بعد سنوات من الترقب والرغبة العامة للمواطنين العراقيين والتيارات السياسية لطرد المحتلين الاجانب، تم تنفيذ انسحاب قوات التحالف الأمريكي رسميًا بحلول نهاية عام 2021.
لعبت واشنطن دورًا رئيسيًا في بغداد في مختلف المجالات، حيث أثرت على قرارات قادة القوی الثلاث من خلال التدخل غير المشروع.
وهكذا، فإن لحظة انسحاب القوات الأمريكية ستكون نهايةً للعمليات العسكرية غير القانونية للجيش الإرهابي الأمريكي في العراق بين حين وآخر، وعمليًا، في المستقبل القريب، يمكن أن تمهد الطريق لقطع يد البيت الأبيض عن السياسة والحكم في هذا البلد.
يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء علی ملف انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي، وفي هذا الصدد، يتم تقديم رواية انسحاب القوات الأمريكية من العراق في فترتين تاريخيتين، 2009 و 2020، في البداية. ومن ثم ننتقل إلی استعراض مواقف مختلف الجماعات والتيارات السياسية العراقية من انسحاب القوات الأمريكية.
وفي الموضوع الثالث من التقرير، يتم تحليل سيناريو محاکاة الوضع في العراق مع أفغانستان بعد انسحاب المحتلين الأمريكيين، وأخيراً عرض حلول الحكومة العراقية لسد فجوة وجود القوات الأمريكية.
1. ثلاث مراحل رئيسية في انسحاب المحتلين الأمريكيين من العراق في السنوات التي تلت عام 2003.
أ) الاتفاقية الأمنية لعام 2008
يجب بحث انسحاب القوات الأمريكية من العراق في السنوات التي تلت عام 2003، في اتفاقية عام 2008 بين البلدين في عهد جورج دبليو بوش لأول مرة.
خلال مفاوضات إدارة بوش مع الحكومة العراقية آنذاك في عام 2008، تقرر أن تغادر القوات الأمريكية العراق بحلول نهاية عام 2011. لكن أساس هذه الاتفاقية يعود إلى قرار الأمم المتحدة رقم 1790.
وحسب القرار، تم تحديد عام 2008 باعتباره العام الأخير للوجود الأمريكي في العراق. وقد دفع هذا الأمر الحكومة الأمريكية لمحاولة الحفاظ على وجودها العسكري في شكل جديد.
في الواقع، بعد تمرير القرار، أرسلت الحكومة العراقية خطابًا إلى مجلس الأمن بعد التفاوض مع الولايات المتحدة، معلنةً أنه سيتم قريبًا توقيع اتفاقية أمنية طويلة الأمد بين رئيسي العراق والولايات المتحدة، وعلى أساسها سيتم تحديد إطار التعاون الأمني بين البلدين.
وفي تشرين الثاني 2007، وقَّع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اتفاقية تعاون طويلة الأمد بين البلدين، تشمل ثلاثة مجالات: الأمن والسياسة والاقتصاد.
نصت هذه المذكرة على اتفاقية أمنية بين البلدين. وفي بيان صدر في 27 آب 2007، ووافق عليه البيت الأبيض، شدَّد المسؤولون العراقيون على أن الحكومتين العراقية والأمريكية ملتزمتان بتطوير العلاقات والصداقة والتعاون طويل الأمد بين الجانبين مع الحفاظ على الاستقلال والسيادة الكاملين، ولديهما مصالح مشتركة.
وفي عام 2008، وافقت الحكومة والبرلمان العراقيان على الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق لسحب القوات الأمريكية.
تم اقتراح مسودة الاتفاقية الأمنية من قبل الولايات المتحدة، بسبب انتهاء الوجود العسكري الأمريكي في منتصف عام 2008. وبعد أشهر من مقاومة ضغوط واشنطن، تمت الموافقة على مسودة الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق من قبل 28 وزيراً من وزراء حکومة نوري المالكي البالغ عددهم 38 عضواً، في اجتماع لمجلس الوزراء في 17 تشرين الثاني 2008، بعد التغييرات التي اقترحتها الحكومة العراقية.
وأخيرًا، مع تغيير عنوانها إلى "اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية من العراق"، تمت الموافقة عليها بأغلبية الأصوات، أي بأغلبية 144 صوتًا مقابل 35 صوتًا سلبيًا فقط من إجمالي 198 نائباً حاضراً في البرلمان، ووافق مجلس الرئاسة العراقي في 3 كانون الأول على القرار، وأمر بتنفيذه.
وبموجب الاتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن، لم يُسمح للولايات المتحدة باستخدام أراضي العراق ومجاله البحري والجوي لمهاجمة الدول المجاورة، ويجب سحب جميع القوات الأمريكية من جميع الأراضي العراقية بحلول 31 كانون الأول 2011، ويجب سحب جميع القوات الأمريكية من جميع البلدات والقرى العراقية بحلول 30 حزيران 2009.
دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في إدارة باراك أوباما، واتفقت إدارة أوباما مع العراق عام 2009 على كيفية سحب القوات الأمريكية، وبحلول نهاية عام 2011 كانت هذه الآلية جاهزةً.
ب) استشهاد اللواء سليماني وقرار طرد القوات الأجنبية في مجلس النواب العراقي
بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011، تم إبرام اتفاقية أمنية بين البلدين، تنص على أنه يجب على البلدين العمل معًا بشكل وثيق في مكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية.
ولكن خلافًا لبنود الاتفاقية، رفضت القوات الأمريكية التعاون مع الحكومة العراقية في وقت ظهور داعش في العراق أواخر 2013، ولاحقاً الإعلان عن خلافة أبو بكر البغدادي المزعومة في 2014.
ومع ذلك، نتيجةً لضغوط وسائل الإعلام وكذلك سياسات واشنطن الاحتلالية في غرب آسيا، في السنوات التي تلت 2014 عادت القوات الأمريكية مرةً أخرى إلى العراق بحجة محاربة الإرهاب.
كما تم تعزيز انتشار القوات الأمريكية بعد وصول ترامب إلى السلطة في 20 يناير 2016، وخلافًا لعقيدة البيت الأبيض في ذلك الوقت، كان ترامب حريصًا على توسيع الوجود العسكري في العراق. وبالتالي، في عامي 2017 و 2018، زاد عدد القوات الأمريكية في العراق واتسع تدخلها في شؤون بغداد، وقد أثار ذلك قلقاً واحتجاجاً بين التيارات السياسية العراقية والرأي العام.
بعد انتهاء الخلافة التي أعلنها تنظيم "داعش" عام 2018، أصبح مطلب طرد المحتلين الأمريكيين مطلبًا عامًا، كما في السنوات التي تلت عام 2003.
ومع ذلك، اتخذ هذا المطلب بعدًا أكثر موضوعيةً في 3 يناير 2020، بعد اغتيال دونالد ترامب غير القانوني للواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وقد تمت متابعة طلب انسحاب قوات واشنطن بسرعة وحدة أكبر.
في أعقاب العمل الوحشي للإرهابيين الأمريكيين باغتيال قادة المقاومة، وافق مجلس النواب العراقي على خطة لسحب القوات الأجنبية في جلسة طارئة بتاريخ 5 كانون الثاني 2020، حضرها 173 من أصل 329 نائباً برئاسة محمد الحلبوسي.
وبعد هذا القانون، أصبح طرد جميع القوات الأجنبية، بما في ذلك قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة وتركيا وما إلى ذلك، مسألةً قانونيةً لرؤساء حكومة هذا البلد.
ولنكون أكثر دقةً، كان طرد القوات الأجنبية، وفي مقدمة ذلك طرد الإرهابيين الأمريكيين، من أهم مهام مجلس الوزراء. والواقع أن رئيس الوزراء العراقي تعرض لأكبر ضغط من التيارات السياسية والرأي العام لتطبيق هذا القانون بعد هذا المرسوم.
ومع ذلك، على مدى العامين الماضيين، استخدم الأميركيون من جهة ذرائع وعمليات عرقلة مختلفة، ومن جهة أخرى، مهَّد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بإجراءات متسامحة وانعدام الإرادة الجادة، الطريق للتأخير في التنفيذ السريع والفوري لهذا القانون.
ج) المحادثات الاستراتيجية وجدولة انسحاب القوات الأمريكية
بعد انتخاب الحكومة العراقية الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي عام 2020، انطلقت المحادثات الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد، وفق الأوضاع الراهنة ومطالب المواطنين العراقيين.
وفي هذا الصدد، ركز مصطفى الكاظمي، بصفته رئيس مجلس الوزراء، على موضوع المفاوضات مع واشنطن لسحب القوات الأمريكية خلال المراحل الأربع للمحادثات الاستراتيجية بين البلدين.
جرت المرحلتان الأولى والثانية من المفاوضات الاستراتيجية خلال رئاسة دونالد ترامب، وجرت المرحلتان الثالثة والرابعة في عهد إدارة بايدن.
في غضون ذلك، على الرغم من المناقشات حول مختلف القضايا الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعاون التكنولوجي وإلخ، كان التركيز الرئيسي للمفاوضين العراقيين على تحديد موعد لانسحاب القوات الأمريكية من البلاد.
عُقدت الجولة الأولى من المحادثات الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة في 11 حزيران 2020، كجزء من اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008 للصداقة والتعاون بين الولايات المتحدة والعراق.
وبالتزامن مع المفاوضات، كانت مسألة انسحاب القوات الأمريكية على جدول أعمال التيارات السياسية بشكل جدي، وفي الجولة الأولى تم إعداد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية، والذي بالطبع لم يتم تنفيذه عمليًا.
عُقدت الجولة الثانية من المحادثات الاستراتيجية في 18 آب 2020، خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لواشنطن التي استمرت عدة أيام.
وفي الجولة الثانية من المحادثات، بحسب ترامب والكاظمي، توصل الجانبان إلى اتفاق أمني طويل الأمد لمواجهة التهديدات. وخلال هذه الجولة من المحادثات أيضًا، وقعت الحكومة العراقية عقدًا بقيمة 8 مليارات دولار مع خمس شركات طاقة أمريكية.
في الجولتين الأولى والثانية، كانت مسألة انسحاب القوات الأمريكية خارج نطاق تركيز المفاوضين العراقيين إلى حد كبير، ما أدى إلى انتقادات داخلية واسعة النطاق.
ومع ذلك، في 7 أبريل 2021، عُقدت الجولة الثالثة من المحادثات الاستراتيجية بمؤتمر عبر الفيديو بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين ونظيره العراقي فؤاد حسين، وعلى عكس الفترات السابقة، كانت مسألة انسحاب القوات الأمريكية من أولويات المفاوضات بين الجانبين.
وفي الجولة الثالثة من المحادثات الاستراتيجية، أصدرت الولايات المتحدة والعراق بياناً مشتركاً جاء فيه إن الجانبين اتفقا على أن القوات العراقية "مستعدة لتحمل المزيد من المسؤولية".
کما أقر الجانبان بأن مهمة الولايات المتحدة والتحالف قد تحولت الآن إلى مهمة تدريب واستشارة. وبالتالي، سيسمح لبقية القوات المقاتلة بمغادرة العراق وفقًا لجدول زمني يتم تحديده في المفاوضات الفنية المستقبلية.
وفي الجولة الرابعة والأخيرة من المحادثات الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن في 26 تموز 2021، برئاسة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، تم التوصل إلى اتفاق نهائي وإصدار بيان مشترك.
وفي الجزء الأهم من المرحلة الأخيرة من المفاوضات الاستراتيجية بين الوفود الفنية للبلدين، تم الاتفاق على أن تقتصر العلاقات الأمنية بشكل كامل على تقديم المشورة والتدريب والتعاون الاستخباراتي، وأن تنسحب القوات الأمريكية من العراق بحلول 31 ديسمبر 2021.
وحسب بيان صدر عقب الجولة الأخيرة من المحادثات الاستراتيجية، جددت الحكومة العراقية التزامها بحماية أعضاء التحالف الدولي التي تقدم المشورة والتدريب لقوات الأمن العراقية، وشددت على أن جميع قوات التحالف المناهض لداعش تعمل في العراق بدعوة من الحكومة.
كما شدد الوفدان على أن القواعد التي تستضيف القوات الأمريكية وأعضاء آخرين في التحالف الدولي، هي قواعد عراقية يحكمها القانون العراقي الحالي وليست قواعد أمريكية أو قانون التحالف الدولي. والوجود الدولي للأفراد والطواقم في العراق، هو فقط لدعم الحكومة العراقية في الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي.
د) تحويل دور العسكريين الأمريكيين من القتال إلى القوات الاستشارية والمساندة
على الرغم من أن مسألة انسحاب القوات الأمريكية اتخذت بعدًا تنفيذيًا في نهاية عام 2021 بناءً على ثلاث جولات من المحادثات الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن، إلا أن الواقع هو أن هذا لا يعني انسحابًا كاملاً لجميع القوات الأمريكية.
بمعنی أن عدداً من القوات الأمريكية والغربية سيبقى في العراق على شكل حلف شمال الأطلسي، وستقوم بدور تدريبي وداعم للجيش العراقي. وفي هذا الصدد، تحدثت وسائل الإعلام الأمريكية والمسؤولون العسكريون والسياسيون عن بقاء 2500 جندي أمريكي.
في السياق نفسه، في أوائل ديسمبر 2021، قال الجنرال فرانك ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، إن واشنطن ستبقي على 2500 جندي في العراق، على الرغم من الإعلان الرسمي عن انتهاء مهمة القوات القتالية الأجنبية.
وحسب ماكنزي، على الرغم من أن دور القوات الأمريكية أصبح غير قتالي، فإنها ستستمر في تقديم الدعم الجوي والمساعدات العسكرية الأخرى للعراق في محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
على الرغم من معارضة هذا المستوى من الوجود العسكري الأمريكي من قبل الغالبية العظمى من التيارات السياسية والمواطنين العراقيين، إلا أن هناك العديد من القضايا التي يمكن تحليلها فيما يتعلق بدور الجيش الإرهابي الأمريكي.
أولاً، لن يكون الجيش الأمريكي قادرًا على إجراء أي عمليات عسكرية بشكل مستقل في المستقبل تحت أي ظرف من الظروف، وتتولى قيادة أي عملية عسكرية القائد العام أي رئيس الوزراء العراقي.
وفي المستوى الثاني، لم يعد بإمكان الإرهابيين الأميركيين في المستقبل مهاجمة مواقع قوات المقاومة، أي الحشد الشعبي بشكل غير قانوني مثل العامين الماضيين، أو على الأقل لن يكون هناك مثل هذا الاحتمال على حدود العراق الداخلية.
وفي المستوى الثالث، يمكن أن يمتد انتهاء الدور القتالي للمحتلين الأمريكيين في المستقبل غير البعيد إلى نهاية الدور الاستشاري، وبالتأكيد في العام أو العامين المقبلين، يمكن أن يصبح طلب إنهاء الدعم العسكري الأمريكي ومهمة التدريب في العراق مطلبًا عامًا، ويتخذ بعدًا تنفيذيًا.
2. مواقف مختلف التيارات والهويات السياسية في العراق حيال انسحاب القوات الأمريكية
يمكن دراسة مواقف ومقاربات مختلف التيارات والهويات السياسية العراقية بشأن مسألة انسحاب القوات الأمريكية من البلاد، في شكل مواقف معارضة وموافقة ومحايدة ومحافظة.
أ) مواقف الحكومة المركزية
يمكن النظر إلى موقف الحكومة المركزية العراقية بشأن انسحاب القوات الأمريكية، على أنه غامض وغير شفاف.
منذ بداية ولايته كرئيس وزراء العراق في 7 أيار 2020، أظهر مصطفى الكاظمي من خلال أفعاله، أنه لا يدعم فقط تنفيذ قرار البرلمان فيما يتعلق بالتزام الحكومة بطرد القوات الأجنبية من البلاد، بل لم يتخذ أيضًا أي خطوات عملية في هذا الصدد في الهيكل السياسي الذي يخضع لإدارته.
ورغم أن الكاظمي کان مؤسس خطة انسحاب القوات الأمريكية بحلول نهاية عام 2021، بسبب الضغوط عليه والإكراه في أربع جولات من المفاوضات الاستراتيجية، لكن الموقف المزدوج لمسؤولي حکومته يشير إلى عدم دقة مزاعم الكاظمي حول محاولاته الجادة لتنفيذ انسحاب القوات الأمريكية من البلاد.
في تشرين الثاني من العام الماضي، على سبيل المثال، أعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين صراحةً استمرار العمليات العسكرية تحت رعاية التحالف المناهض لداعش في العراق بالتنسيق مع بغداد.
عموماً، أثار افتقار الكاظمي للشفافية في تنفيذ قانون طرد القوات الأجنبية من العراق شكوكاً حول أدائه، فضلاً عن مسألة الاحتفاظ بقوات أميركية في العراق، وهذا ما جعل العديد من المراقبين السياسيين يشككون الآن في رحيل العسكريين الأمريكيين من العراق.
وقد دفع ذلك العديد من الشخصيات السياسية العراقية إلى إثارة قضية المساعي الأمريكية لإقامة وجود دائم في العراق. وفي هذا الصدد، قال حسين العقابي، عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي، إن الأمريكيين يسعون إلى تحويل قواعدهم في العراق إلى قواعد دائمة.
ومع ذلك، يمكن التأكيد على أن جميع عناصر الحكومة العراقية، بما في ذلك السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، قبلت برحيل المحتلين الأمريكيين كحقيقة.
ب) مواقف قوى المقاومة والتيارات المستقلة
على عكس الحكومة المركزية، فإن مواقف قوى المقاومة والقوى السياسية المستقلة من انسحاب القوات الأمريكية من العراق، شديدة الوضوح.
لقد عارضت جميع القوى المتواجدة في تيار المقاومة علانيةً الوجود العسكري الأمريكي في بلادهم، واصفةً إياه بالمحتلين والمنتهكين لاستقلال العراق وسيادته وأمنه.
ودعت تيارات مختلفة في هيئة الحشد الشعبي مرارًا وتكرارًا إلى إنهاء الاحتلال الأمريكي في تصريحاتها ومواقفها خلال العامين الماضيين، وفي الميدان نفذت عدة هجمات دون خوف، متحديةً وجود قوات واشنطن في بلادهم.
فمثلاً، عقب الجولة الرابعة والأخيرة من المحادثات الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن، أصدر تحالف فتح (الفرع السياسي للحشد الشعبي) بياناً رحب فيه بانسحاب القوات الأجنبية المقاتلة من العراق، واصفاً إياه بإنجاز وطني وخطوة إيجابية نحو تحقيق السيادة العراقية.
ودعا التحالف إلى تنفيذ الاتفاق من قبل المسؤولين العراقيين المعنيين، وشكر المفاوضين العراقيين على هذا "الإنجاز الوطني".
ج) مواقف القوى السياسية الكردية
طوال حياتها السياسية وصراعاتها مع الحكومة المركزية منذ الستينيات، اعتبرت التيارات السياسية الكردية العراقية الولايات المتحدة منقذها، وسعت إلى وجودها في العراق.
لكن في الوضع الجديد، حيث يتم الانتهاء من انسحاب القوات الأمريكية بحلول نهاية عام 2021 بعد الجولة الرابعة من المحادثات الاستراتيجية، يبدو أن الأحزاب السياسية الكردية وحكومة إقليم كردستان قد اتخذت موقفًا محافظًا نسبيًا.
في الواقع، كان الأكراد يخشون التحدث علانيةً والإصرار علی بقاء القوات الأمريكية في العراق، على الرغم من رغبتهم في ذلك، لأنهم كانوا يدركون بوضوح عواقب مثل هذا النهج في اليوم التالي لمغادرة واشنطن.
ومع ذلك، يمكن القول إنه على الرغم من النهاية الرسمية والقانونية للمهمة العسكرية الأمريكية القتالية في العراق، هناك الآن رغبة مشتركة بين أربيل وواشنطن لبقاء القوات الأمريكية في شمال العراق.
وحتى في هذا الصدد، شهدنا في الأشهر القليلة الماضية سيناريوهات مشبوهة في مسألة تضخيم تهديد داعش ضد وجود إقليم كردستان. وشهد الشهر الماضي، الذي صادف انتهاء الوجود الأمريكي في العراق، تصعيدًا مشبوهًا وغير مسبوق لأنشطة داعش في المناطق المتنازع عليها في محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى، ما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من قوات البيشمركة والقوات الأمريكية.
وحسب قادة عسكريين أكراد، يوجد فراغ أمني خطير في منطقتي خورماتو بمحافظة صلاح الدين وبلكانة في كركوك بين مواقع القوات العراقية وقوات البيشمركة، والقوات العراقية غير قادرة على توفير الأمن في هذه المناطق، وتتزايد حالات الاعتداءات والحوادث الأمنية والإرهابية في هذه المناطق.
بشكل عام، لا يزال جزء كبير من القوى السياسية الكردية يحلم باللجوء إلی المنقذ الأمريكي، ولم يتعلموا من التاريخ المليء بخيانة واشنطن لهم.
لكن الحقيقة هي أن المتطلبات الحالية والوقائع السياسية للمشهد السياسي العراقي والحكم، جعلت حكومة إقليم كردستان تتجنب التصريح برغبتها في بقاء القوات الأمريكية، من خلال اتباع نهج متحفظ.
3. خطة سيناريو محاكاة الانسحاب من العراق مع سيطرة طالبان على أفغانستان
تزامناً مع تطبيق اتفاقية انسحاب القوات الأمريكية وانتهاء المهمة القتالية لهذه القوات، من أكثر السيناريوهات انتشارًا من قبل وسائل الإعلام والسياسيين الأمريكيين في الآونة الأخيرة، هو إثارة السيناريو الأفغاني للعراق.
أساس الفرضية التي طرحتها غرف الفكر الأمريكية، هو أنه بعد انسحاب الأمريكيين من العراق، لن يتمكن هذا البلد، مثل أفغانستان، من مواجهة قوة داعش والجماعات الإرهابية الأخرى، وفي النهاية ستكون بغداد تحت سيطرة هذه القوات.
والهدف الرئيسي من خطة واشنطن والدعاية لمثل هذا السيناريو، هو الحفاظ على أرضيات تبعية بغداد وأربيل لواشنطن، من خلال ترهيب المجتمع السياسي والحكومة العراقية، لتواصل بهذه الطريقة دورها في المعادلات السياسية المستقبلية لهذا البلد.
في الواقع، على مدى عقود، استخدمت الولايات المتحدة قضية الأزمات الأمنية كأداة للتأثير وتعزيز قوتها في مناطق ودول مختلفة من العالم.
کما قدمت نفسها بشكل دائم على أنها المنقذ والداعم للاستقرار والأمن على المستوى الدولي، من خلال خلق الأزمات وانعدام الأمن في مختلف البلدان، واستخدمت ذلك ذريعةً لتعزيز النزعة العسكرية والحفاظ على هيمنتها، ولا تزال تحاول استغلال قضية الفراغ الناجم عن انسحاب قواتها العسکرية من العراق، ذريعةً لمواصلة دورها الخاص في العراق بعد عام 2003.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه على عكس الدعاية والمزاعم الأمريكية، فإن السياق السياسي للعراق وعملية المعادلات الميدانية في هذا البلد يختلفان كثيرًا عن أفغانستان.
أولاً، طالبان، أو "الطالبانية" علی الأصح، جزء من الثقافة وعلم النفس الاجتماعي الذي تم إرساؤه في أفغانستان. أو بعبارة أدق، يمكن تقييم طالبان على أنها حرکة لها جذور اجتماعية ومتشابكة مع قضية التوترات العرقية في هذا البلد. لكن في العراق، لا مكان لداعش على الإطلاق في قلب التنشئة الاجتماعية والثقافة السياسية للبلاد.
وفي المستوى الثاني، من الضروري الانتباه إلى حقيقة أن جزءًا صغيرًا فقط من المجتمع العراقي هم من السنة، أي نحو 20٪، وبالطبع الغالبية العظمى منهم ضد داعش.
وعلى المستوى الثالث أيضًا، لا يملك داعش ونواته الخفية، على عكس السنوات التي أعقبت عام 2013، القدرة على إعادة التنظيم وخلق تهديد أمني كبير، وأظهرت قوات الحشد الشعبي في مناطق مختلفة من العراق قدرتها على مقاومة التيارات المتطرفة مثل داعش، دون اللجوء إلى الدعم الأجنبي.
ولذلك، يبدو أنه حتى لو دبرت مؤامرة دولية ضد الحكومة العراقية، فإن القوات العسكرية العراقية ستكون قادرةً بشكل كامل على الدفاع عن نفسها.
4. حلول العراق لسد الفجوة الناجمة عن انسحاب القوات الأمريكية
على الرغم من المطالبة العامة للغالبية العظمى من المواطنين العراقيين بانسحاب القوات الأمريكية، إلا أن هناك مخاوف خاصة على مستوى الدوائر السياسية والمراقبين من الثغرات الأمنية التي ستعقب هذا الحادث.
على المستوى الأكثر أهميةً، في أعقاب الانسحاب الأمريكي، فإن أحد الاهتمامات الرئيسية لحكومة بغداد هو تجهيز جيشها بأسلحة متطورة وحديثة لمواجهة التهديدات الأمنية.
وفي هذا الصدد، فإن سجل الأمريكيين في التعامل مع الحكومة العراقية أسود للغاية، ويمكن ملاحظة أهم مظاهره في قضية شراء ودعم مقاتلات F-16 عام 2011.
اشترى العراق من الولايات المتحدة 36 طائرة مقاتلة من طراز F-16 Viper من صنع شرکة لوكهيد مارتن، بموجب عقد عسكري لعام 2011. ولكن تشير الدلائل الآن إلى أن حوالي 12 طائرة فقط قادرة على التحليق، بسبب العرقلة الأمريكية لدعم هذه المقاتلات.
وحتى شركة "سالي بورت" الأمريكية المتخصصة في حماية وصيانة المقاتلات الأمريكية، غادرت العراق مؤخرًا، وقد تسبب ذلك في قلق الحكومة العراقية.
لكن في الوقت الحالي، يبدو أن شراء أسلحة من دول مثل روسيا والصين وفرنسا وألمانيا وحتى إيران، يمكن أن يكون وسيلةً جيدةً لملء الفراغ المتمثل في عدم الوصول إلى الأسلحة الأمريكية.
وبالطبع في هذا الصدد، وحتى قبل نهاية عام 2021، رأينا أن الحكومة العراقية قد اتخذت خطوات، من أهمها رغبة بغداد في شراء المقاتلات الروسية.
وفي آب 2021، وضع العراق على جدول الأعمال شراء المقاتلة الروسية سوخوي 57، أقوى مقاتلة روسية، وميغ 29، المجهزة بصواريخ جو - جو ورادار موجه ذاتيًا.
وبالتزامن مع الرغبة في شراء هذه المقاتلات، وضعت بغداد على جدول الأعمال شراء نظام الدفاع الصاروخي S400 من روسيا، ويمكن أن تکون هذه القضية مقدمةً لشراء الأسلحة من دول أخرى أيضًا.
على صعيد آخر، تجدر الإشارة إلى أن الدعم الأمريكي للجيش العراقي لم يكن إيجابياً على المدى الطويل فحسب، بل أدى رسمياً إلى إفلاس وهزيمة الجيش العراقي تحت أي ظرف من الظروف.
وهذا يعني أن المساعدة الأمريكية وما يسمى بالتحالف المناهض لداعش وحلف شمال الأطلسي جعلت الجيش العراقي تابعاً نوعاً ما، ولم يؤد أبدًا إلى تنمية مستدامة.
وفي مثل هذا الوضع، فإن الضرورة الأساسية للجيش العراقي هي تجهيز وتدريب قواته بشكل ذاتي وأساسي، حتى يتمكن من الصمود أمام التهديدات دون أي دعم خارجي.
کذلك، في الوضع الحالي، فإن العديد من الحكومات الإقليمية وعبر الإقليمية على استعداد لسد الفجوة الناجمة عن الانسحاب الأمريكي من العراق.
وعلى المستوى الأهم، صرحت الصين بأنها مستعدة للتعاون بشكل مكثف في تدريب وتجهيز القوات العراقية، إذا أنهت الولايات المتحدة والدول الغربية وجودها في هذا البلد.