العملي "صراع الدول التي تستخدم تلك الطوائف".

واليوم، وبعد الأزمات المتكرّرة والانهيار الاقتصادي والمالي والأخلاقي الذي يعاني منه لبنان، يُطرح على بساط البحث عقد مؤتمر تأسيسيّ لتغيير النظام فيه وتطويره. وفي هذا المجال، يمكن أن نعالج فرضيتين:

-الفرضيّة الأولى هي الاستمرار في نظام الطوائف التحاصصيّ، وتعديله بما يتناسب مع موازين القوى السائدة، كما حصل بعد اتفاق الطائف، حيث تمّ تكريس هزيمة المسيحيين في الحرب، فأتت النتائج على حساب حصتهم ودورهم وصلاحيّاتهم في النظام. وعليه، إنَّ الطروحات الطائفية لتعديل النظام واستمراره على أساس المحاصصة الناتجة من ميزان قوى جديد سيكون خياراً كارثياً على لبنان.

إنَّ السير في هذا الخيار الترقيعي اليوم، سوف يؤدي إلى أخطار كبيرة على لبنان، لأنه سيسمح بالدخول إلى الغرائز الطائفية والهويات الجماعية، لتحفيزها على القتال، "خوفاً على المصير والوجود"، وللادعاء بأنَّ طائفة تمتلك فائض قوة تريد أن تمارسه على الآخرين، وتستأثر بالصلاحيات على حساب الطوائف الأخرى.

-الفرضية الثانية هي أن يقتنع اللبنانيون - مرة لكلّ المرات - أنَّ النظام الطائفيّ لم يعد يستطيع أن يستمر، ولم يعد يواكب تطلّعات الأجيال الجديدة من اللبنانيين، وبالتالي علينا السير مجبرين نحو إقامة دولة مدنية، وإلا خسرنا الأمل ببناء دولة.

إن نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ مؤقتاً في العام 1943، وتحوَّل إلى عُرف دائم في ما بعد، وتمّ تكريسه في الدستور اللبناني بعد التعديلات التي أقرّت في العام 1990 بناءً على اتفاق الطائف، جعل الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وجعل التناقضات والصراعات بينهم تأخذ طابعاً طائفياً مقيتاً، فتعوّق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات، وتفتح المجال لتغطية الولاءات والمراهنات الخارجية، ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين ونمط الزبائنية.

لقد أنتج النظام اللبناني القديم فتناً وحروباً أهليّة متكرّرة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجيّة مع الأوهام الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الخارجية والداخلية المنقوصة أساساً. وقد تنازلت الدولة عن صلاحياتها للطوائف، أو بالأحرى إن الطوائف التي سبق وجودها وجود الدولة أسست دولة هشّة ومحدودة القوة، وتركت لنفسها الكثير من الاستقلالية والصلاحيات المفترض بالدولة الاضطلاع بها. وهكذا قامت علاقة عكسية بين سيادة الدولة وقوة الطوائف في لبنان، فكلَّما زادت قوة الطوائف تقلّصت سيادة الدولة، والعكس بالعكس.

وعليه، ومن أجل الخروج من هذه الدوامة المستمرة من التدخلات والتدخلات المضادة، ومن أجل العبور بلبنان من دولة الرعايا إلى دولة المواطنين، والتخلص من الفكرة الدولية التي ترى في لبنان "الدولة الحاجز" أو "الدولة الساحة"، علينا القضاء على المحاصصة الطائفية والزبائنية، والسير باتجاه دولة مدنية، مع تأسيس مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف، وإقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، وتحقيق لامركزية إدارية موسعة تسمح بإنماء المناطق وعدم هجرة الأرياف إلى المدن.

واقعياً، لن تكون الطريق معبّدة أمام طرح كهذا، لأنه سيضرّ بالكثير من مصالح النفوذ السياسية والمحميات الطائفية، علماً أن علاقة منافع متبادلة تقوم بين الطبقة السياسية والسلطات الدينية، حيث يخدم كل منهما الآخر، ويخدم هؤلاء جميعاً قوى خارجية تتستر بالحمايات الطائفية لتمرير مشاريعها في لبنان.

في النتيجة، يقف لبنان أمام مفترق تاريخي مهمّ، فإما يتطلَّع اللبنانيون إلى المستقبل بذهنيّة القرن الحادي والعشرين، وإما يغرقون في الماضي، ويكرّرون تجارب القرن العشرين ومآسيه، وخيارهم إما سيسمح ببناء دولة وإما سيغرقها في الفشل إلى الأبد.