مقدمة
"إن العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو ليست كافية"، هذا ما يقوله ويكرره الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أغلب خطاباته التي يسجلها ويبثها يومياً من كييف إلى العالم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، منذ بداية الحملة العسكرية الروسية على بلاده في 24 فبراير 2022، يطالب زيلينسكي دول الناتو والاتحاد الأوروبي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بتوسيع رقعة المواجهة ضد روسيا، وبالفعل هذه الدول اختارت الدخول في مواجهة واسعة مع روسيا، فكان زيلينسكي واجهتها الإعلامية، وأوكرانيا ساحتها العسكرية، والكرة الأرضية ملعبها الجيواستراتيجي.
اتفقت واشنطن وشركاؤها على محاصرة روسيا بإجراءات غير مسبوقة، ظاهرها عقوبات مشددة، وباطنها الحرب غير المباشرة، ناعمة أو مستترة أو بالنيابة، لكنها الحرب العالمية المؤجلة التي تدور حول (قلب العالم) ذلك المقطع المكاني الذي حدده عالم الجيوبولتيك الإنكليزي هالفورد ماكندر بنظرية استلهم روحها المنظّر الاستراتيجي الروسي الشهير ألكسندر دوغين، لتتحول إلى مشهد صدامي يجبر سكان الأرض من مشرقها إلى مغربها على حبس أنفاسهم، ليعود بالعالم إلى ذكريات الحرب الباردة ونقاطها الأشد سخونة، وبالخصوص أيام أزمة الصواريخ الكوبية، وسنوات الغرق السوفييتي في المستنقع الأفغاني الذي خرجت منه موسكو بفاتورة ثقيلة انتهت بالتفكك والانهيار.
فهل تنجح الولايات المتحدة وشركاؤها بتكرار ما فعلته مع الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قبل نحو ثلاثة عقود؟ وها هي تحارب موسكو بسلاح العقوبات التي تهدف بالنهاية إلى استنزاف أركان القوة الروسية الصاعدة وتقويضها، وإيقاف توهج وبريق فلاديمير بوتين الزعيم الذي استلهم إحياء نظرية “قلب العالم” من أوراسية دوغين، وأخذ يسعى بقوة للحفاظ على وحدة روسيا، واستعادة مكانتها كقوة عظمى على المسرح العالمي، وما مدى نجاح سلاح العقوبات في الحد من الطموحات الجيواستراتيجية لروسيا؟ وهل تتمكن الدول الغربية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي والناتو إضافة إلى كندا وأستراليا من النجاح في مواجهة روسيا بسلاح العقوبات وتكرار مشهد تفكك الاتحاد السوفييتي؟ أم إن عقوباتها ستحقق هدفها الاقتصادي دون أن يكون لها تأثير سياسي أو أمني؟ هذه التساؤلات كلها وغيرها، هو ما تحاول الدراسة الإجابة عليه.
أولاً، الأمن والطاقة: ركائز الحلم الروسي
من يتتبع خطوات بوتين يرى أن هناك موضوعين يحظيان بحضور بارز في الاستراتيجية التي انتهجها لبناء عظمة روسيا، أولهما الأمن العسكري، وثانيهما أمن الطاقة، والأخير نال أولوية قصوى بفضل هيمنة قطاعي النفط والغاز على الاقتصاد الروسي، وتمكّن بوتين من التقدم أكثر من خطوة لتنفيذ استراتيجيته، وبالمقابل أخذ الناتو يشدد الخناق على حلم بوتين بعودة روسيا لمجالها الحيوي، ليحرك التاريخ مع توسع الناتو نحو جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة بخلاف ما تم الاتفاق عليه عشية تفكك الإمبراطورية السوفييتية في 26 ديسمبر 1991، وكانت أوكرانيا هي المساحة الفاصلة بين روسيا العائدة إلى مجدها وقوتها، والناتو الذي يخطط لطرق بوابتها الغربية، وبدأ الاقتراب من موسكو من خلال الصراع داخل أوكرانيا المنقسمة بين شرقها المرتبط ثقافياً وحضارياً بروسيا، وغربها الباحث عن مكانة في الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو.
وهذا باختصار جوهر المشكلة الأوكرانية الذي تطور إلى الحرب والاجتياح المباشر من قِبل روسيا التي وضعت الغرب أمام الأمر الواقع ليختار قادته بين الالتزام بعدم التوسع بالناتو باتجاه حدود روسيا، أو الدخول في حرب مفتوحة معها، واختار الغرب الحرب الاقتصادية ومحاصرة روسيا مالياً واقتصادياً وتكنولوجياً مع استنزافها عسكرياً داخل أوكرانيا، والضغط بالاتجاهات كلها لإعادة الدب الروسي إلى القفص.
ثانياً، الطموحات الجيواستراتيجية الروسية بمواجهة أكبر عقوبات في التاريخ
العقوبات ليست بالأمر الجديد على السياسة الدولية، فقد فرضها نابليون على صادرات بريطانيا واستخدمت خلال الحربين العالميتين، وتضاعف استخدامها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد أصبحت العقوبات الاقتصادية الدولية بعد الحرب الباردة الوسيلة المفضلة للولايات المتحدة في سياستها الخارجية. أي بمعنى تمكّنت واشنطن من جعل العقوبات الاقتصادية سلاحاً استراتيجياً يعزز هيمنتها على العالم. فالتجارة العالمية تعتمد بشكل أساسي على الدولار الأمريكي إضافة إلى قدرة واشنطن على إنزال “قدر هائل من المعاناة الاقتصادية” على الآخرين.
ولم تكن العقوبات بالأمر الجديد على روسيا، وبالخصوص منذ عام 2014 بعد ضمّها جزيرة القرم، فقد واجهت موسكو سلسلة عقوبات غربية استهدفتها في نواحٍ عدة. ولكن العقوبات الأشد هي التي نشهدها اليوم، حيث قامت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى بإعلان أربع حزم من العقوبات ضد روسيا، شملت القطاعات المالية، والدفاعية، والطاقة، والتكنولوجيا والطيران، علاوة على المسؤولين والأفراد، وتجاوز عدد الكيانات أو المؤسسات الروسية الخاضعة للعقوبات 5530 كياناً، ووصفت هذه الإجراءات بأنها "حرب نووية مالية وأكبر عقوبات في التاريخ".
1. العقوبات على المؤسسات المالية الروسية: أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي عن حزم من العقوبات استهدفت المؤسسات المالية الروسية، تضمنت تجميد أصول بنوك روسية مع فرض قيود عليها ونشر تفاصيل دقيقة بخصوصها، كذلك اتخذت شركات بطاقات الائتمان الأمريكية فيزا وماستر كارد، وأمريكان إكسبرس، إجراءات لمنع المصارف الروسية من استخدام شبكاتها، كذلك قرر الاتحاد الأوروبي منع عدد من بنوك روسيا من التعامل بنظام التحويل البنكي “سويفت” والهدف هو ضرب القدرة المالية لروسيا.
2. العقوبات على الأوليغارشية الروسية: بهدف عزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمحيطين منه، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا إجراءات على الأوليغارشيين الروس مع أفراد عائلاتهم وشركائهم المقربين، تضمنت تجميد أرصدة وحظر دخول، وشملت العقوبات فلاديمير بوتين، وسيرجي لافروف وكبار القادة والمسؤولين العسكريين والسياسيين والبرلمانيين والأثرياء الروس.
3. عقوبات على الكيانات الدفاعية الروسية: أعلنت الولايات المتحدة عقوبات تستهدف قطاع الدفاع الروسي، بهدف فرض تكاليف كبيرة على شركات تطوير الأسلحة الروسية وإنتاجها، وأعلنت بريطانيا عقوبات على شركات الصناعات العسكرية الروسية الخمس الكبرى.
4. العقوبات على المؤسسات الصناعية والتكنولوجية الكبرى: ركزت حزم العقوبات الغربية على المؤسسات الصناعية الروسية، ذات العلاقة بالقطاعات الاستراتيجية وفائقة التطور، وقد تم اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع تصدير السلع المرتبطة بقطاعيْ الصناعات الجوية والفضائية والتكنولوجيا والمعادن، إلى روسيا.
5. عقوبات إعلامية وفنية:
لم تقتصر العقوبات على المجالين المالي والاقتصادي بل شملت الإعلام والثقافة والفنون فقد قررت شركة ميتا المالكة لـ«فيسبوك»، و«واتساب»، و«إنستغرام»، تقليل الوصول إلى شبكتي آر تي، وسبوتنيك الروسيتين الحكوميتين، وتم حظر الإعلانات الروسية على «غوغل» و«يوتيوب»، كما قررت مؤسسات فنية وثقافية أوروبية عدم السماح لروسيا بالمشاركة في الأحداث الثقافية الدولية.
6. عقوبات رياضية: تم فرض عقوبات رياضية غير مسبوقة على روسيا تضمنت إيقاف منتخبات روسيا وأنديتها عن المشاركة في البطولات كلها وفرض حظر شامل على الرياضيين من روسيا وروسيا البيضاء بشكل فوري، ووصلت إلى قيام الاتحاد الدولي للتايكوندو بتجريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الحزام الأسوَد الفخري، الممنوح له منذ عام 2013.
ثالثاً، المواقف الدولية المعارضة للعقوبات
سوف نتناول في هذا الجزء من الدراسة مواقف عدد من الدول المحورية، وهي كما يلي:
1-الموقف الصيني: أعلنت الصين سعيها إلى موازنة علاقاتها بين حليفها الروسي وشركائها التجاريين الأوروبيين والأمريكيين بعد اتساع رقعة العقوبات الغربية ضد موسكو، ويرفض قادة الصين مبدأ فرض عقوبات أحادية الجانب على روسيا، وكررت بكين استعدادها لتسهيل الحوار الروسي-الأوكراني من أجل السلام.
وتأتي أهمية موقف الصين كونها أكبر سوق منفرد للصادرات الروسية، مثل النفط والغاز والفحم والمنتجات الزراعية، وكشف بوتين، مؤخراً، عن صفقات نفط وغاز روسية جديدة مع الصين تقدر قيمتها بنحو 117.5 مليار دولار، فمن الواضح أن جزءاً مهماً من استراتيجية روسيا لمواجهة العقوبات تعتمد على علاقاتها مع الصين، وبكين من جهتها لا تريد أن تظهر بمظهر المعادي للدول الغربية، وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، الذي أعرب عن أمله في أن تبقى بلاده بمنأى عن العقوبات المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، مؤكداً أن بلاده لا تريد على الإطلاق أن تنعكس هذه العقوبات عليها، كونها “ليست طرفاً في النزاع”.
2- موقف الإمارات والسعودية: امتنعت الإمارات العربية المتحدة عن التصويت على قرار يدين روسيا بحكم عضويتها غير الدائمة في مجلس الأمن، مع تأكيد أبوظبي أنها لن تفرض العقوبات حتى يصدر قرار من الأمم المتحدة، وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” إن الإمارات والسعودية تجاهلتا الطلب الأمريكي بزيادة معدلات إنتاج النفط لتخفيف مخاوف الأسواق العالمية. ومن جانبها أكدت صحيفة “فايننشيال تايمز” أن معظم دول الخليج ورغم اعتبارها الولايات المتحدة الضامن لأمنها فإنها التزمت الحياد إزاء روسيا، ويبدو أن هذا الموقف يهدف للحفاظ على التعاون مع موسكو في القضايا الجيوسياسية والطاقة. أما المملكة العربية السعودية فإنها قاومت الضغوط الأمريكية لضخ المزيد من النفط، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط بمستويات قياسية.
3- موقف الهند وباكستان: اتسمت خطوات الهند دبلوماسياً بشأن أوكرانيا في الأيام القليلة الماضية بالحذر الشديد وهي تحاول موازنة علاقاتها مع موسكو والغرب، أما باكستان فقد كانت أكثر وضوحاً في رفض العقوبات فقد انتقد رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، بشدة الاتحاد الأوروبي على مطالبته إسلام آباد بالتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار يدين روسيا، وقال: “هل نحن عبيد لكم لنفعل ما تقولون؟”.
رابعاً، التأثير الجيواستراتيجي والاقتصادي للعقوبات في روسيا
تعول الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها على نجاح العقوبات في تحقيق أهدافها المتمثلة في إضعاف روسيا، واستنزافها، وإرغامها على التنازل عن تطلعاتها الجيواستراتيجية، وعزل القيادة الروسية عن شعبها ودفع الشارع للقيام باحتجاجات تؤدي بالنهاية إلى إسقاط أو إضعاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويأتي ذلك من خلال استهداف عصب الحياة والاقتصاد في روسيا، بالتزامن مع عمليات نفسية وإعلامية مصنوعة بعناية.
رغم أن ظاهر العقوبات اقتصادي يرتبط بإحداث ضرر بالاقتصاد الروسي، لكن على المستوى الجيواستراتيجي تهدف العقوبات إلى محاصرة روسيا اقتصادياً وتكنولوجياً ونفسياً، وحرمانها من مصادر وعوامل قوتها وتأثيرها، سواء المتعلقة بالطاقة أو القوة العسكرية، وعزل الرئيس الروسي والنخبة المحيطة، ويأتي ذلك من خلال ثلاثة اتجاهات:
• الاتجاه الأول عسكري يتضمن أكبر قدر من الضغط لإجبار روسيا على إيقاف حملتها العسكرية والدخول في مفاوضات لإنهاء الحرب.
• والاتجاه الثاني سياسي يتعلق بعزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عالمياً ومحلياً، وربما إحراج الكرملين وزعيمه أمام الشعب الروسي والدفع بإسقاط بوتين أو التقليل من شعبيته، وتجسد ذلك من خلال استهداف الأولغارشية الروسية.
• والاتجاه الثالث جيواستراتيجي يتعلق بتحجيم روسيا ومنعها من تحقيق طموحاتها الجيواستراتيجية التي يسعى بوتين إليها من خلال التوجه إلى سواحل المياه الدافئة في أوكرانيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ونحن هنا نجد أنفسنا أمام احتمالين على المديين القريب والمتوسط، الأول هو نجاح كلي أو جزئي للعقوبات، والثاني فشل كلي أو جزئي للعقوبات، ولنناقش كلا الاحتمالين:
الاحتمال الأول: نجاح العقوبات
1. القدرة على إرباك القدرة المالية للحكومة الروسية: من خلال محاصرة المؤسسات المالية الروسية الكبرى حيث تهدف الولايات المتحدة وشركاؤها للحيلولة دون استفادة البنوك الروسية من أسواق المال الغربية، بعد فصل مجموعة “مختارة” من البنوك الروسية عن نظام “سويفت”، ووضع قيود على استخدامها للدولار الأمريكي والين الياباني، وتجميد الأصول المادية والحسابات البنكية الروسية في البنوك الغربية، لكن هذه العقوبات كلها . وعلى الرغم من أن لدى روسيا خططاً بديلة بدأت اتخاذها بالفعل، وهي اعتماد شركاتها المالية على المؤسسات والبنوك الصينية بدلاً من الأوروبية، فإن الأيام والأسابيع المقبلة بمنزلة اختبار على قدرة العقوبات في إرباك روسيا التي تحاول الالتفاف على العقوبات الغربية وتفريغها من محتواها.
2. إمكانية إضعاف سعر صرف الروبل أمام الدولار: يؤدي إضعاف العملة الروسية الروبل إلى إرباك القدرة الشرائية للمواطن الروسي وزعزعة ثقته بالكرملين، وبالفعل فقد الروبل أكثر من 30% من قيمته في بدايات الغزو لكن الحكومة الروسية تسعى للسيطرة على سعر صرف الروبل من خلال التحكم فيما لديها من احتياطيات مالية ضخمة والمراهنة ستكون على عامل الوقت.
3. حرمان روسيا من استثمار مواردها: وهو هدف استراتيجي إن تحقق يعيد ما حصل للاتحاد السوفييتي السابق خلال انهيار أسعار النفط في ثمانينيات القرن الماضي، لكن المرحلة الحالية من العقوبات تهدف إلى إضعاف مكانة روسيا كمورّد رئيسي للطاقة، ومن المتوقع وحسب التقديرات سيؤدي الحظر التجاري على النفط إلى انخفاض بنسبة 1.2٪ في الناتج الاقتصادي لروسيا وسيؤدي فرض الحظر على الآلات وقطع غيار الآلات إلى انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 0.5٪.
4. إضعاف الجيش الروسي: يعد الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم من حيث التجهيزات والتدريب والتسليح والقدرة القتالية، لذلك تسعى العقوبات إلى محاصرة المؤسسات الروسية المرتبطة بالصناعات الدفاعية، بما فيها شركات تصنيع الطائرات المقاتلة، وعربات المشاة، والأسلحة الإلكترونية، والصواريخ، والطائرات من دون طيار، والهدف هو الحيلولة دون حصول الجيش الروسي على تكنولوجيا أمريكية لكن من المستبعد حسب الباحثة السياسية من معهد واشنطن، آنا بورشفسكايا، أن يكون للعقوبات أثر منظور على الجيش الروسي وأنها ستحتاج لمدى طويل لتبدأ آثارها في الظهور.
5. إسقاط سلاح الطاقة من روسيا: وذلك بالبحث عن خيارات بديلة للحصول على الطاقة، وتمثل ذلك بلجوء الولايات المتحدة إلى التراجع عن عقوبات سبق أن اتخذتها ضد دول نفطية مثل: فنزويلا، وإيران، حيث فتحت واشنطن الباب أمام مفاوضات جديدة مع كراكاس لتوريد جزء من صادراتها النفطية إلى الولايات المتحدة كشرط لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على فنزويلا منذ عام 2019. وهذا المسار الأمريكي يفقد العقوبات قيمتها الأخلاقية ويظهرها، أي العقوبات، على أنها ليست أكثر من سلاح انتهازي تستخدمه واشنطن وشركاؤها لإضعاف المنافسين والخصوم، ومن جهة أخرى تعمل الولايات المتحدة وبريطانيا للضغط على دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لرفع سقف الإنتاج تمهيداً لمقاطعة نفط روسيا، والمملكة مازالت متمسكة بتحالف “أوبك بلس” و لا تنوي تغيير سقف الإنتاج.
الاحتمال الثاني: فشل العقوبات
يتوقف تأثير العقوبات المفروضة على روسيا على عاملين رئيسيين، يتعلق الأول بقدرة الاقتصاد الروسي على الصمود، والثاني يتمثل في قدرة الدول الغربية، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، على الالتزام بفرض العقوبات في ظل ارتباط اقتصاداتها واعتمادها بشكل كبير على تجارتها مع روسيا، لاسيما فيما يتعلق بإمدادات الغاز الطبيعي، وتراهن موسكو على عامل الزمن وتصدع جدار العقوبات وحاجة أوروبا للغاز والنفط والفحم والقمح الروسي، ويمكن دراسة العوامل التي يمكن لروسيا الاستفادة منها في إفشال العقوبات من خلال الآتي:
1. التأثير العكسي للعقوبات: ليست روسيا المتضرر الوحيد بل إن آثار العقوبات الاقتصادية سوف تمتد إلى عدد من الدول الأوروبية، وسائر دول العالم، ويتوقع أنها سوف تُلحق أضراراً ضخمة بقطاعات الطاقة، والتجارة، والتصنيع، والبنوك، والأسواق في أوروبا، وسيؤدي ذلك بالنهاية إلى تضرر شركات أوروبية كبرى بسبب توقف عملها في روسيا، فعلى سبيل المثال “لدى الشركات الألمانية نحو عشرين مليار يورو من الاستثمارات في روسيا”، علما أن “شركات التأمين لا تغطي منها سوى 7,4 مليار يورو، وهذا يعني خسائر فادحة، فالمخاوف من ضغوط الشركات الكبرى على الحكومات الأوروبية نتيجة خسائرها من تطبيق العقوبات هو أمر وارد جداً.
2. قدرة الدبلوماسية الروسية على المناورة والضغط على الولايات المتحدة والعواصم الغربية: يمكن أن تخفف من وطأة العقوبات كما حصل في اللحظة الأخيرة من مفاوضات الملف النووي الإيراني، حيث طالب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الولايات المتحدة بـ “ضمانات مكتوبة” بأن العقوبات لن تؤثر في حق موسكو في التعاون الحر والكامل التجاري والاقتصادي والاستثماري والتقني العسكري مع إيران.
3. قدرة روسيا على الصمود: يرى خبراء روس أن العقوبات المفروضة على تصدير منتجات التكنولوجيا العالية ستدفع روسيا إلى إيجاد بدائل واستيرادها بشكل سريع، إضافة إلى ذلك يتم الحديث في روسيا عن ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة، حيث تملك البلاد احتياطات كبيرة من الذهب والنفط والمعادن.
4. سلطة الغاز الروسي على أوروبا: إن اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي وصعوبة توفر البدائل اليسيرة على المديين القريب والمتوسط، سوف تحد من اندفاع عدد من الدول الأوروبية تجاه المضي في العقوبات إلى مديات أبعد، فالمستشار الألماني الذي أعلن معاقبة روسيا بإجراءات وصفت بالكاسحة ظهر بعد أيام من إعلانه موقفه القوي، ليقول “إن أوروبا “تعمدت” استثناء إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات لأن ذلك سينعكس بشدة على اقتصاد الدول الأوروبية”. وفي هذا الإطار قالت وزيرة الخارجية الألمانية، آنالينا بيربوك، بقولها “نحن مستعدون لدفع ثمن اقتصادي باهظ جداً” لكن “إذا انطفأت الأنوار غداً في ألمانيا أو في أوروبا، فهذا لن يوقِف الدبابات”.
5. استفادة روسيا من ارتفاع أسعار النفط والغاز: المستويات القياسية التي شهدتها أسعار النفط والغاز ستعود بالنفع على روسيا بدلاً من الإضرار بها، حيث ستتمكن من العثور على مشترين آخرين لطاقتها، كما هي الحال في الصين، وسيتحقق لديها المزيد من السيولة.
6. تباين الضرر الغربي في تحمّل فاتورة العقوبات: يتباين مستوى تأثر دول الاتحاد الأوروبي من العقوبات فقد تحملت ألمانيا العبء الأكبر من العقوبات التي فرضت عام 2014، وأظهرت دراسة ألمانية أعدها خبراء معهد الاقتصاد الدولي، أن “ألمانيا تحملت نحو 40% من خسائر تجارة الغرب مع روسيا بينما لا تفقد قوى فاعلة أخرى، مثل: المملكة المتحدة سوى 7.9%، وفرنسا 4.1%، والولايات المتحدة 0.6%”.
7. القمح الروسي كسلاح: تعتبر روسيا أكبر مصدّر للقمح في العالم، وهذا يمنحها ميزة استراتيجية مضافة حيث توفر مع أوكرانيا 19% من الإمدادات العالمية من الشعير، و14% من إمدادات القمح، و4% من الذرة، وهو ما يشكل أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية، وهذا الأمر يمنحها سلاحاً يضاف إلى سلاح الطاقة.
خاتمة
ليست العقوبات الغربية مجرد رد فعل على عمل عسكري قامت به روسيا ضد جارتها أوكرانيا، ويمكن تسويته سلمياً، إنما هي تتويج لتعارض وتقاطع وتصادم جيواستراتيجي حتمي بين الناتو وروسيا، مكانه قلب أوراسيا، على حدود روسيا الغربية، التي عجلت حملات بوتين على أوكرانيا منذ عام 2014 لغاية فبراير 2022 بإطلاق شرارته واشتعال نيرانه، وبذلك ستراهن موسكو على الزمن لإيجاد بدائل تدعم الصمود أمام العقوبات مستندة على عوامل داخلية وخارجية، وستسعى إلى تنشيط جهودها الدبلوماسية لتوسيع قاعدة الحلفاء والأصدقاء مع تحييد أطراف جديدة وإحداث ثغرات في طوق العقوبات، وبالمقابل تراهن الدول الغربية على ضعف الاقتصاد الروسي وقدرتها على عزله دعائمه وتقويضها، مع إسقاط سلاح التفوق الروسي في مجال الموارد لاسيما الطاقة، وحجم القوات المسلحة والترسانة العسكرية مع إمكانية تحويل أوكرانيا إلى مستنقع لروسيا كما المستنقع الأفغاني الذي استنزف الاتحاد السوفييتي وتسبب في انهياره.
وهنا يتمثل الحسم في قدرة روسيا على تحقيق نجاح على الأرض في أوكرانيا، مع كسب موقف الصين والدول التي تبني الحياد، أما نجاح العقوبات فسيكون مرتبطاً بقدرة الولايات المتحدة وشركائها على تضييق الخناق أكثر على روسيا مع التأثير في الدول المحايدة للانضمام إلى الطوق الذي يحاصر روسيا لاسيما الإمارات والسعودية التي سيكون لقرارهما أثر كبير في نجاح أو فشل العقوبات الغربية على روسيا.