على مدى تاريخ النضال الفلسطيني، اتخذت المقاومة ظواهر مختلفة، ففي البداية اتخذت شكلًا فرديًا وعفويًا قبل أن تتخذ نمطًا أكثر تنظيمًا، وذلك مع بدء الثورة المعاصرة عام 1965. حيث مرت المقاومة الفلسطينية بعدة مراحل وتطورات ما بين السلاح والوسائل الشعبية والإضرابات والعصيان المدني، في محاولات مستمرة كان يقوم بها الفلسطينيون للمحافظة على أرضهم.
لا تزال الأنماط المنفردة من المقاومة في فلسطين المحتلة، التي تتصدى للاحتلال في وتيرة متصاعدة وذات فعالية عالية، جنبًا إلى جنب مع فصائل المقاومة، حيث يتجلى دورها الأكبر في الحروب وصد العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة والمدن والقرى التي يقطنها الفلسطينيين. ويرتفع منسوب فعالية المقاومة المنفردة في الانتفاضات والهبات الشعبية، إلا أن لتلك العمليات المنفردة دورٌ فعال في إبقاء العدو قلقًا، حيث يعتبر معظم الإسرائيليين أن الكيان بات مكانًا غير آمن مع غياب الردع للأجهزة الأمنية. وهو ما نشهده اليوم مع عمليات الأسود المنفردة، التي تشكل حلقةً في سلسلةٍ طويلة من النضال، التي بدأت بالبنادق ورفض بيع الأراضي ولم تنتهِ بالطعن والدهس.
وبالرغم من التطور التكنولوجي والقفزة الضخمة على مستوى الأسلحة العالمية، إلا أن أساليب المقاومة الفلسطينية المنفردة قد تراجعت من البندقية والسلاح، إلى الحجارة والطعن والدهس. ويعود ذلك بالتأكيد إلى التحدي الأمني الذي يقف بوجه المقاوم الفلسطيني، فهو ينفذ العملية ويتجول بين الإسرائيليين ما يحول دون حمله للسلاح. وهنا يبرز الإبداع والمواءمة مع تطورات الوضع الأمني واللوجستي للعملية، فقد لجأ الفلسطيني إلى ابتكار وسائل من صلب الحياة البديهية التي يعجز الإسرائيلي عن صدها. في ضوء حالة التغييب القسرية لفصائل المقاومة الفلسطينية منذ عام 2007.
بداية المقاومة: اصطدامٌ مسلح ورفض بيع الأراضي
منذ بدء التدفق اليهودي إلى فلسطين، ووجهت الاعتداءات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بالشراسة من قبل أصحاب الأرض. حيث شهدت الفترة الممتدة ما بين عامي 1882-1917، تنفيذ هجمات على الأراضي والممتلكات، ليتحول الاحتكاك بين العرب والصهاينة إلى اصطدام مسلح.
وتشير الوقائع إلى انتهاج الفلاحين مقاومة مادية ضد المهاجرين اليهود، من خلال رفضهم بيع أراضيهم طوعًا، وفي الوقت ذاته تصدى الفلاحون للسماسرة في عدد من القرى القريبة من مدينة طبريا عام 1901. وهذا ما يشكل نوعًا آخر من أنواع المقاومة والصمود والتجذر في الأرض أكثر فأكثر، ويصنف في إطار المقاومة المدنية.
أولى الانتفاضات الشعبية بالتوازي مع المقاومة المدنية
مع بداية الانتداب البريطاني عام 1917، حصلت ردّات فعل عفوية دون تخطيط مسبق على شكل انتفاضات كانتفاضة موسم النبي موسى، التي يرجعها مؤرخون كأولى الانتفاضات الشعبية في فلسطين المحتلة، وانطلقت شرارتها في موسم النبي موسى السنوي في مدينة الخليل، قبل أن تتسع لاحقًا لتشمل القدس، وأسفرت عن مقتل 5 من المستوطنين مقابل استشهاد 4 فلسطينيين. واستمرت حينها المواجهات حتى انتفاضة يافا عام 1921، التي هاجم بها الفلسطينيون بالمئات المستعمرات اليهودية أهمها بتاح تكفا ورحوبوت، وبحسب الإحصاءات الرسمية البريطانية انتهت الانتفاضة بمقتل 47 مستوطنًا واستشهاد 48 فلسطينيًّا.
بالتوازي مع الانتفاضات، برزت أشكال متعددة من المقاومة المدنية في هذه المرحلة، منها التعبئة الصحفية والثقافية، والعمل السياسي والنضالي عبر مطالبات باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المهاجرين الصهاينة من التوطن والتملك، وإنشاء الجمعيات والأحزاب لتعبئة الشعب ضد المخاطر الصهيونية، ولبناء الحياة السياسية والاقتصادية بما يكفل القدرة على المقاومة.
المقاومة المنظمة والمنفردة
لم يبرز موضوع العمل المسلح إلى حيز العمل إلا حين خرج القسّام في أواخر عام 1935 إلى الريف ليبدأ الثورة، وقد اختار منطقة جنين، وصب اهتمامه في الاتصال بالفلاحين والعمل على إشراكهم في الثورة المسلحة. وعندما لم تتحقق مطالب الحركة الوطنية بوقف الهجرة، وما رافقها من ازدياد في حركة الاستيلاء على الأراضي، والتحديات الصهيونية سواء بتدفق الأسلحة أو بإنشاء حرس للمستعمرات وحاميات صهيونية، دخل النضال الفلسطيني مرحلة الإضراب الكبير والثورة الكبرى. وقد قامت قوات الثورة بما يزيد عن 9 آلاف عملية خلال عامي 1938 و1939.
بوقوع النكبة عام 1948، واحتلال الأرض وتهجير الفلسطينيين بقوة السلاحَين الصهيوني والبريطاني، تأثرت المقاومة الفلسطينية بالعامل العربي والتفاعلات الدولية سلبًا وإيجابًا، مجسدة بذلك منعطفًا حادًّا امتزج فيه البعد الفلسطيني مع العربي، وانتزع من سياقه الفردي إلى روحه القومية مع بدء مرحلة الصراع العربي الصهيوني.
وفي سبيل المواجهة، أنشأت الهيئة العربية العليا غرفة قيادة العمليات، وقسمت فلسطين إلى 7 قيادات عسكرية، وأخذت تتكون القوى العسكرية في هذه الظروف تحت ضغط العجلة، ونتيجة الحاجة إلى وجودها، ودون إعداد مسبق.
ورغم الهزيمة العربية والفلسطينية، استمرت المقاومة الفلسطينية الجمعية والمنفردة، وقاتلت بشتى أنواع الأسلحة العسكرية والمدنية. ومع الدفع باتجاه تأسيس الكيانات والفصائل الفلسطينية، فإن ذلك لم يغيّب المقاومة الفلسطينية الشعبية عن الساحة، بل استمرت لاحقًا بالمقاومة والتظافر مع الجهود المنظمة في الانتفاضات والهبات الفلسطينية منذ مطلع الثمانينيات وحتى يومنا الحالي، على الرغم من تغيُّر الرؤى الثورية لبعض التنظيمات والقوى السياسية.
تنامي العمليات المنفردة
العمليات المنفردة ظاهرة تنامت في أعقاب عدوان غزة عام 2014، وازدادت عقب انتفاضة القدس عام 2015، وبدأت بأشكال متمثلة في الدهس والطعن فقط، وكانت تعتمد على عنصر المباغتة والمفاجأة لجنود الاحتلال، أو عناصر وحداتهم المختلفة أو حتى المستوطنين.
في أعقاب هذه العمليات، تطورت أشكال المقاومة المنفردة لتأخذ أشكالًا أخرى، كإطلاق النار أو العبوات اليدوية المعروفة فلسطينيًّا بـ “المولتوف"، أو حتى إلقاء الحجارة الكبيرة من أعالي المباني على رؤوس الجنود خلال تنفيذ عمليات الاقتحام الليلية في مدن وقرى الضفة.
ومع الأدوات التقليدية القديمة ظهر سلاح "الكارلو"، وهو سلاح رشاش أوروبي المنشأ، قُلِّد في مصر عام 1956، وأُطلق عليه اسم "بور سعيد" قبل أن يطوِّر الفلسطينيون نسختهم الخاصة التي استخدموها في مواجهة الاحتلال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وصُمِّم السلاح بواسطة المصنِّع السويدي كارل غوستاف الذي استلهمَ تصميمه من سلاح كارل غوستاف م/45.
ومع غياب التسليح، أصبح بعض المقاومين يلجؤون إلى استخدام هذا السلاح البدائي لاستهداف جنود الاحتلال ومستوطنيه، نظرًا إلى سهولة صناعته وتوفير الرصاص الخاص بإطلاقه مقارنة مع اقتناء سلاح رشاش آلي متطور في حالة الضفة والقدس.
ورغم بساطة هذه الأدوات مقارنة مع العمليات المنظمة التي اعتادت الفصائل والمقاومة على تنفيذها خلال انتفاضة القدس، إلا أنها أسهمت في إرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، تزامنًا مع حديث إسرائيلي شبه رسمي عن العجز في تطويق هذه الظاهرة.
فشل في تطويق العمليات المنفردة
استنزفت العمليات المنفردة الاحتلال في بعض الفترات، نظرًا إلى تتاليها في فترات متقاربة، وتسجيل قتلى وإصابات في صفوف الاحتلال، عدا عن أن قرار المنفّذين الفردي واللحظي في بعض الأحيان يمنع إحباط هذه العمليات، حتى لو كان المنفِّذ مسلحًا.
ومن ميزات المقاومة المنفردة بحسب الخبراء، أنها قد أصبحت رقمًا صعبًا وهاجسًا يخيف قادة أجهزة الأمن في دولة الاحتلال، فأغلب العمليات لا يوجد لها طابع تنظيمي أو مرتبطة بخلايا تابعة للفصائل الفلسطينية. حيث أن الخلايا العسكرية التابعة للمقاومة عادةً ما تكون على شكل هرمي مكوَّن من مسؤول وأفراد وقنوات اتصال، وهو الأمر الذي يمكن إحباطه عبر جمع المعلومات ومراقبة الاتصالات الخاصة بالمجموعة، بعكس العمليات المنفردة.
إن ظهور عمليات المقاومة المنفردة جاء كسبب لتراجع المقاومة المنظمة بسبب الاعتقال والتجسُّس وكاميرات المراقبة، وجدار الفصل العنصري، وعمليات المطاردة، وسياسة الباب الدوار التي انتهجتها السلطة عبر سياسة التنسيق الأمني.
هذه العمليات يعلو منسوبها ومفعولها اليوم، حيث أنها باتت ترعب العدو وتعري أجهزته الاستخباراتية التي أثبتت فشلها، وتشكل تهديدًا لأمن الكيان برمته.