مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحرك الغرب نحو تحالف دولي ضد موسكو من أجل جعل الحرب مکلفةً لروسيا عسكريًا وعزلها سياسيًا في جميع أنحاء العالم.
في غضون ذلك، كان التحول في العلاقات بين روسيا وجيرانها، من التوتر المحايد إلى التوتر النشط، من أولى مجالات الاهتمام بالنسبة لحلف شمال الأطلسي والغرب.
في هذه الأثناء، تعدّ تركيا واحدةً من الدول التي تتخذ خطوات لزيادة التوترات مع موسكو، على الرغم من الجهود المبذولة لتحقيق التوازن في العلاقات مع طرفي الأزمة.
سعت تركيا في السنوات الأخيرة إلى اتباع سياسة براغماتية لتنظيم علاقاتها مع الغرب والقوى الشرقية، ولا سيما في ظل اشتداد الخصومات السياسية والجيوسياسية بينهما، وذلك من أجل أن تصبح قوةً صاعدةً في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط والقوقاز وغرب آسيا وشمال إفريقيا.
وعلى الرغم من أن تبني مثل هذا النهج أدى في بعض الأحيان إلى زيادة قوة مناورة أنقرة في السياسة الخارجية لمواجهة ديناميكيات النظام الدولي والتطورات الإقليمية والدولية، لكن التجربة أظهرت أن أردوغان كان مرتبكًا وکثير الأخطاء في بعض الأحيان حول كيفية المضي قدماً بهذا النهج في الأزمات.
وأحدث مثال على هذا الوضع المرتبك في السياسة الخارجية لتركيا لتنظيم العلاقات مع القوى الشرقية والغربية، يمكن رؤيته في التطورات في أوكرانيا.
فمن ناحية، أدانت أنقرة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل أمام روسيا، بل أرسلت بعض المساعدات العسكرية لأوكرانيا، في محاولة للانضمام إلى مواقف الناتو الداعمة لأوكرانيا.
ومن ناحية أخرى، لم تعترف تركيا صراحةً بالعقوبات الغربية ضد روسيا، والتي كانت أهم رادع وعقاب من الغرب ضد موسكو، بل تواصل أنقرة التجارة مع موسكو.
ويجب رؤية سبب هذا الحساب أيضًا في أرقام العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين. حيث تعدّ روسيا شريكًا تجاريًا حيويًا لاقتصاد تركيا المتأزم، إذ تزوِّد تركيا بنسبة 45 في المئة من الغاز الطبيعي و 70 في المئة من القمح.
ويعتبر الأخير(القمح) من الواردات ذات الأولوية القصوى بشكل خاص، حيث كان ارتفاع أسعار الخبز مصدرًا رئيسيًا لعدم الرضا والاستياء العام في تركيا في الأشهر الأخيرة.
کما تعدّ روسيا أيضًا أكبر مصدر للسياح إلی تركيا، حيث استحوذ 4.7 ملايين زائر روسي على 19٪ من إجمالي السفر إلی هذا البلد في عام 2021.
ومع ذلك، حتى نهج أنقرة الملتوي والمزدوج في مسايرة الضغط الغربي على روسيا والحفاظ على قنوات الاتصال مع موسكو، لم يؤد إلى السيطرة الكاملة على التوترات المحتملة مع الكرملين.
وبينما أفادت وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة مرارًا وتكرارًا عن غارات بطائرات تركية دون طيار موجودة لدی أوكرانيا ضد مواقع عسكرية روسية، ولا سيما غرق سفينة حربية روسية يُزعم أن هذه الطائرات قد ضربتها، أُعلن مؤخرًا أن تركيا لم تسمح برحلات جوية عسكرية روسية إلى روسيا.
وفي الأسبوع الماضي أيضًا، خلال قصف الجيش التركي لمناطق كردية شمالي سوريا، أفاد شهود عيان باستهداف بعض المناطق قرب القاعدة العسكرية الروسية في قرية مباقر وقريتي تل شنان والدردارة على أطراف تل تمر.
من الواضح أن أردوغان، بناءً على استراتيجيته الأوراسية، يسعى إلى إنهاء الأزمة بين شريکيه التجاريين الرئيسيين في أقرب وقت ممكن، ولكن كلما طال أمد الأزمة، زادت صعوبة استمرار أنقرة في لعبتها المحايدة.
وخاصةً أن وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين قد حذرت من عواقب تخفيف العقوبات المفروضة علی روسيا، في اجتماع للمجلس الأطلسي قبل أسبوع من الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ تحذيرٌ کان موجهًا بشكل أساسي إلى الصين، ولكن أقلق تركيا أيضًا.
وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن شظايا تصعيد التوترات بين روسيا وتركيا تتجه أولاً إلى التطورات السورية، حيث عقد البلدان، بوصفهما لاعبين مهمين في تطورات سوريا على مدى العقد الماضي، عدة اتفاقيات تحت عنوان مناطق خالية من التوتر.
انخراط روسيا في أزمة أوكرانيا وتركيزها العسكري على الحرب، وهو ما قد يؤدي لاحقاً إلى عودة القوات والمعدات من سوريا إلى روسيا، كما وردت أنباء غير مؤكدة عن إخلاء بعض القواعد العسكرية الروسية في سوريا، أتاح فرصةً لأنقرة لإحراز تقدم عسكري في شمال سوريا، بهدف إنشاء منطقة عازلة على عمق 30 كم.
هذه القضية لم تغب عن الروس بالطبع، حيث قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: "نرى أسباب التدهور الحالي في فشل تركيا المزمن في الوفاء بالتزاماتها بموجب مذكرة تفاهم سوتشي المؤرخة 17 سبتمبر 2018، ونقل أنقرة للوحدات التي تسيطر عليها ما يسمى بالمعارضة المسلحة المعتدلة إلى شمال شرق سوريا".
في المقابل، ردت روسيا على تصعيد تركيا للتوترات بشن هجمات جوية وصاروخية على عدة مواقع في إدلب، لكن الجماعات الإرهابية المسلحة والقوات التركية سرعان ما قصفت معسكر "جورين" في الغاب بمحافظة حماة بالمدفعية والصواريخ.
وفي هذا السياق، رأی مركز "جسور" للدراسات أن تصعيد التوترات هو محاولة تركيا إظهار استعدادها لمواجهة أي ضغط عسكري من روسيا، التي تقلص نفوذها في شمال شرق سوريا بشكل كبير.
هذه الإجراءات يمكن أن تخلق حالة حرب جديدة في الأسابيع والأشهر المقبلة في التطورات في سوريا، لکن البعد الآخر بالطبع يمكن أن يكون الاستغلال المتبادل للحكومة السورية وحلفائها في محور المقاومة، لتوسيع الوجود العسكري في المناطق التي كان للجيش السوري وجود محدود فيها أولاً، وتمهيد الطريق للتحرير الكامل للأراضي المحتلة من قبل الإرهابيين والمحتلين الأجانب، وخاصةً إدلب ثانيًا.