بينما بعد خروج لبنان من الأزمة السياسية وتشكيل الحكومة، كان من المتوقع أن يبدأ المسؤولون اللبنانيون، في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردية، بمعالجة القضايا الحساسة والمهمة بحسب الوعود الواردة في البيان الوزاري، لكن الأوضاع جرت بشكل مختلف.
تسييس ملف انفجار مرفأ لبنان والتدخل السعودي الأمريكي
تسييس ملف انفجار مرفأ لبنان والجريمة الكبرى التي نفذت بإشراف مباشر للسعودية والولايات المتحدة في منطقة الطيونة ببيروت، من قبل حزب سمير جعجع أكبر حليف للرياض حالياً في لبنان، كانت الشرارة لمشروع كبير صممته كل من السعودية والولايات المتحدة بطريقة مختلفة تقريبًا ضد لبنان.
وبينما كانت خطة منظمي جريمة الطيونة لجرّ المقاومة للحرب الأهلية وتحريض حزب الله على استخدام سلاحه في الساحة اللبنانية الداخلية وإثارة قضية نزع سلاح المقاومة أخيرًا، فقد شهدنا الشهر الماضي مناورةً جديدةً معاديةً للبنان بخطة سعودية.
خطة السعودية الجديدة ضد لبنان
في الوقت الذي ساد فيه هدوء نسبي الوضع اللبناني بعد بدء التحقيق في قضية جريمة الطيونة والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت وقرار إقالة "طارق البيطار" قاضي الملف أو الإبقاء عليه، كان نبأ نشر مقابلة مع وزير لبناني حول الحرب في اليمن، ذريعةً جديدةً لجأت إليها الأطراف المعنية لاستئناف تحركاتها ضد لبنان.
وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي كشخصية إعلامية ومقدم برامج مختلفة، في آب قبل شهر من تشكيل الحكومة اللبنانية وتوليه منصب الوزير، في مقابلة مع قناة الجزيرة القطرية، وصف الحرب اليمنية بالعبثية وشدد على ضرورة إنهائها، مؤكداً أن الشعب اليمني وأنصار الله يدافعون عن أنفسهم ولم يعتدوا علی أحد.
إلا أن الإجراءات التي اتخذتها السعودية ردًا على نشر هذه المقابلة، أي قطع العلاقات الدبلوماسية مع لبنان ومنع استيراد البضائع من هذا البلد، لم تكن طبيعيةً، خاصةً وأن قرداحي أجرى هذه المقابلة قبل توليه منصب الوزارة.
بصرف النظر عن سبب عدم تجرؤ السعودية على الرد على انتقادات المسؤولين الغربيين والأمم المتحدة، وكذلك أعضاء الكونغرس الأمريكي، بشأن الحرب في اليمن، استقبل الرئيس اللبناني ميشال عون، الذي انتقد بشدة الحرب العبثية في اليمن قبل توليه منصبه، بحفاوة من قبل المسؤولين السعوديين خلال زيارته الرسمية الأولى للسعودية كرئيس لبناني.
وهكذا، يتضح أن هذه الحملة الشرسة والعدائية التي تشنها السعودية على لبنان مع الدول الخليجية الأخرى، لا يمكن أن تكون رداً على تصريحات جورج قرداحي. حتی أن العديد من المراقبين يعتقدون أنه ربما كان هناك تواطؤ بين المسؤولين السعوديين وقناة الجزيرة لبث مقابلة جورج قرداحي في هذا التوقيت.
عداء الرياض لبيروت ومحاولة إسقاط الحكومة اللبنانية
عداء الرياض لبيروت طيلة العقدين الماضيين بعد هزيمة المعسكر السعودي في لبنان ليس سراً.
ومن الإجراءات الهامة التي اتخذتها السعودية على مدى السنوات الماضية، يمكن الإشارة إلی دعم الكيان الصهيوني في حرب تموز 2006 مع لبنان، محاولات إدخال الإرهابيين إلى لبنان بعد الأزمة السورية عام 2011، تحفيز أدوات الرياض على تكرار الحرب الأهلية في لبنان، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري وإجباره على الاستقالة، وسط ضغوط اقتصادية متزايدة على لبنان.
وفيما بدت السعودية معاديةً لسعد الحريري لعدم قدرته على إبعاد حزب الله عن المشهد السياسي اللبناني، لكن بعد هزيمة الحريري في تشكيل الحكومة اللبنانية وتشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، اتضح أن مشكلة الرياض هي مع الحكومة اللبنانية ونظامها السياسي، لأن أياً من الحكومات التي وصلت إلی السلطة في لبنان لم تستطع التقليل من دور المقاومة.
ومن الأمثلة الواضحة على استياء السعودية من حكومة ميقاتي، السلوك غير الدبلوماسي لسفيرها في بيروت، وليد البخاري، الذي لم يهنئ حتى تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.
وفي وقت سابق، قال وليد البخاري في لقاء مع شخصيات لبنانية مقربة من السعودية، إن تشكيل الحكومة اللبنانية لا يرضي السعودية. ومن هنا يتبين أن الحظر المفروض على لبنان بحجة نشر مقابلة جورج قرداحي، هو مجرد ذريعة.
وكانت السعودية قد أرسلت رسالة تهديد إلى اللبنانيين، تقول إن على جورج قرداحي الاستقالة أو الإطاحة به، لكن الرياض لم تقدم أي ضمانات بأن تنحية قرداحي ستنهي أزمة العلاقات العربية مع لبنان. وعليه، يؤكد قرداحي وأنصاره، بمن فيهم حزب الله، على أن كرامة لبنان على المحك وأن اللبنانيين لا ينبغي أن يسمحوا لدولة أجنبية أن تقرر نيابةً عنهم.
رسالة التهديد من السعودية ورهان ميقاتي على أمريكا
بدأت السعودية تهديدات سرية ضد رئيس الوزراء اللبناني بعد أن فشل نجيب ميقاتي في إقناع الأطراف المعنية بالإطاحة بجورج قرداحي.
وبالنظر إلى جهود نجيب ميقاتي لاسترضاء السعودية وخوفه من قطع العلاقات مع هذا البلد، يعتقد العديد من المراقبين أنه يأمل في الحصول على دعم الولايات المتحدة في الحملة التي أطلقتها الرياض ضد بيروت وضد نفسه.
وعلى الرغم من الأهداف المشتركة التي تسعى إليها الرياض وواشنطن في لبنان، فإننا نرى أنه في خضم أزمة السعودية المناهضة للبنان، تؤكد الولايات المتحدة دعمها لحكومة ميقاتي. ويعتقد بعض المراقبين أن ميقاتي هو بأي حال من الأحوال حليف 14 آذار، ويمكن أن يكون بديلاً جيداً لسعد الحريري.
الإنتخابات النيابية اللبنانية والهدف المشترك للرياض وواشنطن
من الواضح أن الانتخابات النيابية اللبنانية لها أهمية كبيرة للولايات المتحدة والسعودية، وكلاهما يسعيان إلى هدف مشترك: إبعاد حزب الله عن المشهد السياسي اللبناني.
لا يمكن القول إن أسلوب الولايات المتحدة والسعودية في التأثير على الانتخابات النيابية اللبنانية مختلف تماماً، لأن الطرفين يؤكدان على مبدأ إثارة الاضطرابات في لبنان وخلق حملات معادية ضد المقاومة.
لكن يبدو أنه بعد فشل السياسات الأمريكية في الحصار الاقتصادي لبيروت، بعد استيراد الوقود من إيران إلى لبنان، مما مهَّد الطريق لواردات الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، قررت واشنطن اتباع سياسة مختلفة لتحقيق أهدافها في لبنان، وهي تحاول في هذه المرحلة التنسيق مع الأدوات والسفارات الموالية للولايات المتحدة في بيروت، لكسب الأغلبية النيابية اللبنانية لأدواتها.
الحقيقة أن الولايات المتحدة معنية أكثر بتعزيز الدعم للحكومة اللبنانية والاستقرار في البلاد، كما أن زيارة وفد الكونغرس الأمريكي لبيروت خلال اليومين الماضيين كانت للغرض نفسه.
ويرى المراقبون أن الولايات المتحدة مقتنعة بأن تهديداتها العلنية ضد لبنان لن تعمل على تحقيق أهدافها، وأنه من خلال جلب نجيب ميقاتي إلى الانتخابات النيابية اللبنانية، يمكنها أن تخلّ بتوازن القوى في لبنان وتقلب الصفحة لصالحها.
لكن السعوديين، بناءً على تجربتهم مع حكومة سعد الحريري، يعتقدون أن خطة واشنطن لن تنجح، وأن سياسة الضغط الأقصى على لبنان هي الطريقة الأكثر فاعليةً، وأن الحملة التي تطلقها الآن هي ضمن هذا الإطار.
ولعل الخلاف بين الاستراتيجية الأميركية والسعودية تجاه الانتخابات النيابية اللبنانية، أن الأميركيين يعتقدون أن عليهم انتظار نتائج جهودهم في الانتخابات النيابية اللبنانية، وإذا كانت نتيجة هذه الانتخابات لا ترضيهم فعليهم استئناف سياسة الترهيب والتهديد العلني ضد لبنان.
لكن فيما تسعى السعودية إلى تشكيل تحالف سياسي بقيادة حليفها الرئيسي في لبنان سمير جعجع، مع عناصر من 14 آذار وقوى معارضة حزب الله، إلا أنها تری أيضًا أن الفشل في إجراء الانتخابات وجر لبنان إلى الفوضى، إحدى طرق تنفيذ مشروعها في هذا البلد.
وتأتي ضغوط الرياض للإطاحة بالحكومة اللبنانية في الإطار نفسه، ليمهِّد سيناريو الجمود السياسي المتكرر الطريق للتدخل السعودي. ويجادل البعض بأن الولايات المتحدة والسعودية ربما اتبعتا سياسة "العصا والجزرة" لتحقيق هدفهما المشترك في لبنان.
ولذلك، في أقل من خمسة أشهر قبل الانتخابات النيابية اللبنانية، يجب أن ننتظر موجةً جديدةً من المناورات الأمريكية السعودية، وخاصةً ضد حزب الله.
لكن النقطة التي يجب على المسؤولين اللبنانيين الانتباه إليها، هي أن الاستسلام للضغط السعودي والخداع الأمريكي يعني تكرار سيناريو الفوضى والأزمات المتعددة.
علاوةً على ذلك، فإن استقالة أو تنحية جورج قرداحي تعني ببساطة قبول إملاءات الرياض، ولا تؤدي في الواقع إلى نهاية الأزمة في العلاقات مع السعودية والدول الخليجية الأخرى.