الحرب الروسية - الأوكرانية التي اندلعت منذ أسبوعين، تضع العالم ونظامه الدولي المعروف حتى الآن، على المستويات السياسية والاقتصادية، وأنظمته المالية ومؤسساته الرقمية؛ أمام انعطافه كبيرة ربما بمستويات استراتيجية، فالنظام العالمي بكل مركباته الذي عرفناه قبل الحرب من المُرجح أنه سيكون مختلفًا بعد الحرب، سواء ربحت روسيا الحرب أم خسرتها، والربح والخسارة هنا ينطوي على مفهوم نسبي تقريبي، أي إن الحرب تخلق تحديات دولية عامة تتشاركها جميع الدول تقريبًا، ولكن ثمة تحديات وفرص خاصة بكل دولة تحددها مكانتها الجيوسياسية وقدراتها وإمكانياتها، وما تمثله في محيطها ومكانتها الدولية.
منذ بداية الأزمة، اعتبرت إسرائيل أن الانزلاق إلى حرب واسعة يُشكّل بالنسبة لها تحدياتٍ كبيرة، كما ينطوي على فرص مهمّة، واعتبر التحدي الأهم بالنسبة لها هو اضطرارها لاتخاذ موقف تمامًا خلف حلف الناتو وأمريكا وخلف حليفتها أوكرانيا، سواء في الخطاب السياسي وشدته أو في الانضمام للعقوبات الاقتصادية، لا سيما وأن أوكرانيا تعتبر حليفة قوية لإسرائيل، فرئيسها زيلينسكي أيّد إسرائيل بقوة أثناء عدوانها الأخير على غزة، واعتبر أن مأساة الحرب الوحيدة التي يراها هي ما يعانيه الإسرائيليون.
أوكرانيا تطلعت منذ البداية لموقف إسرائيلي مؤيد ومساند لها إلى أبعد الحدود، لكن إسرائيل اختارت مصالحها، ولم ترَ في الحرب سوى الفرص التي توفرها لها، فاختارت أن تحافظ على مكانتها لدى جميع الأطراف، مكانة مرحب بها لدى الروس، وكذلك تحظى بقبول لدى أوكرانيا والغرب، وهو أمر تميزت بهِ إسرائيل، وبدرجة أقل تركيا. السياسة الإسرائيلية التصالحية مع طرفيْ الحرب نجحت حتى الآن، برغم ما يُقال عن ضغوط أمريكية وأوكرانية وغربية، بحكم ما يمنحه النظام الغربي لإسرائيل من مكانة، فهي لا زالت المدلل الذي يجلس على الحجر، والأهم بالنسبة للغرب إبقاء إسرائيل بعيدة عن أيّ ضرر، وهو أمر له أسباب كثيره لسنا بمعرض تناولها.
سعت إسرائيل لأن تتفرد بمكانة وسيط مفوض غربيًا، وسيط يقوم بزيارات ومكالمات يومية، مما ساعدها وشرع لها التهرب من اتخاذ مواقف لصالح طرف ما، فالوساطة تقتضي عدم إغضاب أيّ طرف، وساطة وضعتها في مكانة أكبر وأرفع من مكانتها، وكأنها لاعب دولي مهم، والوقاحة أنها الدولة الأكثر انتهاكًا وتعديًا على المواثيق والقوانين الدولية، والدولة الأكثر إدانة لمواقفها في المحافل الدولية، بسبب احتلالها وعدوانيتها، لكنها تسمح لنفسها والعالم يسمح لها بلعب دور الوسيط!
التحدي والهاجس الأكبر بالنسبة لإسرائيل في أزمة روسيا - أوكرانيا تمثل في المحافظة على مستوى التنسيق والعلاقة مع روسيا وجيشها في سوريا، والمحافظة على ألا تتخذ روسيا مواقف تضر بأمن إسرائيل ومصالحها في سوريا، مثل السماح بحرية القصف أو استمرار روسيا بمنع تعزيز التواجد الإيراني في سوريا أو بالقرب من القنيطرة، وقد نجحت إسرائيل حتى الآن بالمحافظة على هذه المعادلة، وعلى هذا المستوى من التنسيق والتفاهم.
التحدي الثاني كان في المخاوف الإسرائيلية من تأثير الحرب على الملف النووي الإيراني، والحقيقة أن الحرب عطّلت من تقدم الحوار في الملف النووي الذي كان قد اقترب كثيرًا من لحظة توقيعه، وذلك بفعل المطالب الروسية بضمانات بإعفاء الصادرات الروسية لإيران من نظام العقوبات، وهو أمر رفضته أمريكا وتتحفظ إيران منه، وتشكو الدول المشاركة بالمفاوضات من أنه يتسبب في تعطيل الحوار، حتى إن أمريكا أمهلت روسيا أسبوعًا لسحب مطالبها، وإلا فإنها ستتوجه لعقد اتفاق آخر مع إيران، وبذلك فإن الغرب وما فرضه من عقوبات ساعد في تأخير التوقيع على الاتفاق، والحقيقة أن هذا التحدي الذي كان يتداوله الإعلام الإسرائيلي هو تحدٍ دعائي إعلامي، لأن أحدًا في إسرائيل لا يجزم قطعًا بـ "ما الذي تريده إسرائيل؟".
التحدي الثالث بالنسبة لإسرائيل الذي وُلد أثناء الحرب وارتبط بتداعياتها هو الخوف من أن الزخم الدولي الرسمي والشعبي الإعلامي والسياسي والثقافي والقيمي والاجتماعي والقضائي والاقتصادي ضد العدوان وضد الاحتلال وضد القتل والتهجير لا يكون باتجاه واحد ولمرة واحدة؛ بل يصبح جزءًا من ثقافة وتقليد، وأن ما كان يغض العالم عينه عنه من احتلال إسرائيلي وانتهاك للقانون الدولي، لا يعود بوسع العالم الاستمرار بغض النظر، وأن يضطر العالم للنظر - ولو على استحياء - للمعاناة الفلسطينية، ففي إسرائيل يخشون من أن يستطيع الفلسطينيون والعرب وأصدقائهم إحراج المنظومات الدولية واضطرارها للنظر - ولو بطرف عين واحدة - للقضية الفلسطينية، ويكفي فقط أن تسأل قناة الجزيرة ضيوفها السياسيين الكبار عن رأيهم في فرض بعض العقوبات على إسرائيل بسبب انتهاكها للقانون الدولي، لتحريك مياه هذا الملف.
الفرص
إسرائيل، وبحكم ما تمتلكه من نفوذ وعلاقات وقدرات ومعلومات، كانت دومًا قادرة على اقتناص فرصها ورؤية الفرص الكامنة في التحديات، ولها تجارب كثيرة في هذا المجال، وهي اليوم لا ترى في كل ما يقع من معاناة للأوكرانيين وتهجير وتدمير سوى الفرصة الذهبية في هجرة قرابة مائتي ألف يهودي أوكراني. وبحسب وزارة الهجرة الإسرائيلية، تستعد لاستقبال قرابة 200 ألف يهودي أوكراني إليها، غالبيتهم كانوا يرفضون الهجرة إلى إسرائيل، لكنها تبدو سعيدة بمعاناتهم وباضطرارهم للهجرة، وهم في نظر إسرائيل رأسمال مهم يعادل عشرات المليارات بالمستقبل القريب؛ لكنها وهي تفتح ذراعيها لليهود الأوكرانيين، تقفل بواباتها أمام اللاجئين الأوكرانيين من غير اليهود، وعندما تمنح بعضهم تأشيرات فهي تأشيرات عمل أو سياحة، وتطالب بضمانات مالية لكل شخص.
كما تستعد إسرائيل لأن تكون جزءًا من المستفيدين من احتياجات أوروبا، التي تبحث عن أسواق غاز بديلة للسوق الروسي في أعقاب الحرب؛ الأمر الذي يعزز شراكة شرق المتوسط الخاصة بالتعاون في مجال الغاز، والتي تضم إسرائيل ومصر وقبرص واليونان، وهو أمر أثر بشكل غير مباشر على مساعي تركيا لتدفئة العلاقة مع إسرائيل.
الحرب وتداعياتها، وارتباطًا بنتائجها غير المعروفة حتى الآن، تستعد لها إسرائيل وتحاول استثمارها وتوظيفها لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، وهي تعتمد في ذلك ليس على ذكاء قادتها وحنكتهم السياسية أو مكانتهم الدولية؛ بل اعتمادًا على النفوذ الصهيوني، ونفوذ إسرائيل داخل أمريكا، فضلًا عمّا تمتلكه من قدرات وإمكانيات.