بددت استقالة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك الضباب الديمقراطي الغامض الذي كان يكتنف النظام القائم في الخرطوم وأظهرته على حقيقته، دكتاتورية عسكرية، كما حرمته من الواجهة المدنية والتواصل مع المجتمع الدولي، ليبقى المجلس العسكري وحده في السلطة، منهية بذلك كوميديا لم ينخدع بها أحد في السودان.
وفي تقريرين منفصلين، اتفقت صحيفتا "لوفيغارو" و"ليبراسيون" الفرنسيتين على أن رحيل حمدوك شكل ضربة للجيش وأظهر بوضوح أن الانقلاب ليس أكثر من عودة لسياسات الرئيس المخلوع عمر البشير العسكرية، خاصة أن قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، والرجل الثاني في النظام (قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية) محمد حمدان دقلو -المعروف باسم حميدتي- كانا مقربين سابقا من البشير.
وتحت عنوان "الديمقراطية الزائفة ذهبت أدراج الرياح"، ذكرت "لوفيغارو" أن انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي قام به عبد الفتاح البرهان أطاح بالفريق المدني العسكري الذي حكم الدولة منذ سقوط عمر البشير عام 2019، وألقى القبض على حمدوك، ووضعه تحت الإقامة الجبرية، وبرر البرهان هذا الاستيلاء على السلطة بضرورة الحفاظ على وحدة البلاد التي تهددها حركات غاضبة، كالإضراب الذي شل بورتسودان، والذي دعمه العسكر بشكل كبير من وراء الكواليس، كما تقول الصحيفة.
سياسة عسكرية
ولئن أعيد حمدوك بعد شهر رئيسا للوزراء، فإنه وجد الأمور مختلفة؛ بحيث لم يعد هناك أي حديث عن نقل رئاسة مجلس السيادة الذي كان مقررا -حسب الوثيقة الدستورية بداية عام 2022- ومع أن مجلس السيادة بقي موجودا، إلا أنه تم تطهيره من جميع مدنييه لصالح موالين، أما الهيئة (لجنة إزالة التمكين) -التي كان من المفترض أن تتعقب وتعتقل المنتفعين والفاسدين من نظام البشير ومن بينهم عدد من الضباط المعروفين- فقد تم حلها.
وفي ظل هذه الظروف -كما ترى لوفيغارو- لم تكن عودة حمدوك إلى القيادة سوى خدعة تجرده من سمعته وقدر كبير من شرفه، وإن كان قال عند عودته -كما أوردت ليبراسيون- "وقعنا اتفاقية إطارية مع الجيش لمحاولة استعادة مسار التحول الديمقراطي المدني، ومنع إراقة الدماء، وتحرير المعتقلين، والحفاظ على الإنجازات التي تحققت خلال العامين الماضيين، والالتزام بالوثيقة الدستورية التي تحكم الانتقال".
وبعد استقالة حمدوك، قالت الخبيرة خلود خير -على موقع تويتر- إن "استقالته تظهر بوضوح أن الانقلاب ليس أكثر من عودة لسياسات البشير العسكرية الإسلامية"، وبهذا تكون الواجهة الديمقراطية الهشة قد سقطت، لتترك الجنود والشارع المليء بالمحتجين، وجها لوجه، بحسب الصحيفة الفرنسية.
وتحت عنوان "السودان: الجنرالات.. بعد أن خلت لهم القيادة انكشفت عورتهم"، أشارت "ليبراسيون" إلى أن الاتفاق الذي عاد بموجبه حمدوك لمنصبه لم يكن أكثر من محاولة جديدة لجلب الأطراف إلى طاولة الحوار والاتفاق على ميثاق لإكمال المدة المتبقية من الفترة الانتقالية، ولكن بدون جدوى، مع أنه أكد للقوات المسلحة أن "الشعب هو السلطة السيادية النهائية".
التفاوض أو الصدام
وقد وفر حمدوك بعودته لمنصبه -حتى في ظل مواجهة تحديات الشوارع- وجها مدنيا أنيقا للمجلس العسكري يخاطب به المجتمع الدولي، في وقت كان فيه السودان في أمس الحاجة لإنعاش اقتصاده المنكوب، وبدون هذا الوجه -كما تقول ليبراسيون- يجد البرهان وحميدتي نفسيهما في خط المواجهة، خاصة أن تعيين رئيس جديد للوزراء ليس سهلا.
ولم يبق للعسكر المحرومين من ختم حمدوك سوى التفاوض أو الصدام، والسيناريو الأول هو أن يجلس ممثلو قوى الحرية والتغيير على الطاولة العسكرية ويعيدوا مناقشة إطار عمل مقبول للانتقال، تحت رعاية وسيط مستقل، وهو ما يحتاج إلى الثقة التي دمرها الانقلاب ومطاردة النشطاء والقمع الوحشي للمتظاهرين. أما السيناريو الثاني والمأساوي، فهو التصعيد في المسيرات الشعبية وأعمال القتل في المقابل، خاصة أن جانبي قوى الحرية والتغيير أثبتا في الأسابيع الأخيرة قوة عزمهما وتصميمهما، وأنهم ديمقراطيون يتمتعون بشجاعة لا تتزعزع، وجنود لا يرحمون.
وختمت "ليبراسيون" بأن المجتمع الدولي لا يبدو في عجلة من أمره للعب دور الحكم، إذ جاءت ردود فعله على استقالة حمدوك فاترة، فقد قال مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيرتس "نأسف لذلك (القرار)" لكن "نحترمه"، ودعت الولايات المتحدة "القادة السودانيين إلى تنحية خلافاتهم جانبا، لضمان استمرارية السلطة المدنية"، وقالت إن "رئيس الوزراء المقبل يجب أن يعين وفقا للإعلان الدستوري وأن يعكس تطلعات الشعب إلى الحرية والسلام والعدالة"، وهذا تقريبا ما قالته فرنسا التي دعت إلى "إعادة إنشاء مؤسسات انتقالية تمثل التطلعات الديمقراطية للشعب السوداني".
ورغم ردود الفعل الدولية المذكورة، فإن العسكر -وفقا للوفيغارو- يتمتعون بدعم مصر والإمارات في ما يقومون به.
وبهذه الاستقالة -تقول الصحيفة- يترك حمدوك الشباب الذي فرض رحيل عمر البشير وقد عاد إلى الشارع رغم الاعتقالات والرصاص، حيث قُتل ما لا يقل عن 57 متظاهرا منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، و"جرح المئات واغتُصبت العديد من النساء، مع قطع الإنترنت وشرايين العاصمة الخرطوم بانتظام".
ونبهت "لوفيغارو" إلى أن المرسوم الذي وقعه الجنرال البرهان، والذي يضمن إفلات قوات الأمن من العقاب باسم "قوانين الطوارئ"، يثير المخاوف من قمع أشد ضد المؤيدين للديمقراطية، وهم حركة مكونة بشكل أساسي من الشباب -وبدون قادة حقيقيين- تتركز في الخرطوم والمدن الكبرى، ولديها شرعية معينة ودعم فاتر للغاية من الغرب.