في أعقاب الانفجار المدمر الذي هز بيروت في 4 أغسطس/آب، كان نائب الرئيس التركي "فؤاد أقطاي" من أوائل الشخصيات الأجنبية التي قامت بزيارة لبنان للتعهد بتقديم الدعم.
وقال "أقطاي" إن تركيا لن تساعد فقط في إعادة بناء الميناء المتضرر والمباني المحيطة به، بل يمكنها أيضا ربط أكبر ميناء في تركيا على البحر المتوسط، "ميناء مرسين الدولي"، بميناء بيروت.
وسيسمح ذلك بتحويل مسار البضائع المتجهة إلى بيروت على متن سفن حاويات لتتجه إلى مرسين ثم إرسالها إلى بيروت على متن سفن أصغر يتحملها الميناء المتضرر حتى قبل إعادة بنائه.
وستكون إعادة بناء مرفأ بيروت مهمة كبيرة، وستكون عملية المناقصة تنافسية للغاية، وتشمل العديد من الجهات الفاعلة الرئيسية بخلاف تركيا، بما في ذلك فرنسا، التي أبدت اهتماما خلال زيارة الرئيس "إيمانويل ماكرون" لبيروت.
ومع ذلك، ستستغرق إعادة البناء بعض الوقت، وسيكون الحفاظ على بعض الوظائف في المرفأ حتى اكتمال المشروع أمرا بالغ الأهمية، لأن لبنان يعتمد عليه لاستيراد سلع ذات أهمية حيوية، مثل القمح والأدوية ومواد البناء.
ويمكن للميناء الرئيسي الآخر في البلاد، طرابلس، أن يقدم حلا جزئيا فقط؛ لأن قدرته لا تزيد عن ثلث سعة ميناء بيروت.
وبينما يمكن لأي جهة لديها الموارد إعادة بناء الميناء، يمكن لتركيا فقط المساعدة في إنشاء والحفاظ على شريان الحياة للميناء عبر ميناء مرسين، لأن البدائل الأخرى في شرق البحر المتوسط إما بعيدة جدا أو غير مجدية سياسيا.
وهنا تجعل الجغرافيا الموانئ التركية الخيار الأفضل لدعم مرفأ بيروت.
تبلغ المسافة بين ميناء بيروت وموسين 191 ميلا بحريا فقط. بالإضافة إلى ذلك، يعد ميناء مرسين مركزا رئيسيا في شرق المتوسط، ولديه قدرة للتعامل مع 2.6 مليون وحدة مكافئة سنويا.
ووفقا لبيانات من وزارة النقل والبنية التحتية التركية، عالج الميناء ما مجموعه 1.86 مليون حاوية نمطية في عام 2019، ما يعني أن هناك طاقة فائضة، ويمكن استخدام جزء منها لشحن البضائع إلى بيروت.
وفي غضون ذلك، أعرب ميناء تركي آخر، وهو "ليماك بورت اسكندرون"، عن اهتمامه بالمشاركة في هذا المشروع.
ولدى هذا الميناء سعة أقل، بمليون حاوية نمطية في المجموع، حيث تعامل مع 680 ألف حاوية مكافئة العام الماضي، لكنه أقرب إلى بيروت حيث يبعد عنه 167 ميلا بحريا فقط.
فوائد طويلة الأمد لتركيا
وإذا تحقق هذا المشروع، فإنه سيحقق بالتأكيد فوائد اقتصادية على المدى القصير لكلا الجانبين، ومع ذلك، من منظور تركي، يمكن أن يقدم أيضا فوائد على المدى الطويل بـ3 طرق مختلفة.
بادئ ذي بدء، مع استمرار مواجهة موقف تركيا الحازم بشأن التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط من قبل كتلة تضم اليونان ومصر و(إسرائيل) وقبرص، فإن مشروعا متبادل المنفعة مع لبنان يمكن أن يساعد في تقوية موقف أنقرة، لا سيما في وقت يكون فيه لبنان نفسه على خلاف كبير مع (إسرائيل) حول المناطق الاقتصادية الخالصة.
وتتعلق الأوضاع الجيوسياسية في شرق المتوسط بالموانئ بقدر ما تتعلق بالنفط والغاز، ويمكن أن يعني ربط أحد أكبر الموانئ التركية بلبنان تأثيرا متزايدا لأنقرة على الطرق البحرية في شمال شرق البحر المتوسط.
ثانيا، يمكن لربط "مرسين - بيروت" بشكل قوي مع استمرار العمل على إعادة بناء مرفأ بيروت أن يساعد تركيا على تنويع طرق تصديرها إلى الشرق الأوسط وتقليل اعتمادها على ميناء حيفا الإسرائيلي.
وتعد أكبر صعوبة تواجهها تركيا فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي لسياستها في الشرق الأوسط هي أن طرق التصدير إلى المنطقة مغلقة؛ فبوابات سوريا مغلقة أمام التجارة، والعراق لا يزال خطيرا للغاية وبالتالي مكلفا جدا، وتعرض إيران طريق أطول نحو أسواق الشرق الأوسط الأخرى ولكن هناك مشاكل إضافية أخرى تتعلق بالعقوبات.
وأثبتت اتفاقات "الرورو" بين الموانئ التركية والمصرية أنها فعالة، ولكن تم إلغاؤها لاحقا بسبب القضايا السياسية بين أنقرة والقاهرة.
وتقدم خدمات النقل الأسبوعية من مرسين إلى حيفا الخيار الأفضل للمصدرين الأتراك في الوقت الحالي، وبعد نزول الحاويات من العبارة في حيفا، يمكن لشاحنات الحاويات السفر بسهولة إلى الأردن وما وراءها إلى الأسواق في الخليج.
ولا يمكن تقدم بديل قوي في المستقبل أقوى من ربط قوي بين مرسين وبيروت بعد الانتهاء من إعادة بناء مرفأ بيروت.
وأخيرا، يمكن أن يكون خط "مرسين - بيروت" أيضا عاملا حاسما في تشكيل المشاركة الاقتصادية لتركيا في سوريا ما بعد الصراع على المدى الطويل.
وفي حين أن المسافة بين مرسين وبيروت هي 370 ميلا عبر البر، فإن نقل البضائع غير ممكن لأن حدود تركيا مع سوريا مغلقة أمام التجارة، ومع تراجع حدة الصراع، فإن المصدرين الأتراك يضغطون من أجل إحداث تغييرات حيث يرى السياسيون المحليون ودوائر الأعمال في هاتاي أنه من بين المعبرين الحدوديين اللذين يربطان تركيا مع سوريا عبر هاتاي، يمكن فتح معبر "يايلاداغي" للتجارة لأنه يتصل باللاذقية، حيث الوضع مستقر نسبيا.
ومع ذلك، لا يزال الوقت مبكرا جدا على معبر "جيلوه غوزو"، الذي يربط حلب وإدلب، حيث الوضع الأمني بعيد كل البعد عن الاستقرار.
ويمكن للطريق البري أن يكمل المسار البحري بين مرسين وبيروت، ما يعزز دور تركيا الاقتصادي في مستقبل سوريا ما بعد الحرب.
وفي حين أنه من المرجح أن تتولى القوى الكبرى مثل روسيا والصين زمام المبادرة في إعادة إعمار سوريا، فإن العملية ستتطلب إمدادا آمنا ومستمرا بمواد البناء والمواد الغذائية والسلع الضرورية الأخرى، التي يتم التعامل معها بشكل أفضل من خلال تركيا.
ومن المتوقع أن يولد شريان الحياة المؤقت بين موانئ مرسين وبيروت فوائد كبيرة لتركيا على المدى الطويل.
وهنا فإن المنطق الاقتصادي واضح، ومجتمع الأعمال جاهز وراغب، لكن الشرط الأساسي الأكثر أهمية سيكون التغلب على الدبلوماسية الإقليمية الحساسة، وهو ما قد يكون الأكثر صعوبة.