اعتمد التغلغل القطري في تونس منذ الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي على مرتكز أساسي يتمثل في ضخ الأموال تحت مسميات عديدة حتى تبسط الدوحة نفوذها عبر الهيمنة تدريجيا على مؤسسات حيوية إما على ملك الدولة أو المصادرة أو شركات في القطاع الخاص، ليصل الأمر هذه المرة إلى الرياضة، مما يثير التساؤلات بشأن الدوافع الحقيقية من ذلك والتي يبدو أنها لا تخضع لحسابات المنطق بقدر ما تخضع لحسابات سياسية قوامها كسب النفوذ والتعاطف الشعبي.
لا تفوت قطر أي فرصة في كل مرة تواجه فيها ضغوطا مهما كانت أسبابها، للتأثير في المشهد الديمقراطي الوليد في تونس وتمكين تيار الإسلام السياسي ممثلا في حركة النهضة، من الاستمرار في الحكم، وهذه المرة عبر استغلال وضعية أحد أبرز أندية كرة القدم شعبية في البلاد لعقد صفقات رعاية، اعتبر متابعون أنها قد تشكل منعطفا لمآرب أخرى.
ومع أن قطر تمكنت طيلة السنوات العشر الأخيرة من ضخ مليارات الدولارات كاستثمارات أو بالاستحواذ على شركات تونسية تعمل في قطاعات حساسة مثل الاتصالات والمصارف والطاقة، وهذا سبب لطالما أثار السجالات السياسية، خاصة من قبل التيار الليبرالي، حول تركيز الدوحة على هذه المجالات بالذات، إلا أن أكثر إثارة للاهتمام هو توجيه قطر أنظارها إلى المجال الرياضي من بوابة النادي الأفريقي لكرة القدم المأزوم الذي يعد من أقدم أندية البلاد.
وقبل الغوص في تفاصيل التوجه الغريب بعض الشيء، لأنه لأول مرة يتم التركيز على الرياضة التونسية من قبل القطريين رغم وجود محاولة سابقة من مجموعة أوريدو للاتصالات لكن لم يكن لها أي تأثير يذكر على ما يبدو، لا بد من طرح عدة تساؤلات لفهم تلك الخطوة، التي قد تحمل الكثير من المخاطرة، وهي لماذا اختارت الدوحة هذا المجال في هذا التوقيت بالذات، وهل ستتمكن بهذا التغلغل من استكمال دعمها اللامشروط لتيار الإسلام السياسي؟
أبرز الاستثمارات
2020 الخطوط القطرية تبرم أول عقد رعاية مع ناد رياضي وهو الأفريقي
2019 مجموعة ماجدة تستحوذ على حصة الدولة في مصرف الزيتونة
2014 شركة أوريدو تستحوذ على تونيزيانا أول شركة خاصة للاتصالات
2011 شركة الديار القطرية تبني منتجع أنانتارا الصحراوي في ولاية توزر
مزيج من الدوافع
لم يكن مستغربا أن تقدم قطر، الدولة الصديقة للإخوان المسلمين والمدافعة عنهم منذ نشأتها، كافة أشكال الدعم لأصدقائها في تونس، فقد راهنت عليهم بقوة للسيطرة على كافة مفاصل الدولة لوأد الفترة السيئة، بالنسبة لها، قبل تفجر ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي”، ومن ثم تعزيز نفوذها وكسب التعاطف تحت يافطة النهوض بالاقتصاد.
ولئن كانت هذه التحركات ومنذ اليوم الأول بعد انتفاضة يناير 2011 تتلبس بغطاء استثماري في معظم الأحيان، بتعلة دعم المسار الديمقراطي الناشئ وضخ التمويلات في شرايين الاقتصاد، ولكنه، على النقيض، أظهر الاهتمام الأساسي لقطر وهو دعم الإسلاميين لتمكينهم من الحكم.
ويبدو هذا الأمر مفهوما، إذ أن اهتمام القطريين بتونس نابع من نقطتين أساسيتين، الأولى تتمثل في أن علاقة الدوحة لم تكن على ما يرام مع بن علي نظرا للميول الإخوانية لقادتها وأيضا بسبب قناة الجزيرة، التي شكلت صداعا مزمنا للنظام السابق دفعته إلى سحب السفير عدة مرات، وصولا إلى قطع العلاقات مرتين في عامي 2006 و2008.
أما الأمر الثاني، فهو نكاية في السعودية والإمارات، واللتان كانتا ترفضان أي تغيير في الخارطة السياسية في تونس، وهي معارضة ضمنية لمخطط الولايات المتحدة المتعلق بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، حيث كانتا تتمتعان بعلاقات أقوى نظرا لدعمهما لبن علي ولتطور شراكات الأعمال في ما بينها، وخاصة تلك التي جمعت مستثمرين إماراتيين مع أصهاره ومقربين من نظامه.
وخلال السنوات التي تلت سيطرة النهضة على السلطة، فضلت قطر أن تنفق مبالغ ضخمة جدا في تونس مع تقسيمها بين خزينة الدولة وخزائن الأحزاب والجمعيات والشخصيات المقربة منها، وينطلق هذا الاختيار من رغبتها في تسويق نفسها كدولة صديقة وراعية لانتقالها الديمقراطي، وفي الوقت ذاته تقوية حركة النهضة ومساعدتها على شراء السلم الاجتماعي.
صفقات مريبة
في خطوة فاجأت الشارع الرياضي التونسي نشر عبد السلام اليونسي رئيس النادي الأفريقي منتصف أغسطس الماضي، مقطع فيديو على حسابه في فيسبوك يعلن فيه عن إبرام “أكبر عقد رعاية في تاريخ النادي” مع الخطوط الجوية القطرية، بعد مفاوضات انطلقت قبل أشهر كان طرفاها وديع الجريء رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم (اتحاد اللعبة)، ونظيره القطري الشيخ حمد بن خليفة بن أحمد آل ثاني.
ولم يخف اليونسي سعادته بهذه الصفقة نظرا لأن الأفريقي يعاني من مشاكل مادية كبيرة خلفها رجل الأعمال والسياسي سليم الرياحي بعد استقالته من رئاسة النادي ثم انتقاله إلى فرنسا لأسباب لا تزال تثير الجدل حتى اليوم. وقد قال اليونسي آنذاك إنها “بادرة أولى للخروج من هذا المأزق وأن الصفقة بعيدة كل البعد عن منطق الحسابات السياسية”.
ورغم أن قيمة العقد ليست كبيرة بمقاييس رعاية الشركات للأندية الرياضية الشهيرة إذ لا تتجاوز 8 ملايين دولار، لكن نشطاء وعددا كبيرا من جمهور النادي حذروا من التسلل القطري وتوجسوا من أهدافه الحقيقية خاصة وأن الخطوط القطرية سبق وأن دار الحديث حول فشلها في الحصول على امتياز يُمكنها من شراء أسهم في الخطوط الجوية التونسية الحكومية.
ولم تتطرق وسائل الإعلام المحلية باستفاضة لأبعاد هذا الاستثمار، وتم حصره فقط في كونه رياضيا ومعمولا به في العالم، لكن من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة محاولات أعمق لفهم طبيعة وخفايا نهم القطريين المفاجئ على الرياضة التونسية لاسيما وأن نفس النادي سيبرم صفقة رعاية أخرى خلال أسابيع مع البنك الوطني القطري بقيمة تقدر بنحو 6 ملايين دولار.
وفي محاولة لفهم هذا المنحى، قالت مصادر سياسية وأخرى رياضية تونسية في تصريحات متفرقة لـ”العرب”، إن القطريين يستغلون كعادتهم الأزمات المادية التي تعيشها الكثير من القطاعات المتعثرة والمفلسة في تونس، حيث وجدوها فرصة سانحة للاستثمار في السياسة عن طريق كرة القدم، ومن خلال أحد أقطاب اللعبة الأشهر في البلاد.
ولإثبات تلك التبريرات قالوا إن النادي الأفريقي أصلا معاقب من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وأنه غير مخول له الدخول في مشاركات قارية، ويفترض أن تبحث أي شركة راعية بالأساس إلى الربح المادي من وراء صفقاتها مع الأندية، وفي حالة الخطوط القطرية يبدو الدافع سياسيا أكثر منه رياضي.
ووسط ذلك الجدل، ربما تكون الدوحة في مهمة للبحث عن منفذ جديد لا يضعها في مأزق حركة النهضة المراقبة من طرف طيف واسع من التونسيين، فالاستثمار والمساعدات هي وسيلة الضغط والتأثير الأولى بالنسبة لها لكن كيفية استعمال هذه الوسيلة هي المحدد لهذه البوصلة.
وتأتي هذه الشكوك استنادا على معطيات ووقائع قديمة، فقد سبق وأن تعرضت الدوحة، التي تلاحقها شبهات فساد بشأن استضافة مونديال كرة القدم 2022، فضلا عن هضم حقوق العمال الأجانب في المنشآت التي تشيدها، لرفض واسع من قبل جمهور نادي باريس سان جيرمان الفرنسي الذي اشتراه جهاز قطر للاستثمار في 2011.
منتجع سياحي جنوب تونس بتمويل قطري
قد تكون هذه الشراكة الرياضية مدخلا لأشياء أخرى تمهد لعقد صفقات جديدة، لأنه لأول مرة تهتم شركات قطرية برعاية ناد تونسي. وقد ربط البعض ذلك بما حصل مع خليفة كايد المهندي رجل الاستخبارات المقرب من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، والذي يتقمص شخصية رجل أعمال، حيث قام بعمليات تحويل أموال مشبوهة لجماعات إرهابية في ليبيا من تونس تحت غطاء المساعدات.
وحتى تتمكن من إبعاد كافة الشبهات عن تمويلاتها، تعمل قطر على تضليل الرأي العام عبر زرع أخطبوط من الشخصيات تستخدمها في الواجهة. ولعل من أبرز تلك الأسماء الباكستاني فيكتور نظيم آغا، وهو يحمل الجنسية القطرية، ويتنقل بجواز سفر دبلوماسي، ويعمل في تونس تحت غطاء شركة سياحية اسمها “لا سيغال”.
وكل الدلائل تشير إلى كون نظيم آغا هو مهندس صفقة استحواذ مجموعة ماجدة المملوكة للشيخة موزة على حصة الدولة التونسية في مصرف الزيتونة المُصادر، والذي كان يملكه صخر الماطري صهر بن علي، حيث باعت مجموعة الكرامة القابضة التونسية في فبراير 2019 أسهم الدولة في المصرف وكذلك شركة التأمين “الزيتونة تكافل” للمجموعة القطرية بنحو 132 مليون دولار فقط.
وربما يكون رجل الأعمال الباكستاني – القطري المقرب من نظام الدوحة عراب صفقة شراء أسهم الدولة في شركة إسمنت قرطاج، التي أنشئت في عام 2008 وكان يملكها بلحسن الطرابلسي صهر بن علي، باعتبار وأنه يشغل منصب المدير العام لهذا الكيان المصادر، وهو بعد إضافي للتأكيد على أن هناك منهجية في السيطرة على الشركات الحيوية والمحققة للعوائد.
قطر أنفقت مبالغ ضخمة لتسويق نفسها كدولة راعية للانتقال الديمقراطي ومساعدة النهضة على شراء السلم الاجتماعي
وبدأت عمليات شراء قطر لمساهمات الدولة التونسية في شركات حكومية منذ سيطرة الإسلاميين المدعومين منها ومن تركيا على مقاليد السلطة. وحتى اليوم تسعى الدولة الخليجية الطامحة للخروج بأخفّ الأضرار من أزمتها الاقتصادية، فتح كافة الأبواب الاستثمارية لجني الأرباح عبر استغلال الفرص المتاحة أمامها نتيجة ضعف اقتصاد تونس المحتاج إلى الدعم.
وأولى تلك العمليات انطلقت في أواخر عام 2011 من خلال شراء أرض عقارية تقع في مدينة توزر جنوب البلاد تمسح 40 هكتارا بمبلغ مليوني دولار لبناء منتجع أنانتارا الصحراوي والبالغة تكلفته نحو 47.2 مليون دولار، وتم تدشينه في ديسمبر الماضي، بعد تأخر دام لأشهر قالت شركة الديار القطرية، الجهة المنفذة للمشروع، إنه لأسباب فنية.
وأكثر الصفقات إثارة للتساؤل حتى الآن هي صفقة استحواذ مجموعة أوريدو القطرية في عام 2014 على شركة تونيزيانا، التي أسستها مناصفة كل من مجموعة أوراسكوم تيلكيوم المصرية والشركة الوطنية للاتصالات الكويتية في عام 2002، وهي أول كيان خاص يعمل في مجال الاتصالات بتونس.
الرهان على قطاع الاتصالات
وكانت نبراس القطرية للطاقة قد استحوذت في أبريل 2018 على 60 في المئة من شركة قرطاج التونسية المملوكة للدولة، التي تملك إحدى محطات توليد الكهرباء في العاصمة. وقالت الشركة في بيان حينها إن شركة هولندية مملوكة لها بالكامل، لم تذكر اسمها، استكملت عملية الاستحواذ على الحصة في الشركة التونسية، دون الكشف عن قيمة الصفقة.
وقد اعتبرت نبراس، وهي كيان مشترك بين شركة الكهرباء والماء القطرية وقطر القابضة المملوكتان للحكومة، إن عملية الاستحواذ تعتبر علامة لدخول الشركة سوق الطاقة التونسية للمنافسة فيها وبداية لتأسيس وجودها الأول في شمال أفريقيا، ما يعني أن الدوحة تخطط للسيطرة على مكامن أنشطة الطاقة في بلد يعاني من أزمة في الأمن الطاقي.
وأثناء تدشين المنطقة الحرة ببن قردان يوم 7 مارس 2019، قال مصدر في وزارة التجارة لـ"العرب" حينها، رفض الكشف عنه هويته لحساسية الموقف، إن مسؤولي النهضة يمارسون ضغوطا لتحويل شركة الكهرباء الحكومية إلى شركتين لتمهّد الطريق أمام سيطرة الدوحة على الكيان الذي سيتكفل بإنتاج الطاقة والاستثمار، بينما يبقى الكيان الثاني المخصص للاشتراكات والتزويد مملوكا للدولة.