• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقارير

اختارت العديد من دول العالم الوقوف على الحياد في الأزمة الأوكرانية. ويمثل هذا الموقف مشكلة كبيرة للولايات المتحدة وحلفائها في إطار معركتها لعزل روسيا دولياً، وجعل العقوبات المفروضة عليها أكثر شمولية وأقرب لأن تكون عقوبات دولية حتى لو تم فرضها من خارج مجلس الأمن.

ومن المسلم به أن حرص الولايات المتحدة على كسر حياد بعض الدول في الأزمة الأوكرانية يتركز على الدول القادرة على إحداث تأثير سياسي واقتصادي على روسيا مثل الصين، وبعض حلفاءها (أى الولايات المتحدة) مثل بعض دول الخليج، وكل من تركيا وإسرائيل. ولكن الجهود الأمريكية في هذا الاتجاه لا تتجاهل دولاً أخرى سيكون النجاح في جذبها عاملاً إضافياً لعزل موسكو اقتصادياً وسياسياً مثل الهند وجنوب أفريقيا.

التصويت في الأمم المتحدة كمؤشر

في الثاني من مارس الجاري (2022)، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قراراً ينص على إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، ويدعو إلى وقفه، ويؤكد على التمسك بسيادة واستقلال ووحدة أوكرانيا بما فيها مياهها الإقليمية. وقد حظي القرار بأغلبية أصوات 141 دولة فيما عارضته 5 دول وامتنعت 35 عن التصويت، من إجمالي 193 دولة عضواً بالأمم المتحدة.

لا يمثل هذا المؤشر، على الرغم من دلالاته المبدئية التي تصب في صالح الدبلوماسية الأمريكية، قيمة حقيقية، ليس فقط لامتناع عدد من الدول الهامة عن التصويت ضد روسيا، ولكن لأن موقف الامتناع أو الحياد ربما لا يكون الموقف الفعلي لهذه الدول على أرض الواقع، بل ربما يمكن اعتباره أقرب إلى تأييد روسيا، أو عدم الاستعداد للمشاركة في محاولات عزلها دولياً، وهو ما تجسده مواقف الصين والهند، وكلتا الدولتين تتهمها الولايات المتحدة بالوقوف فعلياً إلى جوار روسيا، فثمة تقارير تشير إلى أن كلتا الدولتين ستشاركان في إضعاف العقوبات الغربية على روسيا، عبر تخفيف تأثير إخراج الأخيرة من النظام البنكي المعروف بـSWIFT، وذلك بتبادل التجارة مع روسيا عبر نظم موازية روسية وصينية، فضلاً عن توفير فرصة لصادرات النفط والغاز الروسيين، وإيجاد أسواق بديلة للأسواق التي فقدتها، أو ستفقدها جراء العقوبات الغربية.

فعلى سبيل المثال، في 18 مارس الحالي، اشترت شركة النفط الهندية الحكومية 3 ملايين برميل من النفط الخام من روسيا، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جينيفر ساكي: "إن مشتريات الهند من النفط الروسي لن تنتهك العقوبات الأمريكية"، لكنها حثت الهند على "التفكير في المكان الذي تريد أن تقف فيه عند كتابة كتب التاريخ". أما الصين، فقد كانت الانتقادات لها أكبر، حيث حذرها الرئيس الأمريكي جو بايدن من محاولة تقديم أي عون لروسيا لدعم عدوانها على أوكرانيا، وقال راين هاس الخبير في معهد "بروكينجز" للأبحاث والمستشار السابق للرئيس باراك أوباما لشئون الصين: "أولوية الرئيس بايدن ستكون الطلب من الصين ألا تمد روسيا بوسائل للتعويض عن العقوبات الدولية، وعدم إرسال معدات لآلة الحرب الروسية في أوكرانيا".

ضمن الدول التي تستهدف الولايات المتحدة كسر حيادها "النظري" في الصراع الروسي- الأوكراني، وكشف موقفها "الفعلي" الذي يبدو منحازاً لروسيا، كل من تركيا وإسرائيل. وتتشابه الدولتان في شعورهما بخطورة تبعات الأزمة الأوكرانية على مصالحهما، وتحاولان تغطية موقفهما الذي يميل إلى عدم إغضاب روسيا، بالادعاء بأنهما حصلا على موافقة من الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين لكي يقوم كل منهما -على حدة- بدور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا لحل النزاع. ويبدو أن إسرائيل وتركيا هما الأقرب لكي يغيرا موقفهما بشكل كامل في حالة ما أصرت واشنطن على وضع خطوط واضحة بين من يؤيدونها ومن يقفون ضدها، وربما تعود الولايات المتحدة إلى الصيغة التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش-الابن عندما طالب دول العالم بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بإعلان موقف واضح من قرار الولايات المتحدة بشن حرب ضد الإرهاب: "لا حياد في هذه الحرب: إما أن تكون معنا، أو تكون ضدنا".

الصين... الرقم الصعب في المعادلة

لأكثر من سبب، تشكل الصين العقبة الرئيسية أمام الولايات المتحدة في مسعاها لعزل روسيا: أولاً، لا يمكن لواشنطن تهديد بكين بعقوبات اقتصادية شاملة مثل تلك التي فرضتها على موسكو، بسبب قوة الاقتصاد الصيني، والحجم الكبير للتبادل التجاري الأمريكي- الصيني، الذي يمكن أن يؤثر على المصالح الاقتصادية الأمريكية أيضاً.

ثانياً، من شأن قيام واشنطن بفرض عقوبات تجارية ومالية شاملة على بكين، تقريب الأخيرة بشكل أكبر من موسكو، وتوفير فرصة لإنجاح النظام المالي والتجاري البديل الذي تتبناه كلتاهما.

ثالثاً، يمكن أن يشكل التقارب الروسي-الصيني في الجبهة الاقتصادية-إذا ما حدث- إغراء للعديد من دول العالم للالتحاق بهذا التحالف الثنائي، ولن يتوقف الأمر حينها عند إفشال العقوبات الأمريكية والغربية على روسيا، بل يمكن أن يتجاوزه إلى تشكيل جبهة سياسية وحتى عسكرية كبيرة ضد واشنطن وحلفائها.

رابعاً، لا تضمن واشنطن رد الفعل إذا ما تم فرض عقوبات مشددة على بكين، فقد تتحرك لغزو تايوان، لتفتح جبهة أكثر صعوبة أمام واشنطن، خاصة وأن موسكو ستقف في هذه الحالة إلى جانب بكين، كما يمكن أن يؤدي سقوط تايوان إلى تفكيك التحالف الأمريكي-الآسيوي والقائم على اليابان وكوريا الجنوبية بالدرجة الأولى بسبب خشية هذين البلدين من مواجهة مصير تايوان لاحقاً.

في ظل هذه المحددات الأربعة، لن يكون أمام الولايات المتحدة سوى الامتناع عن التفكير في فرض عقوبات شاملة ضد الصين، وقد تختار واشنطن بدلاً من ذلك فرض عقوبات جزئية فقط مثل حظر صادرات التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة للصين، بالإضافة لتفعيل أكبر لسياسة محاصرة التمدد الصيني الخارجي خاصة في أفريقيا.

سياسة مختلفة تجاه حياد الحلفاء

إذا كان فشل واشنطن شبه مؤكد فيما يتعلق بتغيير الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية، حيث تعد بكين منافساً لها وليس حليفاً، فإن السياسة الأمريكية الساعية لكسر المواقف الحيادية لبعض الدول من الأزمة الأوكرانية سوف تتركز على الحلفاء، وتحديداً الرباعي: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وتركيا.

تمتلك الولايات المتحدة علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع السعودية والإمارات، ولكنها تدرك أن هذه العلاقات قد تأثرت سلبياً في السنوات الأخيرة، بسبب عدم وقوف واشنطن مع الدولتين في مواجهة التهديدات الإيرانية، على نحو بدا جلياً في موقف واشنطن المتراخي من الدعم الإيراني لمليشيا الحوثي التي توجه ضرباتها الصاروخية المباشرة للأراضي السعودية والإماراتية.

وتعتقد الدولتان أن الجدل الدائر منذ عدة سنوات عن نية الولايات المتحدة تقليل اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط لصالح التركيز على مواجهة الصعود الصيني، أضحى حقيقة واقعة؛ ويفرض عليهما البحث عن الوسائل التي تمكنهما من مواجهة التهديدات الجسيمة لأمنهما بما فيها تقوية علاقاتهما السياسية والعسكرية مع روسيا والصين.

ولكي تستعيد الولايات المتحدة ثقة السعودية والإمارات- وهما قوتان اقتصاديتان مهمتان ولهما تأثير كبير على سوق النفط والغاز- عليها أن تثبت للدولتين بشكل عملي أنها تخلت عن التفكير في مغادرة الشرق الأوسط أو تقليل اهتمامها به، وذلك عبر توسيع اهتمامها بقواعدها العسكرية في المنطقة، وتزويد البلدين بأسلحة أمريكية متقدمة، والضغط على إيران للتخلي عن سياستها التي تهدد أمنهما، وأن يكون ذلك ضمن شروط عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيران.

بدون هذه الخطوات، قد يصعب أن تستجيب السعودية والإمارات لمطالب واشنطن لهما بالانضمام إلى الدول التي تريد منها المشاركة في تطبيق نظام العقوبات ضد روسيا، خاصة في ظل تقارير أشارت إلى أن موقف الإمارات- التي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا- جاء على خلفية صفقة بين روسيا والإمارات، بمقتضاها امتنعت الأخيرة عن إدانة روسيا مقابل عدم استخدامها حق الفيتو ضد مشروع قرار يعتبر مليشيا الحوثي جماعة إرهابية.

كذلك، يمكن فهم استقبال الإمارات للرئيس السوري بشار الأسد (الحليف الأهم لروسيا في المنطقة العربية) في أوج الحرب الروسية-الأوكرانية، على أنه جزء من الضغوط التي تمارسها الإمارات على الولايات المتحدة، والتي لا ترغب في تقديم أي دعم للرئيس السوري يخرجه من عزلته الإقليمية والدولية، لأن مثل هذا التوجه يعني عملياً تكريس النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط.

في هذا الإطار، يمكن فهم مغزى التقرير الذي نشره الموقع الإخباري الإسرائيلي (والا)، في 17 مارس الحالي، والذي تحدث عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن لكل من السعودية والإمارات وأيضاً إسرائيل والسلطة الفلسطينية في رام الله. ويبدو واضحاً أن الزيارة (لم يحدد التقرير موعدها) تستهدف تحقيق هدفين. فمن ناحية، سيحاول بلينكن إقناع الإمارات والسعودية بزيادة إنتاجهما من النفط بهدف خفض سعره، وتمكين حلفاء واشنطن من الاستغناء عن واردات النفط الروسية. ومن ناحية أخرى، سيسعى بلينكن إلى الضغط على إسرائيل لحملها على اتخاذ موقف أكثر وضوحاً ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي الوقت نفسه حثها (أي إسرائيل) على تخفيف التوترات مع الفلسطينيين حتى لا تنفجر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وتجد واشنطن نفسها في مواجهة أزمتين خطيرتين في وقت واحد (الحرب في أوكرانيا، وحرب أخرى بين إسرائيل والفلسطينيين).

وسواء تمت زيارة بلينكن للمنطقة أو أُلغيت، أو حتى  ثبت عدم صحة تقرير الموقع الإسرائيلي الذي زعم وجود نية لإتمامها، فإن التحركات الأمريكية في اتجاه كسر حياد بعض حلفاءها في الأزمة الأوكرانية لن تكون مجدية مستقبلاً، ما لم يصاحبها تعهدات موثقة من جانب واشنطن بالوقوف معهم في مواجهة التهديدات الجسيمة لأمنهم، وحينها سيتعين على واشنطن أن تختار بين تحسين علاقاتها مع إيران عبر المضي قدماً في مسار العودة إلى الاتفاق النووي دون الالتفات لاعتراضات جوهرية علي هذا المسار من جانب إسرائيل وكل من السعودية والإمارات، والذهاب في الاتجاه المعاكس بمعنى أن تُبطئ حركتها للتقارب مع إيران أو حتى توقفها تماماً لكسب ثقة الحلفاء الثلاثة.

وفيما يتعلق بالطرف الأخير في معسكر الحلفاء-المحايدين وهو تركيا، فإن واشنطن ستجد نفسها في وضع أصعب إذا ما أرادت كسب أنقرة لصفها، نظراً للعلاقات المتوترة منذ سنوات بين تركيا والولايات المتحدة على خلفية رفض واشنطن لمطالب الرئيس رجب طيب أردوغان تسليم فتح الله جولن الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط للانقلاب الفاشل الذي وقع في عام 2016، ولجوء أنقرة لشراء منظومة S-400 الروسية الصنع رداً على رفض واشنطن تزويدها بطائرات F-35، بالإضافة إلى غضب تركيا من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بسبب ما تراه انحيازاً لليونان وقبرص في ملف قضية تقسيم الحدود البحرية وتقاسم ثروات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط.

ومن دون شك، ستسعى تركيا للضغط على الولايات المتحدة للاستجابة إلى كل أو بعض مطالبها مقابل تغيير موقفها من الأزمة الأوكرانية من موقع "الوسيط المحايد" (كما تصوره التحركات التركية الجارية حالياً) إلى وضع "الشريك" في محاصرة الطموحات الروسية. وتزداد فرصة أنقرة في الضغط على واشنطن في ظل ما تراه الأخيرة إنجازاً تم تحقيقه على خلفية الأزمة الأوكرانية، والذي يتبدى في إعادة الوحدة والتماسك إلى حلف الناتو بعد سنوات من الخلافات بين أعضاءه وتساؤلات من جانب بعضهم عن جدوى بقاؤه.

وبطبيعة الحال، لن تكون واشنطن راغبة في إغضاب أنقرة العضو المهم في الحلف، حتى لا يشكل توتر علاقاتها به، أو خروجها منه تشكيكاً في حقيقة هذا النجاح، خاصة أن واشنطن تعول على الناتو والاتحاد الأوروبي لتكوين جبهة متماسكة في مواجهة روسيا والصين.

ولكن تركيا أيضاً يمكن أن تواجه مشكلة كبيرة إذا ما فرضت تطورات الصراع الدائر في أوكرانيا حالياً على أعضاء الناتو الاختيار بين البقاء داخل الحلف أو الخروج منه حال عدم الالتزام بقراراته، وهو ما يقلل من قدرتها نسبياً على ابتزاز واشنطن إلى ما لا نهاية

وفي كل الأحوال، سيتعين على واشنطن أن تحسب بدقة ما يمكن أن تقدمه لحلفائها المحايدين الأربعة السالف ذكرهم، لكي تقنعهم بالانضمام إلى التكتل الساعي لتشديد الحصار على روسيا، والتخلي عن موقف "الحياد" في الأزمة الأوكرانية، بحيث لا يؤدي تقديم تنازلات أمريكية لأحدهم إلى إغضاب آخرين من داخل هذه المجموعة، أو حلفاء آخرين من خارجها.