• اخر تحديث : 2024-07-03 03:33
news-details
مقالات مترجمة

تسعى روسيا لتغيير قواعد اللعب في اوروبا، والنظام العالمي الذي تصمم بعد نهاية الحرب الباردة. فالهجوم الشامل على اوكرانيا لم يستهدف فقط تغيير الحكم الى "حكم دمى" روسي، بل جاء لينقل رسالة الى الغرب واساسا الى الولايات المتحدة، بان روسيا لن تتردد في استخدام القوة لحماية "حدودها الاستراتيجية" مع الاستعداد للخروج الى حرب هدفها بعيد المدى هو انهاء الهيمنة الامريكية العالمية وتثبيت نظام عالمي متعدد يعبر بإخلاص عن اهمية ومركزية روسيا.

أما الغرب بقيادة الولايات المتحدة فيتخذ سياسة ضغط شاملة هدفها صد العدوان الروسي، جباية ثمن اقتصادي باهظ منها وجعلها دولة "منبوذة" في الساحة الدولية. الولايات المتحدة التي تقود الائتلاف الغربي تعمل تحت حافة الحرب المباشرة مع روسيا، ولكنها تستخدم ادوات سياسية واقتصادية غير مسبوقة.

 الميزان المرحلي الاستراتيجي

دخل الرئيس بايدن الى الازمة وهو يواجه مصاعب عديدة من الداخل ومن الخارج – شعبية متدنية بين الجمهور، انتقاد متزايد في ضوء الوضع الاقتصادي، الانسحاب الفوضوي من افغانستان والاتفاق النووي المتحقق مع إيران، وفوق كل ذلك الضرر في صورة العظمة وقوة الردع الامريكية في العالم.

الفهم السائد في واشنطن هو أن الازمة في اوكرانيا ستؤثر بشكل مباشر على استمرار ولاية الرئيس بايدن، بقائه السياسي، ارثه كرئيس، وعلى مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية مهيمنة والسياسة الناشئة عن هذا الفهم.

لقد اوضحت واشنطن حتى قبل بدء المعارك بأنها لن تساعد اوكرانيا عسكريا، والتي ليس لها معها حلف دفاع عسكري وأنها لن تنجر الى معركة مع روسيا من شأنها ان تتدهور الى حرب عالمية ثانية. الى جانب ذلك، نجحت الولايات المتحدة في توحيد الناتو، في بلورة ائتلاف ناجع يضم الاتحاد الاوروبي، استراليا، نيوزيلندا، تايوان واليابان، وقيادة خطوات غير مسبوقة هدفها المس الشديد اقتصاديا بروسيا وعزلها في الساحة العالمية في ظل تصنيفها كقوة رجعية تقوض الاستقرار العالمي.

في هذه المرحلة يتركز الرد الغربي على العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة، تعزيز القوات العسكرية في اوروبا، اغلاق المجال الجوي، (ولاحقا البحري) الاوروبي امام الطائرات الروسية والمساعدة العسكرية لأوكرانيا، الى جانب معركة دبلوماسية اساسها التشهير ونزع الشرعية عن روسيا في الساحة الدولية، وقيادة خطوات شجب في مجلس الامن والجمعية العمومية للأمم المتحدة. الخطوات الغربية منسقة لتعظيم نجاعتها ومتدرجة بشكل يجسد لموسكو الثمن المستقبلي الذي ستدفعه.

الصين تنسق مع روسيا وتسعى لحل النظام العالمي الامريكي والدفع الى الامام باستراتيجية "الطريق والحزام" كوسيلة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي. ومع ذلك، لا يعني الامر ان الصين ستستغل الازمة، وتتحدى بشكل مباشر الولايات المتحدة والغرب من خلال تصعيد في ساحة اضافية. الاستراتيجية الصينية هي بعيدة المدى وتسعى الى ان تثبت بتدريج نفوذها العالمي. وهكذا، امتنعت الصين عن التصويت للشجب في مجلس الامن ضد روسيا بشكل اعتبر كنجاح للغرب في عزل موسكو، ومع ذلك، في حالة ابداء الولايات المتحدة ضعفا والسماح لموسكو بتحقيق اهدافها الاستراتيجية، فان بيجين لن تتردد اغلب الظن في استغلال ذلك والعمل على خطوات قوة من جانبها في بحر الصين الجنوبي.

صحيح حتى الان لم تفقد روسيا استقرارها المالي في ضوء ارصدة العملة الصعبة والذهب التي جمعتها (نحو 630 مليار دولار)، وتقدير الدولة المسبق لسيناريو العقوبات، بما في ذلك من خلال تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الصين. ومع ذلك، فان تأثير العقوبات بعيد المدى ونجاعتها ستفحص في ضوء قدرة الغرب على الابقاء عليها على مدى الزمن وتعظيم العزلة الاقتصادية الروسية بشكل ناجع.

سلاح "يوم الدين" المتعلق بقطع الاقتصاد الروسي عن منظومة التحويلات الدولية "سويفت" استخدم جزئيا من الولايات المتحدة، الاتحاد الاوروبي وبريطانيا والذين أعلنوا عن قطع بنوك معينة عن المنظومة، الى جانب تشديد القيود على البنك المركزي الروسي. وستصعد هذه الخطوة على موسكو استخدام ارصدة العملة الصعبة وادارة الصفقات الدولية، ستمس بقدرتها على الاستيراد والتصدير، ستقلل دوافع اللاعبين لعقد الصفقات مع روسيا وستضعف جوهريا مؤسساتها المالية. بالمقابل، ابدت روسيا منذ الان صمودا في وجه العقوبات وقدرة على تحويل الاموال عبر دول لا تشملها العقوبات.

البعد التاريخي: تعرض المعركة الروسية في اوكرانيا، في موسكو وفي كييف بتعابير تاريخية، والاستخدام المتكرر للرموز والتشبيهات من فترة الحرب العالمية الثانية على جانبي المتراس، يجسد اهمية اللحظة التاريخية وامكانيتها الكامنة لان تصبح نقطة انعطاف في ميزان القوى العالمي. روسيا ملتزمة بالمعركة العسكرية في اوكرانيا، والتي تعتبرها كمعركة على نمط الحياة الروسية، على صد النفوذ الغربي وعلى اقتراب الناتو من حدودها، وعلى رغبتها في استعادة مكانتها ومكانها المركزي في نظام عالمي متعدد الاقطاب. اما الولايات المتحدة والغرب فيديران معركة صد هدفها حصر الحرب في اوكرانيا، جباية ثمن باهظ من موسكو على اقتصادها ومكانتها العالمية وتثبيت ردع ناجع يمنع عن روسيا توسيع القتال الى ساحات اخرى. واشنطن على وعي للآثار التاريخية للخطوة الروسية على النظام العالمي، وكذا على ثمن فشل الغرب في المنافسة الاستراتيجية مع الصين.

 المعاني

ترى روسيا المعركة في اوكرانيا كمرحلة في استراتيجية بعيدة المدى للعودة الى مركز الساحة العالمية كقوة عظمى ومنصة لإظهار القوة العسكرية وتثبيت ردع ناجع امام الناتو والولايات المتحدة. ومع ذلك، من شأن الغزو الى اوكرانيا أن يصبح "نصرا اشبه بالهزيمة" بالنسبة لموسكو في المدى المتوسط – البعيد، في ضوء الاثمان الباهظة التي ستضطر لان تدفعها في الساحة السياسية، في الاقتصاد وفي الساحة الداخلية. تعليمات بوتين لقوات النووي الانتقال الى وضع تأهب عالٍ في ضوء "التصريحات الهجومية للناتو"، تشهد على الضغط الذي تعيشه موسكو في ضوء فاعلية الخطوات الغربية التي تجبي اثمانا غير مسبوقة.

ان القرار بخوض مفاوضات بدون شروط مسبقة بين اوكرانيا وروسيا على الحدود مع بلاروسيا، اتخذ على خلفية عدم نجاح روسيا في حسم المعركة بسرعة، رغم موازين القوى العسكرية التي تميل في صالحها بوضوح. ويعبر وجود المفاوضات عن انجاز لحكومة اوكرانيا التي تنجح حتى الان في الصمود في وجه الهجوم العسكري ولكنه لا يشهد بالضرورة على فرص نجاحها. في كل الاحوال، فان نصرا عسكريا روسيا في ميدان المعركة لن يؤدي الى انتصار استراتيجي بعيد المدى في ضوء المقاومة الشعبية واسعة النطاق للاحتلال الروسي، وغياب الشرعية الدولية.

تستهدف الاستراتيجية الغربية بقيادة الولايات المتحدة جباية ثمن باهظ من روسيا، يؤدي على مدى الزمن الى تحطيم اقتصادها وجعلها دولة "منبوذة" في الساحة الدولية، وتثبيت ردع عسكري ناجع في مناطق الناتو. يحاول الغرب الامتناع عن مواجهة عسكرية مباشرة، وعن التدهور الى حرب شاملة، ولكنه يفحص الحرب في اوكرانيا كجزء من المعركة الشاملة على النظام العالمي، ولهذا فلن يمتنع عن مواصلة ممارسة الضغط الشامل دون مستوى الحرب. في هذا السياق، تشكل الازمة في اوكرانيا اختبار زعامة للرئيس بايدن، والذي اجتازه حتى الان بنجاح.

اضافة الى ذلك، تطلب الولايات المتحدة من حلفائها في العالم "السير على الخط" مع سياسة العقاب والشجب. على مدى الزمن، فان قدرة الدول في الابقاء على الحيادية في المعركة المتصاعدة بين الغرب وروسيا ستكون صعبة وعليها ستكون اثمان ايضا. في وضع الامور هذا، فان امكانية توسيع حدود المعركة وسوء التقدير تتصاعد.

اسرائيل تحاول في هذه المرحلة "السير بين القطرات" في ضوء التهديد الذي تطرحه روسيا على حرية عمل اسرائيل في المعركة لصد التموضع الايراني في سوريا. ومع ذلك في ضوء الطلب الواضح الذي ستطرحه عليها الولايات المتحدة واوروبا سيتعين على اسرائيل أن "تسير على الخط" مع سياسة حليفتها الاستراتيجية، وان تعرض تأييدا كاملا لواشنطن في ضوء الاثمان التي قد يجرها الامر في المعركة ما بين الحروب وفي الساحة الاقليمية.

نتيجة فرعية اخرى للحرب في اوكرانيا هي تأخير محتمل لتحقق الاتفاق النووي في فيينا. فالمفاوضات التي توجد في مراحلها النهائية قبيل التوقع المتجدد للاتفاق من شأنها أن تتوقف بسبب عدم قدرة القوى العظمى على العمل معا لإنهائها. بالمقابل، سيناريو خطير لخطوة امريكية تستهدف "تنظيف الطاولة" والتوقيع على اتفاق نووي بسرعة وبشكل يسمح بالتركيز على روسيا، سيتحدى جدا المصلحة الامنية الاستراتيجية لإسرائيل. في هذه الوضع اسرائيل مطالبة بان تعزز التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وتستثمر في بناء قوة تعطيها قدرة عمل مباشرة حيال إيران في يوم الامر، الى جانب استمرار الاستثمار في صد التموضع الايراني في سوريا.

تبرز الحرب في اوكرانيا مرة اخرى اهمية القوة العسكرية والحاجة الى تثبيت تفوق عسكري في الحرب الحديثة. في حالة توقيع الاتفاق النووي سيكون لإسرائيل تمديد لعقد للاستعداد للمعركة مع إيران، الى جانب الحاجة الى صد فروعها الاقليمية. والجيش الاسرائيلي مطالب بان يطور استراتيجية تتيح له قدرة حسم التهديدات في الدائرة الاولى الى جانب الاستثمار في بناء قوة متخصصة وتعميق العلاقات الامنية والسياسية مع العالم العربي مما يتيح له قدرة عمل ناجعة في الدائرة الثالثة.

كما أن التوتر المتصاعد في قطاع غزة وفي الضفة قبيل رمضان، والاستفزازات المتصاعدة لحزب الله في الحدود الشمالية والمتمثلة الى ادخال مسيرات الى اراضي اسرائيل، ترفع احتمال التفجر في المنطقة. قد تطلب الولايات المتحدة من اسرائيل الهدوء الذي يسمح لها بالتركيز على روسيا والامتناع عن خطوات تصعيدية. اسرائيل ملزمة بان تأخذ بالحسبان السياق الاستراتيجي الواسع، انعدام قدرة واشنطن على تركز الاهتمام والمقدرات لساحات اخرى وان تقلص قدر الامكان قابلية التفجر في الشمال ومع الفلسطينيين.