اعتُبرت التطورات السياسية في السودان ضمن الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي التي انطلقت في الوطن العربي منذ عام 2011، وقد نجحت الانتفاضة في السودان في الإطاحة بحكم الرئيس، عمر البشير، في أبريل/نيسان 2019، وذلك بعد انحياز الجيش إلى المحتجين، غير أن التغيير في السودان انتهى إلى نفس مآلات تجارب دول الربيع العربي الأخرى، وذلك بعد أن قام قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بالإطاحة بالحكومة المدنية وشركائه من المكونات المدنية، في 25 أكتوبر/تشرين الأول، مبررًا ذلك "بإعادة تصحيح مسار الثورة" بعد أن هيمنت مجموعة صغيرة من الأحزاب على مفاصل العملية الانتقالية.
في الواقع، فاقم وقوع هذا الانقلاب من حالة عدم الثقة بين أطراف العملية الانتقالية بشكل يجعل من الصعوبة بمكان توقع عملها بتوافق مجددًا سواء على أساس الوثيقة الدستورية التي يتنازعون على تفسيرها، أو حتى أي ترتيبات سياسية جديدة.
أولًا: خلفيات الأزمة السياسية الحالية
على مدى عامين ونصف العام من عُمر الفترة الانتقالية مرَّت بتعقيدات وعقبات بسبب الصراع بين مكوناتها كافة: الصراع بين المكونين العسكري والمدني من جهة، وبين مكونات المكون المدني نفسه، وكذلك بين المكون المدني وبعض مجموعات التمرد (قوى الكفاح المسلح) التي انضمت إلى أجهزة الحكم الانتقالي، من جهة ثانية. كما استمر إقصاء قوى ومكونات أخرى خارج هذه المجموعات، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إنهاء العملية الانتقالية عقب الانقلاب الذي قام به قائد الجيش في 25 أكتوبر/تشرين الأول لإقصاء شركائه في المكون المدني، وبدء صفحة جديد من الصراع على السلطة بالبلاد.
وممَّا يثير الدهشة هنا، أن هذه الصراعات القاتلة قد صرفت الأنظار عن مهام العملية الانتقالية برمتها، لاسيما إعادة بناء مؤسسات حكم فعالة والتمهيد لإجراء انتخابات عامة تفرز قوى ذات قدرة تمثيلية حقيقية، والتأسيس لشرعية دستورية جديدة بالبلاد، بجانب وضع البلاد على طريق المسار الديمقراطي.
ذلك أنه، وبشكل عام، فإن ترتيبات الحكم المؤقتة، وفقًا لدراسة لروبرت فوستر بعنوان "ترتيبات الحكم المؤقتة في البيئات الهشة وبيئات ما بعد الصراع"، "هي إطار مؤسسي أُرسي من أجل تمكين بلد يحكمه نظام سلطوي غالبًا ليشكِّل "جسرًا" لتجاوز أزمة سياسية أو عنيفة، وبداية عهد جديد يحكمه نظام أكثر ديمقراطية لا يفرِّق بين مواطنيه ومكوناته"، بهدف الوصول إلى ترتيبات انتقالية أكثر استقرارًا، وأن هذه التدابير "هي وسيلة وليست هدفًا في حدِّ ذاتها".
كما تشير الدراسة أيضًا إلى وجود مكونات ثلاثة لهذه الترتيبات المؤقتة، وهي: (أ) تشكيل حكومة يتقاسم مختلف الأطراف فيها الأعباء خلال مراحل الانتقال؛ و(ب) التعهد بوقف العدائيات؛ و(ج) إيجاد آلية تسمح بنقل السلطة إلى حكومة منتخَبة في الغالب. كما تندرج هذه الترتيبات في 4 مسارات: سياسي، ودستوري، وأمني، واقتصادي.
وبالتطبيق على حالة السودان نجد أنه قد حصل العكس من ذلك تمامًا؛ فبدلًا من العكوف على بناء مؤسسات انتقالية قوية وفعَّالة انتهى الأمر بمحاصصات بين قوى حزبية تكمن مصالحها الظرفية والضيقة في وراثة النظام السابق فحسب، وليس إنجاز متطلبات التحول الديمقراطي. ليس هذا فحسب وإنما عمدت هذه القوى أيضًا إلى تصفيات حساباتها السياسية مع خصومها، وتمكين عناصرها من الحلول في مختلف المواقع والمناصب في أجهزة الدولة المختلفة، رغم أنها زعمت إنهاء "دولة التمكين" من خلال ما عُرفت بـ"لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو 1989 واسترداد الأموال العامة" التي أُسست بموجب "قانون تفكيك نظام الإنقاذ لسنة 2019"، الذي أصدره بالإجماع مجلسا السيادة والوزراء.
وبتعبير آخر، كان أداء المكون المدني على الصعيدين السياسي والتنفيذي مخيبًا للآمال بشكل كبير؛ إذ لم ينجح في إحداث نقلة جوهرية في البلاد فقط، بل فاقم من الأوضاع على الأصعدة كافة.
على غرار التجارب والبلدان التي تواجه صعوبات في إنجاز متطلبات الانتقال إلى نظام ديمقراطي أو الانتقال من مراحل ما بعد الصراع، كما في حالة السودان، واجهت العملية الانتقالية التي تأسست على الوثيقة الدستورية الموقَّع عليها في 17 أغسطس/آب 2019، بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير والتي رسَّخت لشراكة بين هذين المكونين، العسكري والمدني، لفترة انتقالية مدتها (39 شهرًا)، صعوبات ناجمة عن عدة عوامل:
أولها: صعوبات الانتقال إلى نظام ديمقراطي بعد عقود من الحكم الاستبدادي، لاسيما إرث الماضي وتعقيداته كافة.
ثانيها: انقسامات وصراعات القوى التي يفترض أن تنجز مشروع الانتقال خلال المرحلة الانتقالية، والطبيعة غير الديمقراطية لهذه المكونات وقابليتها للتضحية بأسس ومقدمات الانتقال الديمقراطي من أجل مكاسب حزبية ضيقة.
ثالثها: غياب مشروع وطني حول الانتقال الديمقراطي يستوعب أهم الفاعلين من دون إقصاء، وكذلك الافتقار إلى رؤية واضحة تجاه أهم محددات الانتقال، لاسيما التعاطي مع المؤسسة العسكرية وإرث النظام السابق.
انسداد العملية الانتقالية
غاب التوافق، كما انعدمت الثقة بشكل تدريجي، بين مكونات المرحلة الانتقالية، سواء التي كانت داخلها أو تلك القوى التي دخلت فيها لاحقًا، كالمجموعات الموقِّعة على اتفاق سلام جوبا أو ما عُرفت بشركاء السلام، لاسيما عقب الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة بمشاركة الموقِّعين على هذا الاتفاق، في 8 فبراير/شباط 2021. وبذلك دخل الصراع مرحلة جديدة تمامًا.
اتسمت هذه المرحلة باستحكام الأزمات والصراعات بين شركاء العملية الانتقالية، وهي الخامسة في تاريخ البلاد السياسي؛ حيث وجد رئيس الوزراء نفسه بين شقي الرحى ما دفعه الى تقديم مبادرتين خلال هذا العام فقط؛ الأولى في 23 يونيو/حزيران وحملت اسم "تحصين المسار الديمقراطي"، والثانية باسم "مبادرة حل الأزمة الوطنية"، في 15 أغسطس/آب 2021.
في الواقع، أدى صعود شركاء السلام إلى انقلاب جوهري في معادلات القوة السياسية داخل الفترة الانتقالية لمصلحة المكون العسكري؛ حيث تزامن ذلك الصعود مع احتدام حدَّة الصراع على السلطة بين المكونين العسكري والمدني (قوى إعلان الحرية والتغيير) وتحديدًا ما يطلق عليها "مجموعة الأربعة".
وتجلَّى ذلك الصراع بصورة أكثر وضوحًا بعد تأسيس ما عُرف بـ"مجلس شركاء الفترة الانتقالية"، من 29 عضوًا، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، وعضوية المكون العسكري بالمجلس إلى جانب رئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك، وقوى إعلان الحرية والتغيير، وأطراف العملية الشركاء في اتفاقية سلام جوبا برعاية الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد).
ومن المفارقات هنا أنه بدلًا من أن يعمل المجلس على "توجيه الفترة الانتقالية بما يخدم مصالح البلاد، وحل التباين في وجهات النظر بين الأطراف المختلفة، وحشد الدعم اللازم لإنجاح الفترة الانتقالية، وتنفيذ مهامها الواردة في الوثيقة الدستورية لاتفاق السلام الموقع في جوبا"، فقد فاقم من حدة الصراعات التي عجَّلت بإنهاء العملية الانتقالية خاصة بعد انقلاب قائد الجيش مؤخرًا في 25 أكتوبر/تشرين الأول.
غير أن اتفاق سلام جوبا، ومن ثم تعديل الوثيقة الدستورية لعام 2020، قد نصَّ على أن تكون مدة الفترة الانتقالية (39 شهرًا)، ولكنها تبدأ من تاريخ التوقيع على هذا الاتفاق (3 أكتوبر/تشرين الأول 2020)، حيث فسره المكوِّن العسكري، وحلفاؤه المدنيون(!)، بأن تبدأ مدة رئاسة العسكريين (21 شهرًا) من توقيع اتفاق جوبا (..) و[بالتالي] تنتهي في يوليو/تموز 2022.
ثانيًا: الموقف من انقلاب 25 أكتوبر داخليًّا وخارجيًّا
كانت هذه التطورات تراجعًا كبيرًا بالنسبة إلى القوى الغربية التي رأت في الحراك الشعبي في السودان نموذجًا للثورات الشعبية المؤدية للانتقال الديمقراطي الناجح. وتقوم السرديات الغربية عمومًا على نهج تبسيطي يصوِّر الصراع الحالي على السلطة على أنه صراع بين قوى مدنية تعمل على تحقيق الانتقال الديمقراطي، وبين قوى أخرى تعيق ذلك الانتقال يمثلها الجيش الذي يُعتقد أنه يمثل امتدادًا للدولة العميقة.
في هذا الصدد، أدان وزير الخارجية الأميركي ما وصفه بـ"إجراءات القوات المسلحة السودانية ورفض حل الحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون"، وأعلن على الفور تجميد مساعدات مالية بقيمة 700 مليون دولار. فيما أعرب المبعوث الأميركي الخاص إلى القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، عن قلقه. كما دان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ما وصفه بالانقلاب العسكري في السودان. ودعا مفوض السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الشركاء والدول الإقليمية لإعادة العملية الانتقالية في السودان إلى مسارها. كما عبَّرت كل من بريطانيا وألمانيا وروسيا وتركيا بجانب دول إقليمية أخرى عن مواقف مماثلة. وأعلنت ألمانيا والولايات المتحدة والبنك الدولي تجميد مساعدات مالية للسودان، بينما طالب مجلس الأمن الدولي بـ"عودة حكومة يديرها مدنيون".
للمفارقة، كان موقف الاتحاد الإفريقي الأقوى من بين جميع تلك المواقف؛ حيث أعلن في بيان له إدانته بشدة استيلاء العسكريين على السلطة في السودان، و"تغيير الحكومة بطريقة غير دستورية"، مشددًا على أن هذا الأمر "غير مقبول، ويمثل إهانة للقيم المشتركة والمعايير الديمقراطية للاتحاد الإفريقي.
وأما "إسرائيل"، حيث يراهن طرفا الصراع السياسي على "التطبيع" كرافعة للعودة إلى المجتمع الدولي، فرأت أنه "حتى لو لم يؤذ الانقلاب في السودان في النهاية عملية التطبيع، فيمكن أن يكون بمنزلة تذكير لصانعي القرار الإسرائيليين بالمخاطر الكامنة في الاتفاقيات مع الأنظمة غير المستقرة"، بحسب تحليل لباحثين بـ "معهد دراسات الأمن القومي" في تل أبيب.
في بلد يشهد استقطابًا كبيرًا، بلغ ذروته في انقسام الحاضنة السياسية للائتلاف الحاكم نفسه؛ قوى الحرية والتغيير، بين مجموعتي: "الحرية والتغيير" (مجموعة المجلس المركزي)، و"الحرية والتغيير" (مجموعة الميثاق الوطني)، تفاوتت ردود الأفعال بين هاتين المجموعتين تجاه الانقلاب؛ فبينما اعتبرته الأولى انقلابًا قام به "المجلس العسكري الانتقالي" أو اللجنة الأمنية لنظام الرئيس السابق، عمر البشير، أيَّدت الثانية، في المقابل، الخطوة واعتبرتها تصحيحًا لمسار الثورة بتكوين حكومة كفاءات مستقلة غير حزبية، وتوسيع الحاضنة السياسية للمرحلة الانتقالية.
كما رفضت بقية القوى السياسية المعارضة الأخرى، خارج الحاضنة الانتقالية، هذا الانقلاب أيضًا. وكذلك دعت جهات مناهضة للانقلاب إلى تنظيم تظاهرات باسم "مليونية 30 أكتوبر" الماضي.
ثالثًا: دوافع المكون العسكري للقيام بالانقلاب
في خضم الصراع بين طرفي السلطة هناك أربع قضايا أدرك المكون العسكري أنها باتت أوراق ضغط بيد المكون المدني، وهي تُستخدم لابتزاز مكونات المؤسسة العسكرية لتجريدها من سلطاتها ومن ثم إضعافها والتخلص منها، وهي:
قضية نتائج التحقيق في فض الاعتصام أمام القيادة العامة (3 يونيو/حزيران 2019) الذي يعتقد أن المكون العسكري متورط فيه، وهي تشكِّل للمكون المدني أساسًا قانونيًّا وسياسيًّا لإخراج قيادات المكون العسكري من المشهد.
تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ حيث إن ذلك يقود الى توريط بعض قادة المكون العسكري لتاريخهم وخدمتهم في النظام السابق ومزاعم تورطهم في انتهاكات لحقوق الإنسان.
طرح إعادة هيكلة القطاع الأمني بحيث يجري دمج "قوات الدعم السريع"، بجانب تجريد الأجهزة الأمنية من مؤسساتها الاقتصادية التي يرى المدنيون والمانحون الدوليون أنها عقبة كأداء في سبيل الإصلاح الاقتصادي، فضلًا عن كونها مصدر قوة المكون العسكري.
مسألة انتقال رئاسة المجلس السيادي من المكون العسكري (يتولاها حاليًّا الفريق أول، عبد الفتاح البرهان) إلى المكون المدني بعد انتهاء مدة رئاسة الأول؛ حيث يرى المكون العسكري أن قضية أيلولة الرئاسة إلى المكون المدني باتت تتضمن مؤامرة تحاك ضده، كما يعتقد أيضًا أن تولي المدنيين رئاسة المجلس السيادي يعني تهديدًا للأمن القومي للبلاد.
رابعًا: المؤشرات السياسية الجديدة وراء الانقلاب
بجانب ما تقدم، هناك عدة معطيات جديدة ساعدت على وقوع هذا الانقلاب ووأد الفترة الانتقالية، وربما ستساعد على وقوع انقلابات أخرى لاحقة، كما شجَّعت المؤسسة العسكرية للتطلع للقيام بأدوار سياسية، وعلى ضوئها يمكن استنتاج جملة من المؤشرات المهمة التي ستحدد مستقبل المؤسسة العسكرية في سياق مناقشات مستقبل البلاد السياسي، وهي على النحو التالي:
أ. بدايات تحول دور المؤسسة العسكرية
إلى فاعل سياسي مهيمن والقيام بانقلابات مقنَّعة بغطاء سياسي وحزبي، فرغم أن الجيش ظل لاعبًا في الحياة السياسية، فإن تحوله إلى فاعل سياسي رئيسي بات أكثر وضوحًا بسبب تأثيرات ما بعد ثورات الربيع العربي، من تبني محاور إقليمية سياسات عسكرة الحياة من خلال دعم المؤسسة العسكرية ضد المجتمع المدني والأحزاب لوأد التحول الديمقراطي. وممَّا سبق، يمكن رصد تحول المؤسسة العسكرية في السودان إلى فاعل سياسي من خلال المؤشرات التالية:
بات الجيش لا يقاوم فقط محاولات حصر دوره التقليدي في حماية الأمن القومي والعودة إلى ثكناته، بل يقوم بتوسيع هذا المفهوم ليشمل التهديدات السياسية الممثَّلة في الأحزاب والقوى التي تدعو، حقيقة لا مناورة، إلى قيام نظام ديمقراطي وتتحدى دور المؤسسة العسكرية.
غدا الجيش يبحث عن تحالفات أو حواضن سياسية توفِّر له الغطاء، وبالتالي إفراغ الحياة السياسية والمدنية من معانيها وقوتها والتحكم فيها بالكامل، بل يعمل كذلك على إعادة تشكيل العملية السياسية وتحديدًا أدوار لاعبيها. بل أكثر من ذلك ينافس القوى المدنية في بناء رأس مال سياسي يجعله فاعلًا مهمًّا في الحياة السياسية. كما تعلَّم الجنرالات أيضًا فن المساومات السياسية والمناورات ضد الخصوم السياسيين.
كوَّن الجنرالات مهارات في التواصل السياسي والدبلوماسي، ومع الفاعلين في المجتمع الدولي، وقراءات التفاعلات الإقليمية والدولية بشكل جيد ومن ثم إعادة توظيفها، وبالتالي باتوا فاعلًا في رسم السياسة الخارجية وطرفًا فاعلًا فيها.
كما أن الجنرالات باتوا قادرين أيضًا على تعريف الانقلاب/الانقلابي التقليدي، بجانب أيضًا إعادة تعريف مفاهيم الأمن القومي ومطلوبات الاستقرار السياسي. وبالتالي يقدمون الإجراءات التي يقومون بها على أنها "استعادة للثورة" وحفاظ على الأمن القومي، وليس سيطرة على السلطة أو إطاحة بحكم مدني.
ب. صعود نخب الإجرام السياسي
صعدت هذه النخب في الفترة الماضية، وهي نخب تضم متمردين ونشطاء ومعارضين سابقين تشكَّلت من خلال ظروف هيأت أمام بعض أفرادها فرص الحصول على حق اللجوء السياسي بالخارج، وأن تتحول إلى فاعلين سياسيين ولكن من دون اكتساب خبرات عملية في إدارة الشأن العام؛ حيث انعكس ذلك على سلوكهم في السلطة، خاصة بعد أن أصبحوا جزءًا من أجهزة الدولة في الفترة الانتقالية المجهضة، ويمكن وصف هذه الطبقة بالتالي:
الافتقار إلى الخبرة في إدارة الشأن العام للدولة بعيدًا عن عقلية الناشط/المُعارض، وعدم القدرة على الانتقال إلى عقلية رجال الدولة، وبالتالي القيام بمهام تتعلق بأجندة أوسع للبناء الوطني، لاسيما في مرحلة انتقالية تتطلب مهارات رجال دولة حقيقيين.
تنطلق هذه النخبة من أن نيل الشرعية يكون من خلال الارتباط بمشاريع للخارج والحصول على دعمه والاستقواء به، سواء لتنفيذ أو تبني أجندة معينة أو في مواجهة الخصوم المحليين، إما خدمة لأجندة هذا المحور وإما للحصول على الدعم والشرعية منه، وإما توفير غطاء أمام المنافسين الآخرين.
الإيمان بالصراع الدائم والعيش وفق عقلية الضحية واستخدام ذلك للتبرير، وأن المواقف والتحالفات السياسية لا تقوم بالضرورة على أساس مبادئ أو قيم، بل من خلال مصالح شخصية أو حزبية ضيقة.
التعاطي مع المناصب في أجهزة الدولة باعتبارها "غنيمة" جرى الحصول عليها بالقوة والغلبة، وغير قابلة للمحاسبة والمساءلة عليها، فضلًا عن إبداء مواقف والإدلاء بتصريحات بصورة غوغائية، بما في ذلك الأسرار أو القرارات التي تتم داخل أجهزة الدولة، بما لا يتسق مع واجبات رجال الدولة ومهام المسؤولين الرسميين.
إدارة أجهزة الدولة وفق اتجاهات التناول على وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك القرارات الحساسة، والعجز عن اتخاذ قرارات فعالة، فضلًا عن تصفية الحسابات من خلال التسريب ضد المنافسين والخصوم.
وعلى ما سبق، فإن صعود هذه النخب بقوة خلال الفترة الانتقالية داخل الطبقة السياسية بالبلاد، ترتبت عليه نتيجتان هما: الأولى: تغليب الصراع والتنافس الضار على المصالح العليا، وإضعاف أجهزة ومؤسسات الدولة. وأما الثانية، فهي تغييب الإرادة الشعبية من خلال الاحتكام إلى الانتخابات، وبالتالي هيمنة القوى غير الديمقراطية بما في ذلك المؤسسة العسكرية. فلا غرو أن ينتهي الصراع بين أطراف العملية الانتقالية إلى انقلاب مقنَّع يطيح فيه العسكر بشركائهم في السلطة واستبدال مكونات مدنية أخرى بهم بكل سهولة.
ج. تفكك الأحزاب الوطنية
رغم التجربة الحزبية الراسخة التي عرفتها البلاد إلا أن فاعلية الأحزاب، كروابط فوق وطنية عابرة للانقسامات والاصطفافات، قد تراجعت بشكل مطرد في العقود الأخيرة نتيجة تجذر السلوكيات والممارسات "الزبونية"، أو ما أطلق عليه بروفيسور أليكس دو وال، الخبير البريطاني في شؤون القرن الإفريقي، "سوق الممارسات السياسية" أو "سوق الأعمال السياسية"(26)؛ حيث باتت الولاءات عُرضةً للبيع والشراء بهدف تحقيق المطالب أو الأجندات السياسية للأشخاص والمجموعات المتنافسة. وضاعف ذلك من صعوبات إمكانية تكوين كتلة تاريخية تضطلع بمشروع وطني، يمكن أن يقوم على قاعدة سياسية راسخة ومتماسكة، كما تراجعت القدرة على إنتاج أفكار أو مساهمات محلية في اجتراح حلول ملموسة للقضايا الوطنية.
فضلًا عن ذلك، فقد أدى الاستقطاب السياسي إلى تفسخ الحياة السياسية أو بالأحرى "موت السياسة"(27)؛ حيث نجم عن ذلك، خاصة بعد التغيير في 2019، بروز عدة ظواهر كانت خصمًا من دور الأحزاب الوطنية:
أولاها: صعود الحركات المتمردة والحركات المطلبية المناطقية (الجهوية) لاسيما في أطراف وهوامش البلاد بما تقوم عليه من انتماءات جهوية وقبلية على حساب الأحزاب الوطنية.
ثانيها: صعود العشائرية والقبلية كحامل للتعبير عن المطالبة بالحقوق وإطار للممارسة السياسية ليس فقط في الأطراف أو "الهامش" وإنما في "المركز" أيضًا، خاصة عقب التغيير المهم بالبلاد في أبريل/نيسان 2019.
ثالثها: بروز دور المجتمع المدني لاسيما في ضوء الاهتمام الخارجي بمناطق النزاعات أيضًا كبديل عن الأحزاب، وترافق ذلك مع ظاهرة الناشطين كأصوات سياسية، خاصة توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، وانخراط مجموعات في ظاهرة المنظمات وبناء رأس مال وخطاب سياسي بمعزل عن الأجندة الوطنية بما يتوافق مع الدعم الدولي.
خامسًا: أهم السيناريوهات المتوقعة
في التطورات الأخيرة، مع فشل العملية الانتقالية واحتدام الصراع على السلطة، وتضاؤل الأمل في تحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي، تبرز هنا جملة من السيناريوهات يمكن أن نجملها في التالي:
السيناريو الأول: عدم الاستقرار السياسي، والاضطرابات وتعثر الانتقال السياسي، في ظل غياب الإجماع والتوافق الوطني، بشكل لا يساعد على تأسيس نظام تمثيلي يعكس الأوزان الحقيقية للقوى الحزبية والسياسية بالبلاد ويساعد على قيام نظام سياسي مستقر يجمع بين الشرعيتين، الدستورية والشعبية. وهو مرجح في ظل المعطيات الراهنة بالبلاد.
السيناريو الثاني: وهو الأقرب إلى التحقق أيضًا، وهو قيام نظام هجين يسيطر عليه المكون العسكري، ويتم تدجين هذا النظام ولكن مع معارضة قوية متصاعدة، خاصة من المكونات التي جرى إقصاؤها عبر الانقلاب الأخير، أو مجموعات أخرى لم تستوعبها التسوية السياسية التي سيقوم عليها هذا النظام الحالي، أو تلك التي تبدو ساخطة على الوضع الراهن.
السيناريو الثالث: حراك جماهيري سيكون مستمرًّا، وسيكون هذا السيناريو أكثر ترجيحًا في المدى المنظور؛ إذ إن اللجوء إلى تحريك الشارع سيكون السلاح الوحيد في يد بعض القوى السياسية وكذلك المكون العسكري، وبالتالي الشارع، والشارع المضاد. بيد أن الشارع نفسه بات عصيًّا على الإخضاع والترويض، وقد يكون خارج سيطرة الجميع؛ فظاهرة "الأيقنة"، أي رغبة المتظاهرين في التحول إلى أيقونات أو تحقيق الشهرة، جعلت الخروج والانخراط في الفعل الاحتجاجي سلوكًا فردانيًّا يعكس طموحات ورغبات شخصية، خاصة لفئات الشباب، وإن جرى في سياق جمعوي أو ما يطلق عليها مليونيات أو احتجاجات أو تظاهرات. ومن هنا، سوف تتواصل أشكال الحراك الجماهيري ولكن من دون ترجمتها في عملية انتخابية حقيقية تعكس إرادة الشعب أو تفرز قوى حزبية منتخبة. كما سينتقل توظيف الشارع إلى دولاب الدولة من خلال محاولات توظيف العصيان المدني والإضرابات.
السيناريو الرابع: إكمال الفترة الانتقالية بتجاذبات هنا وهناك، أو التوصل إلى ترتيبات سياسية جديدة، يمكن أن يتبعها إجراء انتخابات عامة ذات مصداقية بحيث تفرز قوى سياسية ذات أوزان تؤسس بدورها لشرعية دستورية تؤدي إلى استقرار البلاد. ولكن هذا السيناريو مستبعد لطموح الجيش في السلطة وغياب قوى مؤمنة بالديمقراطية وتناضل من أجلها.
*عباس محمد صالح عباس - باحث سوداني في الشؤون الإفريقية.