ليس في الحرب الدائرة حالياً والتي تشنها روسيا ضد أوكرانيا وفقط، ولكن منذ أن قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم إلى حدودها عام 2014، كانت إسرائيل تحاول الحفاظ على موقف الحياد في هذا الصراع الممتد والمتعدد الأطراف. ولكن مع تطور الأحداث، لم يكن أمامها إلا إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا صراحة على لسان وزير خارجيتها يائير لبيد.
كيف تطور الموقف الإسرائيلي من الأزمة الأوكرانية- الروسية، وما هى تداعيات إعلان إسرائيل إدانتها للغزو الروسي في المدى المنظور… هذا ما تحاول هذه الورقة رصده وتحليله.
فشل سياسة الوقوف على الحياد
في تصريح لمسئول إسرائيلي رفيع المستوى (لم يذكر اسمه أو منصبه) لموقع "المونيتور"[1] في 22 فبراير الجاري، قال: "إذا نظرت إسرائيل إلى الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا كصراع ثنائي وفقط، فإنها حتماً ستنحاز لروسيا، ولكن إذا كان على إسرائيل أن تختار بين روسيا والولايات المتحدة (إذا ما طلبت الأخيرة من إسرائيل إدانة السياسة الروسية حيال أوكرانيا) فإن إسرائيل ستنحاز حتماً للولايات المتحدة".
هذا التصريح يفسر تحرك الموقف الإسرائيلي منذ اشتداد الأزمة الأوكرانية- الروسية منذ يناير الماضي وحتى اليوم. ففي الثالث من فبراير الجاري، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد بأن النزاع بين روسيا وأوكرانيا لن يتحول إلى حرب في القريب العاجل، ورد عليه السفير الأوكراني يإسرائيل يفجيني كورنيشك بتصريح حاد قال فيه: "من العار أن السيد لبيد لم يلحظ حالة الحرب التي تمر بها بلدان وسط أوروبا مع روسيا منذ ثمانية أعوام علي الأقل، كان يمكن لأوكرانيا أن تتفهم محاولات إسرائيل للوقوف على الحياد في الحرب الأوكرانية- الروسية، ولكن ليس من المقبول أن يتبنى وزير الخارجية الإسرائيلي الدعاية الروسية التي تقوم على إنكار العدوان الروسي على الأراضي الأوكرانية". وقد عبرت هذه التصريحات بوضوح عن الجزء الأول من المبدأ الذي وضعه المسئول الإسرائيلي المشار إليه، فقد كانت إسرائيل قبل أن تصل الأوضاع إلى حالة الغزو الصريح من جانب روسيا منحازة للأخيرة بوضوح مما تسبب في غضب أوكرانيا.
ورغم التحذيرات التي كانت تصدرها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية منذ شهر يناير الماضي بقرب حدوث غزو روسي لأوكرانيا، ودعوة مواطنيها في أوكرانيا لمغادرتها بأسرع وقت، ظلت إسرائيل محافظة على منع توتر علاقتها بروسيا، فلم تتبع الولايات والمتحدة والدول الأوروبية في دعوة مواطنيها لمغادرة أوكرانيا، خاصة وأن روسيا كانت تنظر إلى مثل هذه الدعوات على أنها تحريض عليها في وقت كانت مستعدة فيه للتفاوض مع الغرب لحل الأزمة سلمياً وعبر الدبلوماسية. فقط وبعد نحو أسبوعين من صدور الدعوات الغربية للمواطنين بمغادرة أوكرانيا، وبالتحديد في 11 فبراير الحالي، أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية تحذيراً لرعاياها من السفر لأوكرانيا، وطالبت المقيمين فيها بتوخي الحذر وعدم الاقتراب من النقاط الساخنة، أي تلك التي يتوقع أن تشهد معارك بين الجيشين الروسي والأوكراني.
وفي اليوم التالي -ربما بعد ضغوط أمريكية- طالبت إسرائيل رعاياها صراحة بمغادرة أوكرانيا على الفور. ومع تسارع الأحداث ووقوع الغزو الروسي، اضطرت إسرائيل لإدانته، حيث صرح وزير خارجيتها يائير لبيد في 24 فبراير الجاري، قائلاً: "الهجوم الروسي على أوكرانيا انتهاك خطير للنظام الدولي، وإسرائيل تدين الهجوم، وهى مستعدة لتقديم المساعدة الإنسانية لمواطني أوكرانيا". ودعا إلى "العودة إلى طاولة المفاوضات، بوساطة القوى الدولية لتسوية الخلافات سلمياً".
وباتخاذ إسرائيل هذا الموقف انتهت محاولة الحفاظ على الحياد بين روسيا وأوكرانيا بالفشل، وتحقق الشق الثاني من المبدأ الذي تحدث عنه المسئول الإسرائيلي لموقع "المونيتور" المشار إليه سابقاً، حيث كان من الصعب على إسرائيل أن تتفادى إدانة روسيا في وقت تحركت فيه الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى لفرض عقوبات مشددة على موسكو، وربما تكون واشنطن قد طلبت من إسرائيل اتخاذ هذا الموقف صراحة.
لماذا تخشى تل أبيب غضب موسكو؟
لم يكن من الصعب تفسير محاولات إسرائيل تفادي وقوع توتر شديد في علاقتها مع روسيا على الأقل منذ أن بدأت مفاوضات مكثفة بين إيران وما يعرف بدول مجموعة "5+1" حول صفقة رفع العقوبات الدولية عن إيران مقابل امتناعها عن البحث في الخيار النووي عام 2013 وذلك لعدة أسباب :
أولاً، الثقة التي كانت مفقودة بين إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ذلك الوقت (منتصف عام 2013)، وخشية إسرائيل من أن تقود واشنطن الدول الخمسة الشريكة معها في المفاوضات لتقديم تنازلات لإيران لا تضمن منعها بشكل نهائي من الحصول على البديل النووي، وبالتالي كانت إسرائيل تحاول كسب الموقف الروسي لجانبها لموازنة الشكوك في الموقف الأمريكي، على أمل أن تتبنى روسيا موقفاً متشدداً ضد إيران في المفاوضات، وربما لأجل ذلك امتنعت إسرائيل عن التصويت على القرار الذي تبنته الولايات المتحدة لإدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، وهو ما تسبب بالفعل في توتر في العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية.
وحتى رغم معارضة إسرائيل للاتفاق النووي، وشعورها بخيبة الأمل من التنازلات التي قدمتها الدول الست لإيران، إلا أنها حرصت على تطوير علاقتها بروسيا خوفاً من تزايد التعاون بينها وبين إيران خاصة في المجال النووي بعد تخلص الأخيرة من عزلتها الدولية وبعد رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
ثانياً، سبب آخر وربما أكثر أهمية يفسر حرص إسرائيل على عدم إغضاب موسكو، وهو تحول الأخيرة إلى دولة جوار لإسرائيل في أعقاب تدخل روسيا عسكرياً في الحرب الأهلية السورية في عام 2015، بإقامة القاعدة الجوية الروسية في حميميم التي تبعد 15 كيلو متر عن ميناء اللاذقية. وقد نشأت بمقتضى هذا الوضع تفاهمات بين الجانبين تعهدت روسيا من جانبها بأن لا تسمح لأى طرف (على الأخص إيران) باستخدام الأراضي السورية لشن هجمات عليها، في مقابل عدم إدانة إسرائيل للوجود الروسي في سوريا.
كما بدا واضحاً من خلال حجم الهجمات الجوية الإسرائيلية على مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا والتي بلغت 27 هجوماً خلال العام الماضي، أن روسيا تغمض عينها عن الهجمات الإسرائيلية ولا تحاول اعتراضها، بل كانت وما تزال هناك شكوك في أن روسيا تتلقى من إسرائيل تحذيراً مسبقاً بأنها ستهاجم مواقع محددة على الأراضي السورية بسبب وجود تحركات للحرس الثوري الإيراني ولحزب الله فيها. ولأن إسرائيل تريد الحفاظ على التفاهمات التي تجمعها مع روسيا في سوريا، فهى تخشى من أن تؤدي إدانتها الصريحة للغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تحرك روسيا نحو تقييد الأعمال العسكرية الإسرائيلية المستمرة ضد إيران وحزب الله في سوريا.
ويبدو أن مخاوف إسرائيل من تدهور علاقتها مع موسكو قد تحققت حتى قبل إدانة إسرائيل للغزو الروسي، فقد رفضت موسكو عرض إسرائيل بالتوسط بينها وبين أوكرانيا في الصراع، كما بدأت روسيا، في 24 يناير الماضي- فيما يبدو كرسالة تحذيرية لإسرائيل- في تسيير دوريات مشتركة جوية مع سلاح الجو السوري بالقرب من هضبة الجولان السورية التي ضمتها إسرائيل إليها، وقال البيان الصادر عن وزارة الدفاع الروسية أن "مسار الدورية المشتركة مع سلاح الجو السوري كان على طول الحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان من الشمال إلى الجنوب، وبعد ذلك حلقوا على طول جزء من الحدود مع الأردن ومن هناك إلى منطقة الفرات والشمال". وأضاف البيان أن "المقاتلات الروسية انطلقت من قاعدة حميميم والسورية ومن قاعدتى الضمير وسيكال"، وأن "الحديث يدور عن الدورية الأولى ولن تكون الأخيرة، ومن الآن فصاعداً ستتحول الرحلات المشتركة إلى دوريات منتظمة". أيضاً أعادت موسكو التأكيد علي موقفها السابق بأنها لا تعترف بالقرار الأمريكي الذي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب والذي يقر بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان.
بمعنى أكثر وضوحاً، ربما سيتضح مدى استعداد روسيا للدخول في مواجهة مع إسرائيل عقاباً لها على إدانتها لغزو أوكرانيا في المدى القصير، خاصة وأن مثل هذه المواجهة محتملة بشكل كبير في ظل استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني ولحزب الله في الأراضي السورية.
وقد أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في 15 فبراير الجاري، بأن إسرائيل رفضت طلب أوكرانيا بتزويدها بمنظومة "القُبة الحديدية"، المضادة للصواريخ، خشية على علاقتها مع روسيا. وقالت الصحيفة أن إسرائيل رفضت الطلب، الذي تقدمت به أوكرانيا بداية إلى الولايات المتحدة، ثم الى إسرائيل بشكل مباشر، "حتى لا تخاطر بخوض مواجهة مع روسيا"، وأضافت: "مثل هذه المعدات كان من الممكن أن تضع إسرائيل في حالة أزمة شديدة تجاه موسكو".
ثالثاً، ثمة أسباب أخرى، وإن كانت أقل أهمية، تدفع إسرائيل نحو الامتناع عن زيادة التوتر مع روسيا، فلا تزال إسرائيل تسعى لاستئناف مبيعاتها من التقنيات التكنولوجية المتطورة لروسيا والتي توقفت منذ عام 2015، وفي الوقت نفسه تناشد إسرائيل روسيا التعهد بحماية أمن الجالية الإسرائيلية والطائفة اليهودية في أوكرانيا والتي يبلغ عددها خمسة آلاف وأربعين ألف شخص على التوالي، وتخشى إسرائيل أن لا تبذل روسيا أية جهود لتوفير هذه الحماية، خاصة بعد إدانة تل أبيب لعمليتها العسكرية في أوكرانيا.
في النهاية، يجمع الخبراء الإسرائيليون في المؤسسات الأمنية على صعوبة التنبؤ بالسلوك الروسي عامة، وتوجهات الرئيس فيلاديمير بوتين بعد قراره بغزو أوكرانيا على نحو خاص، وبالتالي فإن على إسرائيل، حسب رأيهم، أن تتحسب لأزمة أكبر في علاقتها بروسيا في المدى القصير، خاصة وأنها لن تستطيع الوقوف على الحياد إذا ما قررت الولايات المتحدة زيادة العقوبات المفروضة على روسيا، والتي قد تصل إلى إخراج الأخيرة من النظام المالي الدولي كلية- رغم الإقرار بصعوبة ذلك- ومطالبة حلفائها بقطع التعاملات المالية والاقتصادية معها.
إن من شأن الانحياز الإسرائيلي الصريح للموقف الأمريكي والغربي أن يكلف إسرائيل مخاطر أمنية شديدة سواء على جبهة المواجهة المفتوحة مع إيران في سوريا ولبنان، أو حتى على حدود إسرائيل الجنوبية مع قطاع غزة، لا سيما إذا ما اختارت موسكو أن ترد على إسرائيل في هذه الجبهات.