منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تجنّب كثير من قادة الدول العربية، الذين يُنظر إليهم على أنهم "براجماتيون" ومؤيدون لأمريكا، توجيه انتقادات لروسيا وسعوا إلى إبعاد أنفسهم قدر الإمكان عن الأزمة بينها وبين الغرب. البعض منهم توانى ولم يتعاون مع محاولات الولايات المتحدة بعزل روسيا سياسياً واقتصادياً. على أي حال، لا يمكن في هذا الوقت تحديد التداعيات طويلة الأمد للغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط، ولكن هناك ضرورة لبحث اتجاهات التطورات المحتملة، مع التأكيد على مكانة الدول العربية ومكانة القوى المركزية في المنطقة.
باستثناء سوريا والحوثيين في اليمن، الذين عبروا عن دعمهم الكامل لروسيا، سعت باقي الدول العربية للمناورة بين الأطراف - للحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة وفي المقابل عدم الإضرار بعلاقاتهم مع روسيا. على خلفية القتال في أوكرانيا، اكتفت جامعة الدول العربية بدعم الجهود الإنسانية، وطالبت بحل دبلوماسي لكنها تجنبت التنديد أو حتى ذكر اسم روسيا في بيانها في هذا الشأن. حتى أن عددًا من كبار مسؤولي المنطقة عبروا بشكل معلن عن مشاعرهم: "ربما هذا لا يتناسب مع السياسة الأمريكية، ولكن من الآن فصاعدًا ستتم إدارة الأمور بهذه الطريقة"، قال بروفيسور إماراتي، وهو تُعرف مواقفه على أنها تعكس رأي الحكومة. أما أنور قرقاش، وهو مستشار كبير لحاكم الإمارات، فقد برر سياسة بلاده بقوله أن "الوقوف بجانب طرف الآن فقط سيؤدي إلى مزيد من العنف". من جانبه، اعترف يوسف العتيبة، سفير الإمارات في الولايات المتحدة، أن العلاقات بين الإمارات والولايات المتحدة تشهد الآن اختبارًا. كما أكد محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي والقائد الفعلي للمملكة العربية السعودية، على أهمية العلاقات مع الأمريكيين لكنه صرّح أن الولايات المتحدة ليس لها أي حق في توجيه المواعظ له أو حتى التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة.
يجب الانتباه إلى الإمارات العربية المتحدة، التي ركزت على علاقاتها الوثيقة مع القيادة الروسية، ووجهت إيماءات (مؤقتة) تجاهها، حتى أنها جادلت، مثل مصر، في أمر ضرورة البحث عن حل وسط سياسي – وبشكل ضمني أن روسيا أيضًا لديها مبررات مشروعة وعلى أوكرانيا أن تتنازل. هذا وامتنعت الإمارات أيضًا عن التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار بإدانة روسيا. موقف الإمارات هذا – التي هي رئيس وعضو مؤقت في مجلس الأمن- كان مرتبطًا، من بين جملة أمور، برغبتها في كسب دعم روسيا في تمديد حظر السلاح عن الحوثيين في اليمن. مع ذلك، أدى الضغط الأمريكي الشديد بالإماراتيين، وكذلك السعودية ومصر إلى دعم إدانة روسيا في الجمعية العامة.
كل ذلك، على خلفية تغيرات في السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية، التي أساسها التماشي مع الظروف المتغيرة، وعلى رأسهم تعزيز مكانة روسيا والصين في المنطقة، على حساب مكانة الولايات المتحدة. هذا وتم تفسير حدث مركزي على أنه دليل على مصداقية الولايات المتحدة المتراجعة في حماية أمنها، وهو تجنب واشنطن الإقدام على رد عسكري بعد الهجوم الإيراني على منشآت النفط الاستراتيجية في المملكة العربية السعودية عام 2019. إن التصور بأنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة في مساعدة الدول العربية، في حال تمت مهاجمتها على يد إيران، تعزز على خلفية الأحداث في أوكرانيا وينعكس في كتابات كبار كتاب الأعمدة الرئيسية في الصحافة العربية.
إن المخاطر المحيطة بالدول العربية انعكست في السنوات الأخيرة في تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا. إنهم يتعاونون مع روسيا في تنظيم أسعار النفط وفي المجال النووي، يشترون منها المعدات القتالية ويستمتعون بالسياحة الروسية. الإمارات على وجه الخصوص تقرّبت من الرئيس السوري بشار الأسد، حليف روسيا، حتى أن تقارير أفادت أنها موّلت أنشطة قوة المرتزقة الروسية "فاغنر" في ليبيا. ربما هناك ميزة أخرى لروسيا في أعين قادة الدول العربية هي الاستعداد الروسي لممارسة القوة، خلافًا للولايات المتحدة لاستخدام المحفزات العسكرية لتحقيق أهداف سياسية. ومؤخرًا، أجّلت الإمارات المحادثات المتعلقة بشراء طائرة F35 التي كانت جزء من المنحة التي مُنحت لها مع موافقتها على توقيع "اتفاقيات أبراهام". في وقت غريب، في يوم الغزو الروسي لأوكرانيا، نُشر أنها ستشتري طائرة مقاتلة / تدريب صينية من طراز L15. كما استغلت السعودية الحرب من أجل إبلاغ الولايات المتحدة بأن لديها خيارات أخرى. هذا وتمت دعوة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لزيارة المملكة مع انتهاء شهر رمضان، علاوة على ذلك أعلنت الرياض أنها تدرس من الآن أمر تسعير صفقات النفط مع الصين (العميل الرئيسي للنفط السعودي) بالعملة الصينية بدلاً من الدولار الأمريكي كما كانت حتى هذا الوقت.
من بين الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا تأرجح حاد في أسعار الطاقة (حيث وصل سعر برميل النفط من نوع برنت في بداية الحرب إلى 128 دولارًا لكنه انخفض منذ ذلك الحين إلى حوالي 100 دولار)، وهو ما ينعكس سلبًا الدول العربية التي تستورد النفط، والتي قد تشهد اضطرابات شعبية طالما استمرت الأزمة، وبينما ينعكس بشكل إيجابي على منتجي النفط. إن ارتفاع أسعار النفط سيسمح لدول الخليج، ليبيا والجزائر بتغطية العجز الذي تراكم طوال السنوات الأخيرة وتنفيذ مشاريع مطلوبة. هذا وتُثبت الحرب مجددًا الأهمية الاستراتيجية للخليج في اقتصاد الطاقة العالمي والأصول المتزايدة لدول الخليج العربي.
في هذا السياق، حثت واشنطن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط في العالم (حيث تُقدّر طاقتها الإنتاجية الفائضة بمليوني برميل يوميًا)، على زيادة إنتاج النفط الخاص بهم وذلك لمحاولة التخفيف من الارتفاع الكبير الذي تم تسجيله في بداية الحرب في أسعار النفط، لكن الأمر لم يُجدِ نفعًا حتى الآن. هذا وأكدت الدول على التزامهم بالاتفاقيات مع روسيا، الشريكة بجانبهم في أوبك، بخصوص حصص إنتاج النفط. كما نُقلت أنباء في عدة مناسبات عن رفض حكام السعودية والإمارات التحدث مع بايدن. ربما ينبع هذا الرفض أكثر من رغبتهم في تحسين موقفهم التفاوض الخاص بهم أمام الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يجب الأخذ بعين الاعتبار توقع إدخال النفط الإيراني إلى الأسواق بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران وضرورة خلق ذلك لموائمة حصص تصدير النفط مع الشروط الجديدة.
فعليًا، بينما يتم توجيه الانتباه العالمي إلى أوكرانيا، يرتبط قلق الدول العربية بالاتفاق النووي الذي تتم صياغته مع إيران. لذلك تسعى دول الخليج على وجه الخصوص بناء على ذلك إلى تحقيق عائد مناسب للتوافق مع الموقف الأمريكي على شكل تعاون استخباراتي متزايد معها وتعزيز قدراتها الدفاعية. بالإضافة لذلك، تتوقع السعودية مساعدة أمريكية في تطوير برنامج نووي وتسوية العلاقات بين واشنطن ومحمد بن سلمان، ويشمل ذلك تبرئته من دعوى قضائية محتملة في الولايات المتحدة في أعقاب تورطه في اغتيال خاشقجي.
علاوة على ذلك، قد تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الواقع الصعب فعليًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وتهديد الأمن الغذائي للعديد لكثير من سكان المنطقة. يجب أن نُضيف لذلك تدخل المضاربين والذعر في صفوف المواطنين، ما قد يُسرّع من ارتفاع الأسعار التي ارتفعت أصلًا خلال العامين الماضيين. الدول الضعيفة، التي ما زالت لم تخرج بعد من أزمة كورونا، قلقة بشكل خاص من ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب. في الواقع، أدّت الحرب إلى ارتفاع أسعار الخبز في مصر، والتي تعتبر أكبر مستورد للقمح في العالم، وفي تونس أيضًا. القلق هو من الاضطرابات الشعبية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، حيث أن الأمر اندمج مع مشاكل اجتماعية أخرى أدت في الماضي إلى احتجاجات وأعمال شغب في الأردن، مصر، المغرب وتونس، مما هدد استقرار الأنظمة. من المحتمل أنه من أجل منع الاضطرابات ستزيد الدول الأفقر في المنطقة العربية، مصر والأردن على سبيل المثال، ستزيد من اعتمادها الاقتصادي على دول الخليج. يجب أن يرافق هذا الاعتماد تعديل سياسي للاتجاه الذي ستتبعه دول الخليج.
كما يُتوقع أن تواصل الدول العربية المركزية العمل على تنويع اعتمادها السياسي، الاقتصادي وحتى العسكري، وبالتالي أيضًا حث الولايات المتحدة على إثبات مصداقيتها كحليف وخلق معها معادلة علاقات يتحسن في إطارها وضعها. يشير اتخاذ بعض الدول العربية لخيار "الحياد" إلى التغيير الذي بدأ بالفعل في مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. رغم إدراك أغلب الدول العربية إلى عدم وجود بديل جيد للسيطرة الأمريكية في الوقت الحالي، إلا أنها لا تزال ترى العلاقات الوثيقة معها ركيزة أساسية في أمنها - على الرغم من تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة بشكل عام ومشاكلهم الأمنية بشكل خاص. من وجهة نظرهم، يجب عليهم تعويض هذا النقص بعدة طرق: تعزيز قوتهم العسكرية، الحفاظ على علاقات جيدة مع إيران، وتعزيز علاقاتهم مع الدول والقوى الأخرى إلى جانب علاقاتهم مع الولايات المتحدة. بمعنى آخر، حتى لو جددت الولايات المتحدة اهتمامها بالشرق الأوسط بعد الحرب وفي إطار ذلك ستقطع شوطًا طويلاً تجاه الدول العربية، فمن المتوقع أن تستمر زيادة تدخل قوى الأخرى في المنطقة، ومعها سياسات تجنب المخاطر واستغلال الفرص في الدول العربية.