• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
دراسات

التداعيات الجيواستراتيجية للأزمة الأوكرانية على أوروبا


تمهيد

الحرب في أوكرانيا ليست الأولى التي تندلع في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، فقد سبقتها حرب البوسنة والهرسك وحرب كوسوفو، ولكنها لا شك الأخطر التي تواجه أوروبا والغربَ ككل منذ انهيار نظام القطبية الثنائية عام 1991 نظراً إلى تداعياتها المختلفة ليس فقط على منطقة أورو آسيا وإنما أوروبا وربما العالم برمته، حيث سيكون لها تأثيرات خطيرة على الجغرافيا السياسية للقارة الأوروبية، التي لن تكون – مهما كانت النتيجة – كما كانت قبل الحرب. فقد أدى "الاجتياح" الروسي لأوكرانيا إلى تصعيد الصراع الأخير بين الشرق والغرب على أوكرانيا، مما أدى إلى تحويل النزاع الاقتصادي والدبلوماسي إلى أزمة جيوسياسية كبرى إقليمية وعالمية بامتياز.

وتهدف هذه الورقة، في هذا السياق، إلى البحث في الأسباب العميقة للأزمة وكيف تحولت أوكرانيا إلى نقطة اشتعال جيواستراتيجية، ومن ثم التداعيات المتوقعة على الجغرافيا السياسية لأوروبا وما إذا كانت أوروبا قادرة على أن تخط طريقاً مستقلاً عن الولايات المتحدة أم ستبقى معتمدة على الناتو لعقود مقبلة خاصة وأن المحافظة عليه مصلحة حيوية مشتركة لضفتي الأطلسي؟

خلفية تاريخية

رغم اختفاء التهديد المشترك لأوروبا والغرب عموما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بقي هاجس الأمن مسيطراً نظراً إلى حالة عدم اليقين التي سادت حول المسار الذي ستتخذه العلاقات الأوروبية مع المنافسين الدوليين القائمين والمحتملين وفي مقدمتهم بالطبع روسيا؛ فرغم التحديات المختلفة التي تواجه أوروبا منذ عقدين والنقاش المتواتر لاسيما في الولايات المتحدة بشأن الصين كتحدي، كانت روسيا الهاجس الأكبر لأوروبا، وذلك بالطبع لعوامل موضوعية مختلفة أهمها:

أولاً – العامل التاريخي: فروسيا كانت في صراع أو تنافس تاريخي مستمر مع الإمبراطوريات الأوروبية، ولم تكن الحرب الباردة سوى فصل من فصول ذلك التاريخ من العلاقات المتوجسة، رغم فترات التقارب التي كانت تفرضها الظروف وتقاطع المصالح.

ثانياً – العامل الديني: فروسيا أرثوذكسية وأوروبا الغربية كاثوليكية؛ ولطالما كان هناك صراع تاريخي بين الكنيستين، ولا شك أن هذا العامل كان دائما يلقي بظلاله على العلاقة بين الطرفين.

ثالثاً – القرب الجغرافي: فروسيا في الواقع جزء من أوروبا رغم أن معظم أراضيها تقع في قارة آسيا. وقد كان الأوربيون وما يزالون متوجسين من أن تكون روسيا جزءاً منهم وذلك بحكم حجمها الجغرافي وبالطبع السكاني، فمساحتها ضعف مساحة أوروبا تقريبا (17.13 مليون كلم مربع)، وسكانها حوالي 150 مليون نسمة، يشكلون نحو 25% من سكان القارة (748 مليون نسمة.

ومع هذا، فقد سعت الدول الأوروبية إلى التقارب مع روسيا وكان هناك انفتاح كبير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث بدأت فرصة تحول روسيا إلى اقتصاد السوق وتبني الليبرالية الغربية في النهج السياسي أيضاً أمراً ممكنا؛ وتدريجياً تعمقت مصالح أوروبا مع روسيا وأصبحت هناك حالة من شبه الاعتماد المتبادل في الاقتصاد؛ فالعديد من الدول الأوروبية وخاصة ألمانيا، أكبر دولة في القارة وقاطرتها الاقتصادية، تعتمد على روسيا في الطاقة، بينما تشابك الاقتصاد الروسي بالاقتصاد الغربي وأصبح هنالك حالة من الاعتماد الكبير على الغرب حيث تتوزع الاستثمارات الروسية في دول أوروبية عدة.

حدث كل ما سبق في عهد بوتين، الرئيس القادم من الكي جي بي، الذي لم يكن قادرا على إخفاء طموحاته في إعادة بناء روسيا القيصرية وأمجاد الإمبراطورية السوفيتية، وقد ظهر هذا واضحا في التصريحات وكذا التصرفات، خاصةً بعد تمكُنِه من إعادة التوازن لروسيا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.

عززت الطموحات البوتينية من القلق الأوروبي؛ فرغم أن الأوروبيين استمروا بالنظر إلى روسيا في إطار المنافس، فقد بدأوا ينظرون إليّها كتهديد بعد قيامها باجتياح جورجيا عام 2009. وتعمق هذا الشعور بشكل واضح بعد ضم القرم عام 2014. فقد كان ذلك حدثا كبيراً في رمزيته وكذا أهميته الاستراتيجية؛ فرمزيته تكمن في أن روسيا اقتطعت جزءاً من أوروبا بالقوة، وهذا أمر يحدث لأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبعده الاستراتيجي يتمثل في أن السيطرة على شبه جزيرة القرم يمنح موسكو وصولاً دائما إلى القاعدة البحرية في سيفاستوبول، موطن أسطول البحر الأسود الروسي الذي يوفر لها قدرة تشغيلية كبيرة داخل المنطقة برمتها.

كما أن السيطرة على شبه الجزيرة يزود روسيا بقدرات دفاعية استراتيجية مهمة تمكنها من التعامل مع التهديدات البحرية التي يمكن أن تثيرها دول أخرى في المنطقة وتشكل تهديدا للمصالح الروسية داخل البحر الأسود؛ ولهذا بدأت التصريحات الأوروبية تتوالى بشأن اعتبار روسيا أكبر تهديد لأمن أوروبا.

بالطبع لم يكن تصرف روسيا بهذه “العدوانية” من دون سبب؛ فهناك عوامل رئيسية تدفع روسيا نحو تبني منهجا أكثر واقعية وهو سلوك الأوروبيين أنفسهم ومن ورائهم الولايات المتحدة. فقد أعلنت روسيا بشكل قاطع رفضها توسع حلف الأطلسي واعتبرت ذلك تهديدا لأمنها وأنها لن تقبل به وتعتبره خطاً أحمراً، وهذا يعد أمرا محل اعتبار من الناحية الواقعية؛ ففي ظل حالة عدم الثقة السائدة، لا يمكن لدولة مثل روسيا أن تسمح بأن تكون قوات الحلف على حدودها مباشرة، تماما كما لا يمكن لأوروبا ولا أمريكا أن تقبل بذلك من قبل أي دولة أو قوة أخرى من خارج المجال الحيوي الغربي؛ ومن هنا فقد تعمقت أزمة من عدم الثقة بين الطرفين وبدأت تزداد الفجوة لاسيما مع تحدي روسيا للغرب في مناطق من خارج أورو آسيا كالشرق الأوسط ومؤخراً أفريقيا. كل هذا كان منظوراً بينما تتجه الأوضاع نحو الانفجار في أوكرانيا.

كيف أصبحت أوكرانيا نقطة اشتعال جيوسياسية؟

كانت أوكرانيا حجر الزاوية في الاتحاد السوفيتي، العدو اللدود للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وهي ثاني أكبر الجمهوريات السوفيتية الخمس عشرة بعد روسيا من حيث عدد السكان، وموطناً لكثير من الإنتاج الزراعي والصناعات الدفاعية والعسكرية في الاتحاد، بما في ذلك أسطول البحر الأسود وبعض الترسانة النووية. وقد مثل استقلالها عام 1991 في استفتاء شعبي ضربة للاتحاد الروسي، رغم اعتراف روسيا بها دون شروط. وبقيت أوكرانيا حيوية للغاية بالنسبة للاتحاد الروسي حتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ وذلك لأسباب تتعدى مسألة العلاقات الثقافية والاجتماعية لتشمل الأبعاد الجيوسياسية والاستراتيجية وكذلك الاقتصادية.

أبرز المصالح الروسية في أوكرانيا

تتمتع روسيا بعلاقات عميقة مع أوكرانيا على مختلف المستويات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. وتعتبر أوكرانيا من نواح كثيرة مركزية لهوية روسيا، ليس فقط لأن فيها ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي، يقطن معظمهم في الجنوب والشرق، ولكن أيضا لموقعها الجيواستراتيجي كمنطقة عازلة بين روسيا وأوروبا.

منذ البداية اعتبر العديد من السياسيين الروس أن استقلال أوكرانيا كان خطأ تاريخيا وكان الكثيرون ينظرون إلى خسارتها والسماح لها بالوقوع في أحضان الغرب، على أنها ضربة كبيرة لمكانة روسيا الدولية.

وفيما يتعلق بشبه جزيرة القرم، فقد كانت دائما وأبداً محط نظر موسكو. فهي بالأساس روسية، وقد نقلها الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف إلى أوكرانيا في عام 1954 لتقوية “العلاقات بين الشعبين. لذلك ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي، يتوق الكثير من القوميين الروس سواء في روسيا أو في القرم نفسها إلى عودة شبه الجزيرة، ليس لارتباطها التاريخي فقط، ولكن لموقعها الاستراتيجي أيضا؛ فمدينة سيفاستوبول هي الميناء فقط الرئيسي لأسطول البحر الأسود الروسي القوة البحرية المهيمنة في المنطقة.

وفيما يتعلق بالاقتصاد، كانت روسيا لفترة طويلة أكبر شريك تجاري لأوكرانيا، ولكن هذا الارتباط تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث تجاوزتها الصين التي أصبحت أكبر شريك تجاري لأوكرانيا في الصادرات. وكانت روسيا قبل غزوها لشبه جزيرة القرم، تأمل في جذب أوكرانيا إلى سوقها الموحدة، المعروفة باسم الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم بالإضافة إليها أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان، ولكنها لم تنجح.

وفيما يتعلق بقطاع الطاقة، فقد اعتمدت روسيا على خطوط الأنابيب الأوكرانية لضخ الغاز إلى وسط وشرق أوروبا لعقود من الزمن، وهذا كان بالطبع يوفر مليارات الدولارات إلى كييف سنوياً كرسوم عبور. وفي منتصف عام 2021، أكملت روسيا بناء خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يمتد تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا. وكانت تعول عليه روسيا كثيرا حيث سيمكنها من نقل الغاز إلى ألمانيا ويقلل الاعتماد على أوكرانيا. ولكن الخط له أبعاد أكبر بكثير، ولطالما حذرت الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا من أن نورد ستريم 2 سيسمح لروسيا بتجاوز خطوط الأنابيب الأوكرانية إذا أرادت والأهم ستكتسب نفوذاً جيوسياسيا أكبر في المنطقة.

وفيما يتعلق بالنفوذ الإقليمي، كانت روسيا عازمة على الحفاظ على نفوذها السياسي في أوكرانيا وفي جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق. وبالمقابل سعت أوكرانيا منذ استقلالها إلى شق طريقها الخاص كدولة ذات سيادة وتطلعت منذ البداية إلى دخول الاتحاد الأوروبي والانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو). ولكن ذلك لم يكن أمرا سهلا وسط انقسامات داخلية عميقة؛ حيث دعم السكان القوميون الناطقون بالأوكرانية في الأجزاء الغربية من البلاد بشكل عام اندماجاً أكبر مع أوروبا، بينما فضل المجتمع الناطق بالروسية في الشرق إقامة علاقات أوثق مع روسيا؛ وهذا بالطبع كان ينعكس في الثورات المتتالية (البرتقالية 2004 والحرية والكرامة 2014) وفي نتائج الانتخابات. ففي عام2004 خسر مرشح روسيا المفضل لمنصب الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، أمام منافس إصلاحي على إثر الثورة البرتقالية. جاءت هذه الصدمة بعد هزيمة انتخابية مماثلة للكرملين في جورجيا في عام 2003، عُرفت باسم ثورة الورود، وأعقبتها ثورة أخرى عرفت باسم ثورة التوليب في قرغيزستان في عام 2005. وانتعشت أمال روسيا مجدداً بعد أن أصبح يانوكوفيتش رئيساً لأوكرانيا في عام 2010، بسبب استياء الناخبين الأوكرانيين من الحكومة البرتقالية.

تفاقم الصراع مع تعرقل مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي

كانت مسـألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عاملاً مهما في توجهات الشارع الأوكراني. وقد ارتبطت الأزمة الأوكرانية منذ بدايتها الفعلية عام 2014 بالتنافس بين روسيا والغرب لأن سببها، بل ومحورها الرئيسي في الأصل هو مساعي أوكرانيا لتقارب أكبر مع الاتحاد الأوروبي تمهيدا لدخول حلف الناتو. ففي نوفمبر 2013 اندلعت احتجاجات في العاصمة كييف ضد قرار الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا لرفضه صفقة من أجل تكامل اقتصادي أكبر مع الاتحاد الأوروبي. وشنت قوات الأمن حملة قمع ضد الاحتجاجات فاقمت من الأزمة بدل أن تخمدها. وتم على إثرها خلع الرئيس يانوكوفيتش الموالي لروسيا من قبل البرلمان فهرب خارج البلاد في فبراير 2014، لتبدأ مع هذا صفحة جديدة في العلاقات الروسية-الأوكرانية تجاوز مداها العلاقات الثنائية لتطال علاقة روسيا بالغرب ككل.

وكرد فعل قامت روسيا في مارس 2014، بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، بحجة حماية حقوق المواطنين من أصل روسي في شبه الجزيرة وجنوب شرق أوكرانيا، ومن ثم قامت بضمها رسمياً بعد أن صوت سكانها في استفتاء شعبي للانضمام إلى الاتحاد الروسي. وزادت الأزمة من حدة الانقسامات العرقية، فبعد شهرين أجرى الانفصاليون الموالون لروسيا في منطقتي دونيتسك ولوهانسك في شرق أوكرانيا استفتاء لإعلان الاستقلال عن أوكرانيا، واندلعت بعدها أعمال عنف بين الجيش الأوكراني والقوات الانفصالية أسفرت عن مقتل وجرح عشرات الآلاف.

وعلى الرغم من أن موسكو دأبت على نفي تورطها في النزاع، إلا أن أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي لم يتوقفا عن اتهامها بدعم الانفصاليين وتقديم السلاح لهم.

ومنذ فبراير2015، حاولت فرنسا وألمانيا وروسيا التوسط لوقف العنف وقد تم التوصل بالفعل إلى اتفاق مينسك. يتضمن الاتفاق أحكاماً لوقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة، والسيطرة الكاملة للحكومة الأوكرانية على جميع أنحاء منطقة الصراع، ومع ذلك، باءت الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية دبلوماسية وحل مرضٍ بالفشل.

في هذه الأثناء وتحسبا من التوسع الروسي، كان حلف الأطلسي يتخذ إجراءات تبدو تصعيدية. ففي أبريل 2016، أعلن الحلف أنه سينشر أربع كتائب في أوروبا الشرقية، مع تناوب القوات عبر إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا لردع أي “عدوان” روسي محتمل في أماكن أخرى في أوروبا، لاسيما في دول البلطيق. وانضم إلى هذه الكتائب لواءان من الدبابات التابعة للجيش الأمريكي، تم نشرهما في بولندا في سبتمبر 2017 لتعزيز الردع، وهذا بالطبع زاد من غضب روسيا التي واصلت التحذير من نشر صواريخ موجهة على أراضي أي دولة من دول الاتحاد السوفيتي السابق.

وبينما كانت الأزمة مستمرة على أكثر من صعيد، زادت المساعدة الأمنية لأوكرانيا بشكل أكبر لاسيما خلال إدارة دونالد ترامب. كما زادت الضغوط الغربية على روسيا بسبب تورطها في شرق أوكرانيا. وفي يناير 2018، فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة روسيا، ووافقت على بيع أسلحة مضادة للدبابات لأوكرانيا، وهي أول عملية بيع لأسلحة فتاكة منذ بدء الصراع.

تواصل التصعيد من قبل الطرفين. ففي أكتوبر 2018، انضمت أوكرانيا إلى الولايات المتحدة وسبع دول أخرى في الناتو في سلسلة من المناورات الجوية واسعة النطاق في غرب أوكرانيا. وجاءت تلك التدريبات بعد أن أجرت روسيا تمارين في سبتمبر 2018، هي الأكبر منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.

كل هذه التطورات كانت تعكس تنافساً محموماً بين الطرفين، وصراع كامن حول النفوذ والسيطرة في المنطقة العازلة بين روسيا والغرب وهي أوكرانيا. لكنه بالمقابل يعكس أمرا مهما ساهم فيما وصلت إليه الأمور لاحقا، وهو عدم اكتراث الغرب بمخاوف روسيا الأمنية وإصرارها على المضي قدما في مفاوضات ضم الدول التي ترفض روسيا بشكل قاطع انضمامها للحلف وأهمها بالطبع أوكرانيا.

هل كان توسيع الناتو العامل الحاسم؟

لا شك أن هناك دوافع عدة وراء الغزو الروسي أوكرانيا، ولكن يبدو أن توسيع عضوية الناتو هي العامل الأقوى الذي ترتبط به العوامل الأخرى. فلطالما رفضت روسيا توسع الحلف واعتبرته خطراً لأمنها. بالمقابل كان الأوروبيون ماضون في عملية التوسع. في عام 2004، أضاف الناتو سبعة أعضاء، وهو خامس توسع له والأكبر حتى الآن، بما في ذلك جمهوريات البلطيق السوفيتية السابقة إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. وبعد أربع سنوات، عندما أعلن الناتو عزمه على ضم أوكرانيا وجورجيا في وقت ما في المستقبل، أوضحت روسيا أنه تم تجاوز الخط الأحمر.

في الأسابيع التي سبقت قمة الناتو عام 2008، حذر الرئيس فلاديمير بوتين الأمريكيين من أن خطوات ضم أوكرانيا إلى الحلف “ستكون عملا عدائيا تجاه روسيا”. بعد أشهر، دخلت روسيا في حرب مع جورجيا مما أظهر استعداد بوتين لاستخدام القوة لتأمين مصالح روسيا.

ومع هذا، هناك آراء أخرى ترى أن هذا العامل ليس الحاسم، وإنما تم استغلاله حيث تم حل مسألة توسع الناتو إلى حد كبير بعد عام 2008 حيث فقدت الحكومات الغربية اهتمامها وزادت روسيا نفوذها في أوكرانيا.

بدلاً من ذلك كان العامل الأكبر وراء تدخل روسيا هو خوف بوتين من فقدان السلطة في الداخل، لاسيما بعد اندلاع الاحتجاجات التاريخية المناهضة للحكومة في روسيا في أواخر عام 2011. واتهام بوتين جهات أمريكية بإثارة الاضطرابات، وبعد ذلك بدأ في تصوير الولايات المتحدة على أنها عدو لدود لحشد قاعدته السياسية. ما يؤيد هذا الرأي أن التدخل الروسي في أوكرانيا حظي بشعبية كبيرة داخل روسيا، وزاد من معدلات تأييد بوتين إلى أكثر من 80% بعد انخفاض مطرد في شعبيته بسبب عوامل مختلفة تتعلق بالاقتصاد والحريات وتغيير الدستور …إلخ.

التصعيد الأخير وتحول أوكرانيا إلى تهديد محتمل لروسيا

مع تزايد الحديث عن إمكانية قبول أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، والأخطر بالنسبة لروسيا بالطبع المساعي لضمها إلى حلف الناتو، كانت روسيا تستشعر الخطر، حيث ستصبح قوات الناتو وصواريخه على حدودها الغربية مباشرة. ونتيجة لهذا بدأت روسيا تتبنى استراتيجية مختلفة هدفها السيطرة على أوكرانيا، ونزع سلاحها وتحييدها، وإعادتها إلى حضن روسيا عبر سلطة موالية؛ وما مسألة دونباس في الواقع إلا ذريعة لذلك. فبدأت في أكتوبر عام 2021، تحشد قواتها على الحدود مع أوكرانيا، ما أثار مخاوف الغرب الذي لم يتوقف عن التحذير من اجتياح روسي وشيك لأوكرانيا، ولكن دون أن يبدي استعدادا واضحا أو حاسما للاستجابة لمخاوف روسيا الأمنية. فقامت روسيا منتصف ديسمبر 2021، بتسليم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) ملفا بمجموعة من المطالب يتضمن وقف أي نشاط عسكري في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، والالتزام بعدم توسيع الناتو تجاه روسيا، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف في المستقبل. وقد رفضت الولايات المتحدة وحلفاء آخرين في الناتو هذه المطالب وحذروا روسيا من أنها ستتعرض لعقوبات اقتصادية قاسية إذا غزت روسيا أوكرانيا.

مع تنامي نُذر التصعيد، وظهور بوادر فشل المفاوضات أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن في أوائل فبراير 2022، بنشر حوالي ثلاثة آلاف جندي أمريكي في بولندا ورومانيا – دول الناتو المتاخمة لأوكرانيا – لمواجهة القوات الروسية المتمركزة بالقرب من حدودها مع أوكرانيا وطمأنة حلفاء الناتو. وجرت مفاوضات بين روسيا وأمريكا والقوى الأوروبية – بما في ذلك فرنسا وألمانيا – لكن لم ينتج عنها أي شيء.

وبينما كان الغرب يحذر من غزو وشيك، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير اعترافه بإقليمي لوهانسك ودونيتسك، وأعلن بعدها أنه سيرسل القوات لـ “حفظ السلام” هناك. ردت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على لوهانسك ودونيتسك وخط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 بعد أيام قليلة. وفي 24 فبراير، وأثناء انعقاد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لثني روسيا عن مهاجمة أوكرانيا، أعلن بوتين بداية غزو بري وبحري وجوي واسع النطاق لأوكرانيا استهدف الأصول العسكرية الأوكرانية والمدن في جميع أنحاء البلاد. بالمقابل ردت الولايات المتحدة بالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين بعقوبات صارمة غير مسبوقة. وبعيدا عن مسألة سوء التقدير الروسي لردة الفعل الغربي، فإن روسيا لا تبدو أنها، على الأقل حتى الآن، تأبه كثيرا بذلك رغم تداعياته الخطيرة على اقتصادها، لأن أوكرانيا أصبحت مسألة أمن قومي. وبعد مرور شهر كامل من الحرب لا يوجد هناك أفق قريب لإنهائها. فرغم التقدم في المفاوضات، يبدو أن الطرفين بَعِيدَينِ عن حل دائم وشامل؛ فروسيا تريد كل شيء تقريباً أو لا شيء.

التداعيات الجيواستراتيجية على أوروبا

سيكون للحرب تداعيات على الوضع الجيوسياسي في أوروبا وما وراءها أيضا، ولكن لا شك أن مسار هذا التأثير سيعتمد على عوامل مختلفة وربما أهمها المسار الذي ستنتهي به الحرب؛ فإن لم تستطع روسيا تحقيق أهدافها من خلال الحرب فلا يبدو أنها ستستطيع تحقيق ذلك من دونها. ولكن إذا ما تمكنت من السيطرة على أوكرانيا وهذا متوقع إذا لم يتم تقديم دعم حاسم سريعا للقوات الأوكرانية لشل التقدم الروسي، فإن أوكرانيا بهذه النتيجة ستكون قد انفصلت فعلياً عن الغرب وهذا سيكون له تداعيات كبيرة على مستقبل القارة الأوروبية وعلاقتها الخارجية الأمنية برمتها ولا شك أن أوروبا ما قبل الغزو لن تكون كما هي قبله.

أولاً – بداية حقبة جديدة لضفتي الأطلسي

إن سيطرت روسيا على أوكرانيا، وتحقيق أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية، تعني بداية حقبة جديدة لأوروبا وحليفتها الولايات المتحدة، حيث سيواجه القادة في ضفتي الأطلسي تحديا مزدوجا: الأول يتمثل في إعادة التفكير في الأمن الأوروبي والثاني، عدم الانجرار إلى حرب أكبر مع روسيا قد تقود لحرب عالمية ثالثة، وهو ما يسعى الجميع إلى تجنبه، حيث ستكون نتائجها كارثية بالنظر إلى ما يمتلكه الأطراف من أسلحة نووية يمكنها أن تدمر الكرة الأرضية مرات – وتكفي بالطبع مرة واحدة لإنهاء الحياة عليها. هاذان الأمران – الدفاع بقوة عن الأمن الأوروبي وتجنب التصعيد العسكري مع روسيا – لا يبدو أنهما يسيران بشكل متوافق بالضرورة.

ثانيا – اعتماد أوروبا على الناتو يصبح محل شك

قد تكون قدرة الاتحاد الأوروبي أو الناتو على حفظ الأمن والسلام في القارة محل شك بالفعل؛ حيث ينحصر الأمن في أوروبا في الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بينما يتوجب على الدول الأخرى من خارج الحلف أن تتدبر أمرها بنفسها، ربما باستثناء فنلندا والسويد اللتان تسيران على طريق الانضمام. قد لا يكون هذا بالضرورة قراراً بإنهاء سياسة التوسع؛ لكن هذا سيحدث بحكم الأمر الواقع في ظل الحصار المتصور من قبل روسيا، لن يكون لدى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي القدرة على السياسات الطموحة خارج حدودهما. كما ستبذل روسيا كل جهد ممكن من أجل إضعاف الالتزام بحلف الناتو والعلاقة عبر الأطلسي، وقد تنشط من خلال أساليب اعتادت عليها من قبل مثل التأثير على الرأي العام والانتخابات في الدول الأوروبية، ومن ثم ستسعى لزعزعة الاستقرار السياسي في أوروبا. فالسيادة الروسية على أوكرانيا ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار وانعدام الأمن في منطقة أورآسيا برمتها من إستونيا إلى بولندا ومن رومانيا وحتى تركيا. وسيكون الوجود الروسي في أوكرانيا مصدر قلق دائم لكل جيران أوكرانيا واستمراره سيشكل تهديدًا حقيقياً لأمنهم.

بالمقابل فإن السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي الحالية – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها، وبالتالي ستكون مسألة طمأنة دول الاتحاد الأوروبي الشرقية من ناحية عسكرية أمرا أساسيا؛ بالطبع لن يكون الرد بالعقوبات والحديث المتكرر عن نظام دولي قائم على القواعد كافياً لردع روسيا أو وقف طموحاتها التوسعية.

ثالثا – تغيير خارطة القوى العسكرية في أوروبا

في حالة انتصار روسيا في أوكرانيا، لا شك أن الخارطة العسكرية للقوى الأوروبية ستتغير، ولكن ليس بشكل فوري حيث توجد عقبات وتحديات.  فموقع ألمانيا في أوروبا سيتعرض لتحديات شديدة. ألمانيا أكبر دولة أوروبية سكانا واقتصاديا، ولكنها ليست كذلك عسكريا، حيث أسست هويتها السياسية بعد الحرب العالمية الثانية على رفض الحرب. ولا شك أن القرارات الأخيرة فيما يتعلق بالإنفاق الدفاعي مهمة وتمثل تحول غير مسبوق، ولكن سيمر وقتا طويلا قبل أن تظهر ألمانيا كقوة عسكرية كبرى. وهنا ستبقى فرنسا والمملكة المتحدة الأكثر قدرة على الاضطلاع بأدوار قيادية في الشؤون الأوروبية بفضل جيوشهما القوية نسبياً والتقاليد العريقة في التدخل العسكري. ومع ذلك، سيظل العامل الرئيسي في أوروبا هو الولايات المتحدة حيث سيعتمد الناتو بدرجة رئيسية على دعمها لسنوات أو عقود.

رابعا – حرب اقتصادية دائمة وشاملة

قد تظل حالة التصعيد الدائمة بين روسيا وأوروبا باردة من منظور عسكري سواء خلال الحرب أو حتى بعد انتهائها، ولكنها ستكون ساخنة اقتصادياً، حيث ستكون الولايات المتحدة وأوروبا في حالة حرب اقتصادية شاملة وربما دائمة مع روسيا؛ فسيواصل الغرب فرض عقوبات كاسحة، بينما ستسعى روسيا دون شك لتتجنبها بوسائل مختلفة. قد تقف الصين إلى جانب روسيا في هذا الجانب حيث من الطبيعي أن تتجه موسكو إلى تعزيز علاقاتها مع بكين ولاسيما أن كلاهما أصبح يمثل تحديا حقيقيا للغرب.

بالمقابل ورداً على ذلك، ستنتقم روسيا، في مجالات مختلفة منها على الأرجح المجال السيبراني، وكذلك في قطاع الطاقة حيث قد تلجأ إلى قطعها في لحظة ما وسيكون هذا سلاحا فتاكا خاصة وأن عملية إيجاد البدائل ستأخذ وقتا طويلا وتحديات كثيرة.

خامساً – تعزيز الشعوبية مع تفاقم مشكلة اللاجئين

ستؤدي التدفقات الهائلة للاجئين إلى أوروبا إلى تفاقم سياسة الاتحاد الأوروبي المتعلقة باللجوء وتوفير أرض خصبة للشعبويين واليمين المتطرف، وستنعكس بشكل واضح في الانتخابات الرئاسية لدول أوروبا مثل فرنسا التي ستجرى فيها انتخابات رئاسية قريبا، وكذلك الانتخابات الرئاسية لعام 2024 في الولايات المتحدة حيث يبدو ترامب والكثيرون من حوله متأهبين لاستغلال هذه الفرصة التاريخية. والحقيقة أن مستقبل أوروبا سيعتمد كثيرا على هذه الانتخابات المقبلة، فلو افترضنا أن دونالد ترامب أو مرشح يتبع له أو يدعمه تولى السلطة فإن هذا قد ينطوي على مخاطر كثيرة وربما تدمير للعلاقة عبر الأطلسي، مما يضع موقف الناتو وضماناته الأمنية لأوروبا موضع تساؤل حقيقي.

بالطبع لن يقف الأوربيون مكتوفي الأيدي وهم يدركون إمكانية حدوث مثل هذه اللحظة الحاسمة؛ ولهذا من الطبيعي أن يفكروا في اليوم الذي عليهم أن يعتمدوا فيه على أنفسهم لضمان أمنهم وعدم الارتهان بالولايات المتحدة؛ فالمصالح تتبدل وتتغير بشكل غير مسبوق، وقد كان تحالف أوكوس بين أستراليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة أحد أهم المؤشرات التي حركت شيئا من هذا القبيل لدى الأوروبيين، ومن قبل بالطبع ترامب وازدرائه للناتو وحتى المؤسسات الدولية الأخرى.

سادساً – تغير استراتيجية الولايات المتحدة في أوروبا

بالنسبة للولايات المتحدة، سيكون لنصر روسيا آثار عميقة على استراتيجيتها الكبرى ليس فقط في أوروبا بل وفي مناطق أخرى من العالم ولاسيما الشرق الأوسط وآسيا. فسيتطلب النجاح الروسي في أوكرانيا من واشنطن أن تركز على أوروبا وتزيل أي غموض بشأن المادة 5 من الناتو، وهذا ما تفعله إدارة بايدن وتعيد التأكيد عليها دائما؛ ففي ظل عدم وجود نظام أمني أوروبي، فإن التزاما أمريكيا قويا بأمن أوروبا هو ما سيمنع روسيا من تجاوز الحدود وتقسيم الدول الأوروبية مجدداً، وهذا بالطبع أمر حيوي لمصالح أمريكا؛ فالولايات المتحدة تمتلك أسهما تجارية كبيرة في أوروبا، وكلاهما أكبر شريك تجاري واستثماري للآخر، حيث بلغ إجمالي تجارة السلع والخدمات 1.1 تريليون دولار في عام 2019. ومن ثم ستعزز أوروبا المستقرة والآمنة مصالح أمريكا ليس فقط الاقتصادية وإنما أيضا السياسية؛ حيث يخدم هذا بشكل كبير سياستها الخارجية، هذا يعني أن زعزعة استقرار أوروبا، سيضع موقع أمريكا العالمي على المحك حيث ستكون الولايات المتحدة وحيدة في مواجهة التحديات العالمية المتشابكة.

والناتو سيكون الوسيلة الأهم التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها توفير الأمن لأوروبا وردع أي تهديدات خارجية. ولعل من أهم تأثيرات الحرب في أوكرانيا أنها أحيت الناتو باعتباره تحالفاً عسكرياً دفاعياً، وعلى الرغم من أن الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، إلا أن غزو روسياً لأوكرانيا سيدفع كل عضو في الناتو إلى زيادة إنفاقه الدفاعي، وقد بدأت بوادر ذلك واضحة. وتبدو الفرصة الآن سانحة للأوروبيين لتحسين قدراتهم الدفاعية ليس فقط لحماية أمنهم، ولكن أيضاً للقيام بدور مساعد أكبر لدعم استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع ما يمكن تسميته المعضلة الروسية الصينية التي يبدو أنها ستميز العلاقات الغربية مع العالم في السنوات وربما العقود القادمة.

الخلاصة:

إن اجتياح روسيا لأوكرانيا، وبغض النظر على المبررات ومدى واقعيتها، يعيد إلى أوروبا ما كان يعتبر شيئاً من الماضي: الصراع الإقليمي وتغيير الجغرافيا بالقوة. فالقارة العجوز لديها تاريخ طويل من التنافس بين القوى العظمى وصراع المصالح الذي تسبب في حربين عالميتين مدمرتين وتقسيم أوروبا جغرافيا وأيدولوجيا. ولكن مع إعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وإعادة توحيد القارة بعد انتهاء الحرب الباردة، اعتقد الأوروبيون أنهم تغلبوا على تلك الفترات المظلمة، وذلك النوع من سياسات القوة أو الواقعية، حيث دخلوا حقبة جديدة من الأمن والاستقرار الدائم، بينما حلت القوة الناعمة إلى حد كبير محل القوة الصلبة، وتم تأسيس نظام قاري قائم على المصالح والمنافع المتبادلة. ولكن كل هذه الافتراضات أصبحت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا موضع تساؤل بالفعل، حيث عادت سياسات القوة، والتي ستحدث تغييرات جوهرية في الجغرافيا السياسية الإقليمية. فالأوروبيون في ظل هذا الواقع الجديد يواجهون أسئلة جوهرية ستحدد الإجابة عليها مستقبلهم وربما مستقبل العالم معهم: هل هم على استعداد لمواجهة روسيا لوحدهم سواء في هذه الأزمة أو في أي أزمات أخرى في المستقبل؟ وهل ستكون لديهم القدرة أصلاً على فعل ذلك؟ وكيف ستستجيب أوروبا إذا ما قامت روسيا بتحدي حدود الناتو واجتاحت دول أخرى؟

لسبعة عقود كان الأوروبيون يعتمدون على الولايات المتحدة في التعامل مع هذه التساؤلات، ولكن عليهم اليوم الإجابة عليها بأنفسهم. هذا لا يعني التخلي عن أن أمريكا أو الناتو؛ فهذا يعد سواء في الوقت الحالي أو في المدى القريب انتحاراً بالفعل. ولكن بينما تظل أمريكا شريكاً أمنياً رئيسا لهم، وبينما يعود الناتو بقوة إلى الساحة، بعدما تزعزعت الثقة فيه بسبب سياسة إدارة ترامب، يدرك الأوروبيون أن عليهم القيام بدور أكثر نشاطاً في التحالف الأمني عبر الأطلسي وتحمل المزيد من أعباء أمنهم، الأمر الذي كانت تطالب به واشنطن حلفاءها منذ عقود. لذلك بدأت تعلو الأصوات المطالبة بالتغيير بقوة؛ وقد حدثت تحولات غير مسبوقة أهمها إعلان ألمانيا مؤخرا مضاعفة الإنفاق العسكري، وستتبعها الدول الأوروبية الأخرى أيضا، ولكن سيبقى السؤال الأكثر إلحاحا هو هل تستطيع أوروبا أن تخط لنفسها مساراً مستقلا عن الولايات المتحدة. الشكوك تبقى قائمة خاصة في ظل الخلافات الأوروبية عادة ما تختفي مع ظهور الأزمات، ولكنها ما تلبث أن تتبدى مجدداً مع تلاشيها.

وفيما يتعلق بالولايات المتحدة فإن استمرار الحرب أو/وتوسع رقعتها تعني مواجهة مستمرة مع روسيا في الساحة الأوروبية. ومع ذلك، سيحرص الطرفان على ألا يتجاوز العداء بينهما عتبة معينة. وسيكون هذا بالطبع أمرا معقدا: حالة من الحرب الاقتصادية، وحالة من الصراع الجيوسياسي، ولكن إلى الدرجة التي لا يتحول بها التصعيد إلى حرب مباشرة. في الوقت نفسه، يمكن أن تتوسع المواجهة الأمريكية الروسية خارج أوروبا، لتشمل حروب بالوكالة في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط أو أفريقيا.