• اخر تحديث : 2025-12-09 16:16
news-details
قراءات

استراتيجية ترامب للأمن القومى.. إعادة ترتيب الأولويات لأمريكا وللعالم معاً


في الرابع من ديسمبر 2025، أصدرت الولايات المتحدة وثيقة "الأمن القومى الأمريكى 2025"، عملاً بتقليد تاريخى يجعل من إصدار تلك الوثيقة في عهد كل إدارة جديدة بمثابة نافذة مُشرعة يمكن من خلالها أن ينظر العالم بأسره إلى ما في داخل هذه الحجرة. لفظ الحجرة هنا يعنى الرؤية التي يؤمن بها سيد البيت الأبيض، وبعض الأساليب التي سيتم التركيز عليها لتحقيق تلك الرؤية عملياً. ولما كانت الولايات المتحدة تنظر للعالم كله، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، باعتباره الساحة الرئيسية لدورها القيادى عالمياً، والساحة التي تحتضن كل مصالحها العليا سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً وتكنولوجياً، ومن ثم لا يجوز ولا يجب أن تتجاهل أمريكا العظمى ما يحدث في هذا العالم، سواء ما يصب في مصلحتها وتعزيز هيمنتها، أو ما يتعلق بطموحات قوى أخرى تسعى لتناطح الدور الأمريكى، يجب محاصرتها، حتى لو كانت منافساً اقتصادياً كالصين الطموحة.
 
تقليد إصدار الاستراتيجيات مهم ليس فقط للولايات المتحدة، بل لكل المنظومة الدولية، دولاً ومؤسسات ومنظمات وحتى الجماعات العابرة للدول، والساعية لكى تكون لها بصمة في طريقة إدارة شئون العالم. فالنظر إلى تلك الوثيقة يُمكّن للدولة والإقليم والمنظمة الدولية أن تعرف عن طريق الاستنتاج العقلى المرتب، ما الذى تسعى إليه الولايات المتحدة، وهل يشكل فرصة لها أم معاناة بشكل ما؟. وكل من الفرصة والمعاناة تدفعان إلى تنظيم رد الفعل، إن أدُرك المغزى والهدف والسبيل الذى انطوت عليه تلك الوثيقة.
 

طبعة "ترامبية" لمبدأ مونرو
الاستراتيجية الجديدة مُحملة بأفكار الرئيس ترامب في العديد من القضايا، كالهجرة وأمن الحدود التي اعتبرت أولوية قصوى لمنع غزو الهجرة المشروعة وغير المشروعة، وكذلك المفاوضات الاقتصادية وتسوية النزاعات والتحالفات مع الأصدقاء المقربين، ومصادر التهديد والتنافس وكذلك الفرص الواعدة عالمياً وإقليمياً التي يعتقد فيها صانع القرار في البيت الأبيض.

فحين يتحول مركز الاهتمام الأمريكى إلى غرب الكرة الأرضية، فعلى أهل أمريكا اللاتينية أن ينتظروا مبادرات أمريكية قد لا تخطر على بالهم، فهى الساحة التي يستهدف الرئيس ترامب إخلائها من أى منافس خارجى، لاسيما الصين وروسيا وربما إيران، تماماً كما كان الحال قبل قرنين، حين صدر مبدأ مونرو 1823، والقاضي بإبعاد التدخلات الأوربية عن أمريكا اللاتينية، مقابل عدم التدخل الأمريكي في الشئون الاوربية حتى لو تحارب الأوروبيون بعضهم البعض. وهى أيضاً الساحة التي يجب ألا يصدر منها أى تهديد للمصالح الأمريكية، كانتشار المخدرات وغسيل الأموال، وأى مجموعات مسلحة تسعى إلى زعزعة الاستقرار في الداخل الأمريكي، أو لديها تشريعات تقيد دخول الشركات الأمريكية أسواق تلك الدول.

في المقابل، وبالرغم من إعادة تموضع القوات الأمريكية عبر بحار العالم المختلفة وممراته التجارية المهمة، سيظل هناك دور أمريكى في شرق آسيا ومنطقة المحيطيْن الهندى والباسيفكى، بغرض تنظيم كل ما يتعلق بتقييد النفوذ الصينى بأشكاله المختلفة من تحالفات وشراكات أمنية واقتصادية، جنباً إلى جنب مع تحفيز شركاء من المنطقة ككوريا الجنوبية واليابان على القيام بأدوار أمنية مباشرة لتأييد تايوان، والحد من طموح بكين لاستعادة الجزيرة للوطن الأم.

مأزق الحلفاء التاريخيين
 أما الحلفاء التاريخيين، ممثلين في أوربا، فعليهم أن يدركوا حقيقة ومستقبل العلاقة مع القوة العظمى الأولى والوحيدة في العالم، كما عليهم أن يدركوا حقيقة وضعهم المتراجع، والذى فصلته الوثيقة في مجالات حماية حرية الرأي (هى إشارة للقيود التي تحول دون سطوة التيارات اليمينية والشعبوية على السياسات الأوروبية)، ومناهضة الشركات الأمريكية، وانخفاض السكان، والانفتاح على هجرة موسعة قد تنهى الحضارة الأوروبية في غضون عقدين، حسب الوثيقة، كما على أوروبا أن تعتمد على نفسها أكثر في حماية أمنها، وألا تقع تحت سيطرة قوة خارجية، والمهم أن تنسى إلى الأبد مسألة توسيع الناتو، الذى بات من الماضى، وفقاً للوثيقة.

هذه العناصر هي بمثابة رسائل قوية للتجمع الأوروبى بأن يعيد ترتيب أولوياته على النحو الذى يخفف من الاعتماد على القوة الأمريكية لحماية أنفسهم، وأن يفتحوا الأبواب مشرعة أمام الشركات الامريكية، وأن يراجعوا تشريعاتهم الجماعية بخصوص شركات المعلومات الأمريكية الكبرى، وإفساح المجال أمام توغلها في عمق اقتصاداتهم. إجمالاً، على أوروبا أن تواجه صدمة أنها لم تعد شريكاً حقيقياً للولايات المتحدة، وأنها بحاجة إلى الاعتماد على الذات أكثر من أى وقت مضى. التخوفات التي عبر عنها الرئيس الفرنسي ماكرون حول التحسب من ابتعاد واشنطن عن أوروبا، لم تعد مجرد تخوفات، بل إنذار مقلق.

انسحاب من الشرق الأوسط .. ولكن
منطقتنا الشرق أوسطية نالت بدورها نصيباً مهماً من إعادة ترتيب الأولويات وفقاً لرؤية ترامب، فعلى مدى نصف قرن على الأقل، شكّلت منطقة الشرق الأوسط أولوية مطلقة في السياسة الخارجية الأمريكية، ولكنها لم تعد كذلك في الوقت الراهن. عدة أسباب أوردتها الوثيقة لتفسير التخفف الأمريكى من أعباء الشرق الأوسط، أولها أن المنطقة لم تعد المورد الأساسى للطاقة، فالولايات المتحدة أصبحت مُصدراً للنفط، ولديها سياسات طاقة جديدة نووية وتقليدية ستؤمن لها احتياجاتها ذاتياً، وليس من الشرق الأوسط كما كان سابقاً. بمعنى أكثر وضوحاً، فإن عامل النفط لم يعد يشكل أهمية لدى واشنطن، مع الأخذ في الاعتبار احتياجات الحلفاء من نفط وغاز الإقليم.

ثانياً، إن الشرق الأوسط لم يعد ساحة لصراع بين القوى العظمى، ربما يكون حالياً محل تنافس بين قوى كبرى أو متوسطة، وهو مستوى أقل من أن يهدد موقع الولايات المتحدة الأكثر تفوقاً في المنطقة، والذى بات مدعوماً حسب الوثيقة بجهود "الرئيس ترامب في إعادة إحياء التحالفات الأمريكية في الخليج ومع الشركاء العرب وإسرائيل".

وثالثاً، "إن المنطقة كانت بؤرة صراعات تهدد بالامتداد إلى بقية دول العالم وحتى إلى الأراضي الأمريكية"، وهنا تشير الاستراتيجية إلى وجود نزاع ولكنه بات أقل مما يوحى به المشهد الإعلامى، والفضل وفقاً للوثيقة لحالة الضعف التي باتت عليها إيران كمصدر لزعزعة الاستقرار في الإقليم، وهو ضعف شديد حدث بفعل "العمليات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، وبفعل عملية مطرقة منتصف الليل، الأمريكية في يونيو 2025، التي أدت إلى تراجع كبير في برنامجها النووي".

لكن الصراع العربى-الإسرائيلي وهو أصل النزاع والتوتر في الإقليم، لم يأخذ حظه في التحليل، إذ اعتبرته الوثيقة "يظل معقداً"، فتحرير الرهائن ووقف إطلاق النار فى غزة وتحرير الرهائن الذي تفاوض عليه ترامب ساهم في فتح باب نحو تهدئة أطول أمداً، كما "تراجع داعمو حماس وأعادوا حساباتهم". وتظل سوريا "مصدر قلق محتملاً، لكنها قد تستعيد استقرارها ودورها الطبيعي بدعم أمريكي–عربي–إسرائيلي–تركي".

ووفقاً لما سبق، لم تعد أولوية حل تاريخى للقضية الفلسطينية أمراً جوهرياً لدى إدارة الرئيس ترامب، فقد تستمر عملية إدارة الصراع وفق مستوى أقل صخباً، وأكثر هدوءاً، دون أن يعنى ذلك خطوة نحو تسوية كبرى لهذا الملف الحيوى لدول الإقليم وشعوبها، والذى سيظل فارضاً نفسه على حالة الاستقرار وخيارات الحرب والسلام لدى العديد من قوى الإقليم، حتى ولو لم تعلو أصواتهم في المرحلة الراهنة.

بُعدان مهمان
في سياق مستقبل العلاقة الأمريكية مع الإقليم، تشير الوثيقة إلى بُعدين مهمين؛ الأول تخلى الولايات المتحدة، أو بالأحرى إدارة ترامب عن مبدأ تغيير النظم القائمة في الإقليم بالقوة أو من خلال الضغوط المكثفة، وإقرار حق الدول في أن يكون لها الحرية في إقامة نظمها الخاصة في الحكم. ما يهم واشنطن هو استقرار تلك الدول واستمرار تعاونها. ووفقاً للوثيقة "فإن دول المنطقة تظهر التزاماً أكبر بمكافحة التطرّف، وهو منحى يجب على السياسة الأمريكية دعمه، والتخلي عن النهج الذي حاول دفع هذه الدول إلى تغيير تقاليدها وهياكلها السياسية. فالإصلاح يجب أن يُشجَّع عندما ينشأ من الداخل، لا أن يُفرض من الخارج". إذ أن "جوهر العلاقة الناجحة مع الشرق الأوسط، يكمن في التعامل مع دوله وقادته كما هم، والعمل معهم في مجالات المصالح المشتركة".

ما يلفت النظر هنا أن الولايات المتحدة تخلت عن ضغوط التغيير القسرى للنظم الحاكمة، كما كان الوضع في زمن إدارات عديدة سابقة، ولكن إدارة ترامب تشجع الإصلاحات الذاتية دون ضغوط، وفى كل الأحوال، فإن الأولوية لواشنطن هي تحقيق المصالح المشتركة، والتي أشارت إليها الوثيقة في الاستثمار والنمو والشراكات في مجالات الذكاء الاصطناعى والتعاون الدفاعى.
وبالرغم من إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في الشرق الأوسط، فقد أكدت الوثيقة استمرار مصالح أساسية للولايات المتحدة في "موارد الطاقة، وفي بقاء مضيق هرمز مفتوحاً، والبحر الأحمر آمناً للملاحة، ومنع المنطقة من أن تصبح حاضنة للإرهاب الذي قد يهدد مصالح واشنطن أو أمنها الداخلي، إضافة إلى ضمان أمن إسرائيل"، مع الإشارة إلى أنه يمكن "تحقيق ذلك، فكرياً وعسكرياً، من دون الوقوع مجدداً في مستنقع حروب بناء الدول، التي أثبتت إخفاقها لعقود". كما أن "توسيع اتفاقيات أبراهام، لتشمل دولاً جديدة في المنطقة والعالم الإسلامي، يظل مصلحة أمريكية مهمة" وفقاً للوثيقة.

خاتمة
الاستراتيجية الجديدة للأمن القومى الأمريكى تدعو إلى إعادة تموضع الولايات المتحدة في الشئون العالمية، وفى الوقت نفسه تُحمِّل العالم مسئولية إعادة التكيف مع تلك الاستراتيجية الجديدة، ومسئولية الحفاظ على المصالح المشتركة التي يعدها الرئيس ترامب الأساس الذى سيجعل الولايات المتحدة محتفظة بتفوقها الأكبر لسنوات طويلة، مهما استطاعت قوى كبرى أو متوسطة أن تنافس الولايات المتحدة في أحد المجالات، أو في أحد الأقاليم.

إجمالاً، هناك جديد في السياسة الأمريكية لما بقى من زمن للرئيس ترامب كسيد للبيت الأبيض، يحمل فرصاً للبعض وخصماً للبعض الآخر. والمهم أن يدرك كل طرف الأعباء المقبلة ويستعد لمواقف جديدة.