• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
دراسات

الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي


تعود أصول القضية الأوكرانية المعاصرة إلى العام 1991 مع تفكُّك الاتحاد السوفيتي، وحصول أوكرانيا على استقلالها في نفس العام. وفي العام 1994، جرى توقيع "مذكرة بودابست" التي تعهَّدت بموجبها روسيا الاتحادية باحترام حدود أوكرانيا في مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية الموروثة عن الاتحاد السوفيتي لصالح روسيا. لكن سرعان ما فرضت الحسابات الجيوبوليتيكية نفسها على شرق أوروبا، مع اتجاه حلف الناتو للتمدد شرقًا. فانضمَّت جمهوريات التشيك والمجر وبولندا للحلف، عام 1999، وبين عامي 2004 و2009، انضمت 9 دول من شرق أوروبا، بعضها من الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا)، ثم لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية. وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين 1999 و2020 نحو 14 دولة، تشكِّل نحو نصف الدول الأعضاء في الحلف الذي تأسس عام 1949.

ولم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيلاروسيا وأوكرانيا، وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها، وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت في العاصمة الرومانية، بوخارست، عام 2008، عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته، وهو ما كان، من وجهة النظر الروسية، بمنزلة إعلان لحرب ممتدة بين روسيا والغرب. فبدأت روسيا سلسلة من المواجهات العسكرية لمنع هاتين الجمهوريتين من الانضمام للحلف، وكانت البداية بالحرب الروسية-الجورجية، عام 2008، وقيام روسيا بضم إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، عام 2014، ثم قيام روسيا بإعلان ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية.

وردًّا على ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم، تسارعت معدلات التعاون العسكري والأمني بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، وتُشير بعض التقديرات إلى حصول أوكرانيا خلال الفترة من 2014 إلى 2021 على نحو5.6 مليارات دولار من الولايات المتحدة، تشمل أسلحة ومعدات تدريب للجيش، ودعم مكافحة التهديدات السيبرانية، بالإضافة إلى الدعم الاستخباراتي لمواجهة التهديدات الروسية عبر "مبادرة المساعدة الأمنية الأوكرانية". كما أقرَّ حلف الناتو حزمة من المساعدات الشاملة لتعزيز الاستراتيجية الدفاعية والأمنية في أوكرانيا.

وأظهرت استطلاعات الرأي خلال السنوات 2015-2021، التي أجريت داخل أوكرانيا، تنامي الاتجاهات المؤيدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، حيث كشف استطلاع، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2021، عن تأييد 58% من الأوكرانيين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتأييد 54% الانضمام إلى الناتو، بينما أيَّد 21% فقط الانضمام إلى الاتحاد الجمركي الأوراسي بقيادة روسيا.

وفي العشرين من فبراير/شباط 2022، اعترف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باستقلال جمهوريتين انفصلتا عن أوكرانيا هما "لوغانسك"، و"دونيتسك". وفي الرابع والعشرين من نفس الشهر، قامت القوات المسلحة الروسية بغزو عسكري شامل للأراضي الأوكرانية بدعوى أن ذلك جاء بناء على دعوة وجهتها هاتان الجمهوريتان الانفصاليتان للنظام الروسي للدفاع عنهما، في مواجهة ما أسماه النظام الروسي: "حرب الإبادة التي يشنُّها النازيون الجدد في أوكرانيا" ضد الأقليات من أصل روسي في الجمهوريتين.

وفي مقابل السياسات الروسية، توالت ردود الأفعال الدولية والإقليمية -سياسية واقتصادية وإعلامية بل وعسكرية- تجاه ما سُمِّي بـ"الغزو الروسي لأوكرانيا"، أو "العدوان الروسي على أوكرانيا"، خاصة مع حجم التدمير الذي شهدته الأراضي الأوكرانية في فترة زمنية وجيزة بعد بدء الحرب مباشرة. ومع تشابك الأطراف وتعقُّد المشهد الدولي أمام التداعيات التي ترتبت على الأزمة يبدو مهمًّا البحث في مدى تأثير الأزمة الأوكرانية، 2022، على بنية النظام الدولي.

1. اعتبارات منهجية ونظرية  

أ- إشكالية الدراسة

في سياق تداخل قوى دولية في الأزمة الأوكرانية، تسعى الدراسة إلى الإجابة عن السؤال الإشكالي الآتي: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأزمة الأوكرانية على بنية النظام الدولي، خاصة من حيث أنماط التفاعلات الدولية بعد الحرب، وتوازنات النظام الدولي القائم ومساراته المستقبلية، واحتمالات إعادة تشكيل دوائر ومناطق نفوذ الوحدات الدولية، وصياغة الأنساق الأمنية الإقليمية والدولية، وخاصة في أوروبا والشرق الأوسط؟

ب- منهج الدراسة

اعتمد الباحث على اقتراب "النسق الدولي" في العلاقات الدولية، وهو أحد الاقترابات الفرعية، من منهج تحليل النظم، ويقوم على أن النسق يتكوَّن من مجموعة من العناصر التي ترتبط فيما بينها بنمط معين من العلاقات، وهو في حالة اتصال دائم مع بيئته من خلال آلية لضخِّ المدخلات إليه، ودفع المخرجات منه. ويسمح هذا الاقتراب بالتعرف بدقة على الديناميكية السياسية، ومن ثم محاولة فهم القوانين التي تحكم أو تتحكَّم في حركتها.

كما يسمح الاقتراب بتتبُّع مسار التفاعلات بين النظام القائم ووحداته الأساسية وبيئته الداخلية والخارجية، والتعرف على ما قد يطرأ على عناصر هذا النظام وتلك البيئة من تغيرات بسبب هذه التفاعلات. وينطلق هذا الاقتراب من التفكيك والمقارنة وإدراك طبيعة العلاقات وأنماط المتغيرات، ثم يساعد على إعادة تركيبها مرة أخرى بطريقة تسمح بفهم أكثر منطقية لكيفية عمل النسق موضوع الدراسة.

وإذا انطلقنا من فرضية أن العلاقات الدولية تشكِّل "نَسَقًا"، فإن هذا يتطلب أن نميز بين النظام وبيئته، وهذا يفترض أن بيئة النظام قد جرى تحديدها وحصر مكوناتها من وحدات، وبنيان ومُؤَسَّسِية وتفاعلات، مع بيان أنماط العلاقات بين هذه المكونات من ناحية، وبينها وبين بيئتها من ناحية ثانية.

ج- الإطار النظري للدراسة

ينطلق الباحث في تحليل الظاهرة محلَّ الدراسة من مقولات المنظور الواقعي، الذي أثبت صلابة فكرية خلال القرن الماضي، وخاصة مع تعدد المدارس الفكرية والنظريات التكوينية والتحليلية والتفسيرية التي ظهرت في إطار هذا المنظور.

فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وتوقيع صلح فرساي، 1919، هيمن المنظور المثالي على دراسة وتحليل العلاقات الدولية. واتجه المثاليون إلى تأكيد مكانة القيم والأعراف والمؤسسات الدولية بوصفها أدوات لمنع الحروب والصراعات، ودعوا إلى عقد ولاء البشر لمصالح جماعية شاملة، كما شجبوا ما يسمى بسياسة الأمر الواقع، وسياسة توازن القوى التي لم تحل دون اندلاع الحروب الأوروبية، والحرب العالمية الأولى. وكانت مبادئ الرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون أحد أهم الركائز التي استند إليها منظِّرو المنظور المثالي، كما برز في إطار المنظور العديد من الآراء المستوحاة من تعاليم الأديان السماوية والموروث الثقافي والأخلاقي لفلسفات إنسانية عامة.

لكن انهارت آمال المثاليين باندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وظهور نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد للمذهب الواقعي. وكان ظهور كتاب "السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلم"، لهانز مورجانثو (Hans Morgenthau) بمنزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة هيمنت على دراسة العلاقات الدولية، وكان لها تأثيرها في مؤسسات صنع قرارات السياسة الخارجية في الدول الغربية كافة. وهيمن المنظور الواقعي -بنظرياته المتعددة (التقليدية، الدفاعية، الهجومية، البنائية) وكذلك مراحل تطوره المختلفة- على توجهات واستراتيجيات العلاقات الدولية فكرًا وحركة.

وفي إطار المنطلقات التأسيسية للمنظور الواقعي في العلاقات الدولية، يتفق الباحث مع ما انتهى إليه ستيفن والت (Stephen Walt)، وهو أحد أهم مؤسسي تيار الواقعية الكلاسيكية الجديدة، من أن ما يحدث في أوكرانيا يدعم ويؤكد القدرة التفسيرية للمنظور الواقعي في العلاقات الدولية، وذلك استنادًا إلى عدد من الحجج الأساسية:

1ـ يتفق الواقعيون على أن العالم لا توجد فيه هيئة أو مؤسسة يمكنها حماية الدول من بعضها البعض؛ ما يجعل الدول قلقة بشأن إمكانية تعرضها لاعتداء خطير قد يهددها في وقت ما في المستقبل، وهذا الوضع يُجبِر الدول، وخاصة القوى العظمى، على القلق بشأن أمنها والتنافس على القوة. وتدفع هذه المخاوف الدول أحيانًا إلى القيام بأشياء مروعة، فبالنسبة للواقعيين فإن الغزو الروسي لأوكرانيا (وكذلك الغزو الأميركي للعراق، عام 2003) يؤكد أن القوى العظمى تتصرف أحيانًا بطرق تتسم بـ"الفظاعة والحمق" عندما تعتقد أن مصالحها الأمنية الأساسية معرضة للخطر، وهنا يرى الواقعيون أن الإدانة الأخلاقية وحدها لن تمنع هذه الممارسات.

2- توضح الحرب في أوكرانيا أيضًا مفهومًا واقعيًّا كلاسيكيًّا آخر هو فكرة "المعضلة الأمنية"، التي تنشأ بسبب أن الخطوات التي تتخذها دولة ما لزيادة وتعزيز أمنها غالبًا ما تجعل الآخرين أقل أمانًا. فعندما تشعر الدولة (أ) بأنها غير آمنة وتسعى إلى خلق تحالفات أو زيادة تسلحها، فإن ذلك يؤدي إلى انزعاج وتحسس الدولة (ب) من هذه الخطوة التي تعتبرها تهديدًا لها، ما يجعلها تتصرف بنفس النهج؛ الأمر الذي يؤدي لتعميق الشكوك، وينتهي الأمر بافتقاد الأمن بالنسبة لكلتا الدولتين. من هذا المنطلق يمكن تقديم تفسير منطقي لرغبة دول أوروبا الشرقية في الانضمام إلى حلف الناتو، نظرًا لمخاوفها طويلة المدى بشأن روسيا، ومن ثم يُتَفهَّم سبب اعتبار القادة الروس لهذا التطور أمرًا مقلقًا.

3- إن رؤية الأحداث في أوكرانيا من منظور الواقعية لا تعني تأييد أفعال روسيا في أوكرانيا، فالواقعية لا تدعو إلى الحرب خيارًا وحيدًا أو مرغوبًا فيه، بل ترى أن اللجوء إليها شر لابد منه بحكم قانون الصراع الموضوعي الذي يحكم ويضبط سلوكيات الدول. وهو ما يعني الاعتراف موضوعيًّا بما يقع في أوكرانيا باعتباره سلوكًا متكررًا في الشؤون الدولية بالرغم من تداعياته السلبية. وإذا كان الواقعيون قد أدانوا الطبيعة المأساوية للسياسة العالمية، فإنهم حذَّروا من أنه لا يمكن إغفال المخاطر التي يبرزها المنظور الواقعي، بما في ذلك المخاطر التي تنشأ عندما تهدد ما تعتبره دولة أخرى مصلحة حيوية.

4- إن الليبرالية عجزت، كأحد منظورات العلاقات الدولية، عن تقديم تفسيرات لما يحدث في أوكرانيا؛ فقد أثبت القانون الدولي والمؤسسات الدولية أنها تشكِّل حاجزًا ضعيفًا وعاجزًا أمام ممارسات وطموحات القوى العظمى. كما أن الترابط الاقتصادي وفلسفة الاعتماد المتبادل لم تمنع موسكو من شنِّ غزوها على أوكرانيا، على الرغم من التكاليف الباهظة التي ستتكبدها نتيجة لذلك. ولم تستطع القوة الناعمة إيقاف الدبابات الروسية، كما أن أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أدانت الغزو (141 مقابل 5 مع امتناع 35 عن التصويت) لم يكن لها تأثير كبير على مسار الصراع، وتأكدت مقولات الواقعية القائمة على القوة كأساس للعلاقات الدولية.

5- ولئن كان الواقعيون يقلِّلون من أهمية دور المعايير والقواعد القانونية كقيود قوية على سلوك القوى العظمى، فإن وجودها لعب دورًا مهمًّا في تفسير الاستجابة العالمية للغزو الروسي لأوكرانيا، وكانت ركيزة استندت إليها الدول والشركات والأفراد في معظم أنحاء العالم في إصدار الأحكام وفرض العقوبات ضد روسيا، معتبرين سلوكها خرقًا واضحًا وانتهاكًا للمعايير العالمية، وتهديدًا للأمن والسلم الدوليين.

وتأتي الدراسة لاختبار تلك الفرضيات التي خلص إليها ستيفن والت، من حيث بيان تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على مستقبل النظام الدولي المعاصر.

2. الحرب الروسية-الأوكرانية: الأبعاد والتداعيات

أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بدء عملية عسكرية ضد أوكرانيا، في 24 فبراير/شباط 2022، ودعا جيشها لإلقاء السلاح والسيطرة على الحكم. وقد تعددت السياقات والتفسيرات لهذه العملية العسكرية، كما تعددت التداعيات التي ترتبت عليها، سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا، وهو ما يمكن تناوله في هذه المحاور.

أولًا: السياقات والمبررات

ترتبط الحرب الروسية-الأوكرانية بالعديد من السياقات والأبعاد التي كان لها أهميتها في تطورات وتداعيات الحرب، ومن ذلك:

1- التحولات السياسية في شرق أوروبا بعد 1991

تُعد المواجهة الروسية-الغربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا مجرد فصل من فصول مواجهة ممتدة، وكانت بدايات هذا الفصل مع انهيار الاتحاد السوفيتي، 1991، وتحولت معظم الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي أو تلك التي كانت تنتمي إلى الكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة إلى المعسكر الغربي، سواء بالانضمام إلى حلف "الناتو"، أو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وكان عام 2004 لحظة فارقة في تاريخ الاتحاد؛ حيث انضمت إليه عشر دول دفعة واحدة، كان معظمها من دول الكتلة الشرقية، وخلال الفترة من 1999 إلى 2020 انضمت 14 دولة من الجمهوريات السوفيتية ودول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو.

وفي المقابل، ومع وصول الرئيس، فلاديمير بوتين، إلى السلطة، عام 1999، ثم فوزه بانتخابات 2000 و2004، سعى إلى فرض هيمنته الكاملة على كل مقدرات الدولة السوفيتية، السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، واتجه للحفاظ على ما أسماه حدود "الاتحاد الروسي"، ولو بالقوة إذا لزم الأمر. وخلال ولايتيْه: الأولى والثانية، انفجرت "الثورات الملونة" في عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة (جورجيا، أوكرانيا، قرغيزستان)، وأعقبتها انتخابات أفرزت نخبة سياسية وفكرية جديدة أقرب إلى الفكر الليبرالي الغربي. وهو ما اعتبره بوتين "مؤامرة أميركية" للنفاذ إلى مناطق النفوذ الروسي، وتعامل معها باعتبارها تهديدًا خطيرًا ليس للدولة الروسية فقط من الناحية الاستراتيجية، ولكن بنفس القدر له شخصيًّا ولنظامه، الذي أسَّس شرعيته عبر قدرته على فرض النظام داخليًّا، ومحاولة إعادة الاحترام خارجيًّا لروسيا، وإعادة دورها كقوة عالمية كبرى. لذلك بدأ بوتين في إثارة القلاقل الداخلية في أوكرانيا، عام 2004، ودخل في حرب ضد جورجيا، عام 2008، ودعم انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن أراضيها.

وترتبط هذه التحولات في الجانب الأكبر منها بـ"عقيدة بوتين" العسكرية؛ حيث أكد الرئيس الروسي أنه لن يسمح لحلف شمال الأطلسي "الناتو" بالوجود على حدوده وتهديد موسكو مباشرة. لذلك طلب في "الوثيقة الأمنية" توقيع اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية من أجل خفض التوترات الأمنية في أوروبا، وتخلي الحلف عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا، وعدم انضمامهما للحلف، ووقف نشر أنظمة أسلحة هجومية في الدول المحاذية لروسيا، لكن واشنطن رفضت ذلك. فكان قرار اللجوء للعمل العسكري، لأنه يمثِّل -وفقًا لعقيدته العسكرية- "اللحظة المثالية" للضغط على "الناتو" والاتحاد الأوروبي لإعادة هيكلة البنية الأمنية الأوروبية، بما يتناسب ومكانة روسيا الآن، التي تختلف عنها في عام 1991.

ولذلك، وبداية من منتصف عام 2021، بدأت روسيا في حشد قواتها العسكرية على حدودها الغربية بالتزامن مع حشد عسكري أميركي-أوروبي في أوكرانيا؛ حيث قدمت واشنطن لكييف 2.5 مليار دولار من المساعدات العسكرية منذ 2014، بما في ذلك 450 مليون دولار، عام 2021. كما شاركت كييف في مناورات أميركية وسمحت بنشر صواريخ أميركية على أراضيها واستقبلت الآلاف من الجنود الأميركيين. وهو ما دفع بوتين للمطالبة عدة مرات بضرورة تخفيف الحشد العسكري الأميركي بأوكرانيا لعدم وجود مبرر له، كما أعلنت كييف عدة مرات رغبتها في الانضمام لحلف "الناتو"؛ الأمر الذي وصفه بوتين "بالخط الأحمر" الذي لن يسمح بتجاوزه.

وقدمت روسيا، نهاية العام 2021، وثيقة "الضمانات الأمنية" التي رفضتها واشنطن، فبدأت روسيا في التلويح باستخدام الأداة العسكرية عبر تنفيذ مناورات عسكرية أشرف عليها بوتين شخصيًّا، في 19 فبراير/شباط 2022، ثم أعلن بوتين الاعتراف رسميًّا بجمهوريتي "لوغانسك" و"دونيتسك" -المعروفة باسم "إقليم دونباس"- الانفصاليتين، في 22 فبراير/شباط 2022. كما أعلن تدخله لمساعدة الانفصاليين في تلك المنطقة، فجرى الإعلان عن العملية العسكرية الروسية "المحدودة" كما وصفها بوتين، في 24 فبراير/شباط 2022، باسم "الدفاع عن دونباس".

2- التحولات الكبرى في استراتيجية الأمن القومي الروسية

خلال الفترة من 2008 إلى 2021، تبنَّى بوتين ما أسماه "استراتيجية استرداد النفوذ والمكانة"، التي تقوم على شنِّ حرب هجينة شاملة على كل الجبهات، وقامت هذه الاستراتيجية على عدة مستويات، برز في إطارها:

أ- حرب سيبرانية هجومية واسعة النطاق، حيث كوَّنت روسيا جيش إنترنت وكتائب إلكترونية لبثِّ رسائل ومضامين تتفق والتوجهات الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وشنِّ حملات إلكترونية سرية وكثيفة ضد بعض الدول الغربية. وهو ما تطلَّب العمل على تطوير القدرات الروسية في مجالات عمل وتكنولوجيا التنصت والرقابة والاعتراض والاختراق الإلكتروني، وغيرها من قطاعات ذات صلة.

ب- التدخلات العسكرية الروسية المباشرة أو غير المباشرة، كما في جورجيا 2008، وفي أوكرانيا 2014، ثم في سوريا 2015، سواء باستخدام القوات العسكرية الروسية أو عناصر من الشيشان، أو عناصر شركة "فاغنر" الروسية.

ج- تعزيز التحالفات، ويجري ذلك سواء من خلال تفعيل معاهدة الأمن الجماعي؛ حيث تدخلت القوات الروسية لقمع الاحتجاجات الشعبية ضد رئيس كازاخستان، قاسم جومرت توكاييف، في يناير/كانون الثاني 2022، أو عقد التفاهمات الاستراتيجية مع القوى الكبرى من خصوم الولايات المتحدة، مثل الصين عبر منظمة شنغهاي للتعاون. كما يجرى تعزيز هذه التحالفات عبر الارتباط بمصالح متبادلة قوية مع حلفاء الولايات المتحدة في التحالف الغربي، مثل ألمانيا وفرنسا، وتبادل التكنولوجيا العسكرية والتفاهمات الميدانية في سوريا مع إسرائيل، وتقاسم النفوذ مع تركيا في عدد من ملفات الحوار المشترك، ومساندة إيران في ملفاتها الإقليمية والنووية، والتوغل في مساحات استراتيجية جديدة في إفريقيا من خلال قوات فاغنر، واتباع دبلوماسية التسليح مع مصر وبعض دول الخليج العربية.

د- التطوير المتسارع للتكنولوجيات التسليحية والرقمية، وذلك من خلال العمل على دمج التقنيات الجديدة لمضاعفة القوة في أنظمتها القديمة للتسلح، والإعلان عن مجموعة برامج لأسلحة ذات قدرة نووية رئيسية لضمان قدرتها على اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية، وتطوير مجموعة من الأنظمة التي يمكنها مهاجمة الأقمار الصناعية أو تعطيل عملياتها. ويشمل التطوير أيضًا تعزيز القدرات الروسية في مجالات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتعطيل وتدمير أنظمة القيادة والتحكُّم الخاصة بالخصم وقدرات الاتصال، وتبنِّي استراتيجية تعدين ضخمة لعملة البيتكوين في كازاخستان، للحدِّ من سيطرة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي.

3-  سياسات إعادة الانتشار الأميركية

أعادت إدارة بايدن التفكير في خطط الانتشار العسكري الأميركي في العالم، وخاصة في المناطق التي يمكن من خلالها احتواء كل من روسيا والصين، وذلك على النحو التالي:

أ- إعادة الانتشار في أوروبا والمتوسط: في 8 مارس/آذار 2021، دخلت مجموعة سفن أميركية للبحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق، تنتمي لأسطول العمليات السادس الأميركي. وفي نهاية فبراير/شباط 2021، أنزلت أميركا وحدات من القسم الأول مشاة، ضمن فرقة الطيران القتالي، في ميناء إليكساندربوليس شمالي اليونان، للمشاركة ضمن عمل القوات الأميركية الجوية الموجهة لمساندة أوروبا وإفريقيا، والمسؤولة عن الأصول المرتبطة بالطيران الأميركي في المنطقة، تنفيذًا للقرار الأميركي/الأوروبي المشترك بخصوص الوجود الروسي في أوكرانيا، والذي يحمل اسم "عملية الحل الأطلسي" (Atlantic Resolve operation). ويتضمن الإنزال 30 مروحية تشارك في تدريبات لصالح رومانيا في مارس/آذار 2021.

كما نشرت واشنطن عشرات المروحيات العسكرية، وقررت توسيع أربع قواعد عسكرية لها في اليونان، وخصصت قواعد بحرية للقوات الأميركية كجزء من اتفاقيات دفاعية بين البلدين، واستخدمت 145 مروحية ومئات المركبات العسكرية في مناورات "المدافع عن أوروبا 2021"، علاوة على الترتيبات المرتبطة بما تم من تدريبات مشتركة مع اليونان في تراقيا الغربية. وفي نفس الإطار، شرعت الولايات المتحدة في فتح مسار للوجود في البحر الأسود؛ حيث أجرت تدريبات مشتركة مع تركيا في البحر الأسود، واليونان في بحر إيجه، في سياق الاستعدادات لتأمين منطقتي البلقان والبحر الأسود، بجانب تطوير الرؤية الأميركية للمنطقة بعد اللقاء الثلاثي الذي ضمَّ بولندا ورومانيا وتركيا لتطوير القدرات القتالية لرومانيا عبر المروحيات القتالية، والتي سبق إنزالها في إليكساندربوليس.

وشاركت واشنطن مع اليونان وعدد من أعضاء "الناتو" في تدريبات كريت، خلال يناير/كانون الثاني 2021؛ وتدريبات "شرق تراقيا"، في 22 فبراير/شباط 2021، وتدريبات "بحر إيجه"، في 13 مارس/آذار 2021، وتدريبات "إينيكوس"، في أبريل/نيسان 2021، كما أجرت تدريبات مع تركيا في البحر الأسود، في 10 فبراير/شباط 2021، وفي شرق المتوسط، في 17 مارس/آذار 2021.

ب- إعادة الانتشار في المحيطين الهادي والهندي: حيث جاء قرار انضمام المدمرة الأميركية "يو إس إس رافائيل بيرالتا" (USS Rafael Peralta) إلى حاملة الطائرات "يو إس إس رونالد ريغان" (USS Ronald Reagan) وسفينة القيادة بالأسطول السابع الأميركي "يو إس إس بلو ريدج" (USS Blue Ridge) في ميناء "يوكوسوكا" الياباني مؤشرًا على أن الولايات المتحدة تولي اهتمامًا كبيرًا لمنطقة التقاء المحيطين الهادئ والهندي؛ حيث تواجه الولايات المتحدة الصين في صراع نفوذ على المنطقة. وتتجه أوروبا لزيادة وجودها في منطقة المحيط الهادئ كذلك عبر إرسال المملكة المتحدة حاملة طائراتها "كوين إليزابيث" (Queen Elizabeth)، فيما تبحث ألمانيا إرسال فرقاطة حربية إلى اليابان، ما يعني أن الاهتمام باحتواء الصين يتصاعد في دوائر القرار الغربية.

ج- إعادة الانتشار في الخليج العربي: فقد أمر جو بايدن بسحب بعض القوات الأميركية من منطقة الخليج، وإعادة تنظيم تركيز القوات الأميركية في مناطق أخرى، وكانت أهم القطع التي جرى سحبها 3 بطاريات لصواريخ "باتريوت" بأطقمها من منطقة الخليج، أُعيد نشرها في القوقاز. وأعلن البنتاغون أن عملية إعادة الانتشار هذه تهدف إلى المساهمة في جهود احتواء كل من روسيا والصين دون أن تضطر الولايات المتحدة إلى تحويل قوات من مناطق أكثر حيوية بالنسبة للمصالح الأميركية. فيما أبقت على منظومات الدفاع الجوي (Terminal High Altitude Area Defense) المعروفة اختصارًا باسم "ثاد" (THAAD) لضمان الدفاع عن السعودية ضد "الصواريخ الباليستية". كما أعلنت الإدارة الأميركية عن خططها لسحب أكثر من ثلث قواتها الموجودة في العراق، مع الإبقاء على قوات لتقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن العراقية.

4- تمدد حلف الناتو وتوسعه في شرق أوروبا

مع سقوط جدار برلين، 1989، وانهيار الاتحاد السوفيتي، عام 1991، ثم إعلان تأسيس الاتحاد الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني 1993، أصبح الطريق ممهدًا لإنشاء نظام أمني أوروبي جديد، وبعد خروج عدد من دول حلف وارسو من الهيمنة السوفيتية، انضمت هذه الدول إلى حلف الناتو، ففي عام 1999، انضمت دول مجموعة فيشغراد (المجر، بولندا، التشيك) إلى الناتو. وفي عام 2004، انضمت إلى الحلف دول مجموعة فيلنيوس (بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا). وفي عام 2009، وافق حلف الناتو على انضمام ألبانيا وكرواتيا، وبلغ عدد أعضائه 30 عضوًا، مع انضمام الجبل الأسود، عام 2017، ومقدونيا الشمالية، عام 2020. كما أدرجت ثلاث دول، هي: البوسنة والهرسك وجورجيا وأوكرانيا تحت فئة الدول الطامحة للانضمام للحلف.

ومع تحولات الأزمة الروسية-الأوكرانية منذ 2004، تجددت رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى حلف الناتو، وفي عام 2008 وخلال قمة الناتو التي استضافتها العاصمة الرومانية، بوخارست، رحَّب الحلف رسميًّا بتطلعات أوكرانيا وجورجيا للانضمام إليه. لكن لم تُفعَّل خطط انضمام الدولتين عمليًّا، في الوقت الذي ترى فيه روسيا أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

ثانيًا: تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية

يمكن التمييز في إطار تداعيات الأزمة بين عدة محاور أساسية:

1. الخسائر الروسية والأوكرانية

تعرضت روسيا لخسائر متنوعة من جرَّاء تدخلها العسكري في أوكرانيا، وتنوعت هذه الخسائر بين بشرية (في العمليات القتالية، مع طول الفترة الزمنية للحرب وعدم القدرة على الحسم وصلابة المقاومة الأوكرانية، مدعومة بقوات وسلاح وخبرات غربية)، واقتصادية (بسبب كثافة العقوبات الغربية، والتي طالت العديد من القطاعات الاقتصادية الروسية، بما فيها قطاع النفط والغاز، وتجميد الأرصدة، وانهيار البنوك التجارية وسلاسل التوريد، وإلزام العديد من حلفاء الولايات المتحدة بتنفيذ العقوبات ووقف التعامل مع روسيا)، وسياسية (مع عزلة روسيا عن المجتمع الدولي؛ حيث تضررت صِلات روسيا بالعالم الخارجي). وأضحت روسيا أكثر عزلة مما كانت عليه حتى إبَّان الحرب الباردة، وقُطِع التبادل التجاري والثقافي والسياسي، وأُغلِق المجال الجوي أمام الطيران الروسي في العديد من الدول الأوروبية، ومُنع الرياضيون والفنانون والسياسيون الروس من المشاركة في العديد من الفعاليات، وكذلك حُظِرت حركة السفن الروسية من دخول موانئ العديد من دول العالم.

وفي المقابل، ومع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، تضخمت خسائر الاقتصاد الأوكراني؛ حيث توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية في البلاد، كما لحقت بالبنية التحتية الأساسية من الطرق والجسور والموانئ أضرار كبيرة. فالحرب الروسية لم تستهدف تدمير المواقع العسكرية الأوكرانية فقط، بل أيضًا الأهداف المدنية، كما جرى استهداف البنية التحتية للاتصالات في أوكرانيا. وأغلقت معظم الموانئ والمطارات الأوكرانية نتيجة الأضرار التي لحقت بها، كما أن كثيرًا من الطرق والكباري إما تضررت أو دُمِّرَت.

وتسبب إغلاق الموانئ الأوكرانية المُطلَّة على البحر الأسود في عرقلة حركة النقل البحري، وحاولت الحكومة الأوكرانية استبدال نقل البضائع الزراعية عبر السكك الحديدية إلى دول الجوار الأوروبي، قبل أن تحظر تصدير العديد من السلع الزراعية. وعلى الرغم من صعوبة حصر الأضرار المادية في أوكرانيا بشكل نهائي حاليًّا، فإن التقديرات الأولية تشير إلى أن ما لا يقل عن 100 مليار دولار من البنية التحتية والمباني والأصول المادية الأخرى جرى تدميرها.

وقبل الحرب الروسية، بلغت الاحتياطيات النقدية لأوكرانيا 31 مليار دولار في العام 2021، لكن الحرب تسببت في دمار واسع النطاق للقدرة الإنتاجية لأوكرانيا، وتدهور تجارتها الخارجية، وتضاؤل قدرة الحكومة على تحصيل الضرائب، علاوة على زيادة تدهور الأوضاع المالية، وارتفاع الضغوط التضخمية في أوكرانيا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمعادن، والانكماش الاقتصادي بنسبة تتراوح بين 25 و35%، وفق صندوق النقد الدولي، وكذلك تصاعد فجوة التمويل الخارجي إلى نحو 5 مليارات دولار.

2. الخسائر الاقتصادية الأوروبية

واجهت الدول الأوروبية العديد من الأضرار والتحديات بسبب تداعيات الحرب، ومن صور ذلك، خلال الفترة محلَّ الدراسة (24 فبراير/شباط 2022- 15 أبريل/نيسان 2022):

- تباطؤ النمو الاقتصادي: فقد خفَّض "بنك باركليز" من توقعاته لمعدل نمو الناتج المحلي للقارة الأوروبية إلى 3.5% بعد الأزمة، مقارنة بـ4.1% قبلها، وتوقع بنك "جي بي مورجان" معدل نمو 3.2%، فقط.

- حجم التبادل التجاري: حيث يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، وتشكِّل موسكو خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وستؤثر العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بشدة في العلاقات التجارية بين موسكو والاتحاد الأوروبي، خاصة مع قرار الدول الصناعية السبع الكبرى بإلغاء وضع "الدولة الأولى بالرعاية" الممنوح لروسيا بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية.

- تهديد الاستثمارات والأصول الأوروبية في روسيا وتعرضها لخطر المصادرة أو التأميم بسبب الحرب والعقوبات الغربية، حيث يصل رصيد استثمارات بلدان الاتحاد الأوروبي في السوق الروسي نحو 311.4 مليار يورو (ما يعادل 340 مليار دولار) حتى عام 2020. وبلغت الاستثمارات الروسية في دول الاتحاد الأوروبي نحو 136 مليار يورو خلال 2020. كما أن هناك حوالي 60 مليار دولار مستحقة لبنوك الاتحاد الأوروبي على كيانات روسية يمكن تجميدها، وقد يتعرض أيضًا حاملو السندات السيادية الأوكرانية من أوروبا (نحو 23 مليار دولار) لمخاطر عدم القدرة على السداد.

- تهديد أمن الطاقة الأوروبي: حيث تُعد روسيا أكبر مورِّد للطاقة للاتحاد الأوروبي، فحوالي 40% من واردات الاتحاد من الغاز الطبيعي، ونحو 33% من وارداتها من النفط، مصدرهما روسيا.

- تهديد الأمن الغذائي: حيث تُعد روسيا أكبر مصدِّر للقمح في العالم، وتوفر كل من روسيا وأوكرانيا معًا أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية. وفي ضوء تطورات الأزمة، ارتفعت أسعار المواد الأساسية بما في ذلك السلع الزراعية، خاصة القمح والذرة بنسب تفاوتت بين 40% إلى 60%. وتشير التوقعات إلى أن الإمدادات العالمية من المنتجات الزراعية الرئيسية (القمح، الشعير، الذرة، زيت عباد الشمس) ستنخفض بنسبة تتراوح بين 10% و50%.

- أزمة اللاجئين الأوكرانيين: حيث غادر نحو 4 ملايين شخص أوكرانيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. وهي أرقام مرشحة للزيادة كلما طال أمد الحرب، وتشير التقديرات إلى أن جهود إغاثة اللاجئين الأوكرانيين تتطلب نحو 30 مليار يورو (32.7 مليار دولار) خلال العام الأول فقط.

- تضرر قطاع الطيران والسياحة مع حظر الرحلات الجوية بين روسيا والدول الأوروبية، كما تُعد روسيا ثالث أكبر مصدر للسياحة في أوروبا بجانب تضرر العديد من قطاعات التصنيع، والبنوك والخدمات المالية.

3. تداعيات الحرب على السياسات الدفاعية الأوروبية

بعد اندلاع أزمة أوكرانيا 2022، أعاد الهولنديون النظر في خطة التخلص من الدبابات الثقيلة، وأعلن الألمان رفع ميزانيتهم العسكرية إلى 100 مليار يورو، وذكر المستشار الألماني، أولاف شولتز، أمام البرلمان الألماني: "لقد دخلنا مرحلة جديدة بعد غزو أوكرانيا". ولخَّص التحدي الجديد بقوله: "هل علينا السماح لبوتين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو أن نحشد من القوة ما يكفي لوضع حدود لتجار الحروب من أمثال بوتين؟".

وميدانيًّا، تخلَّت ألمانيا عن نهج "التريث في تعزيز قدراتها العسكرية" ردًّا على الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالرغم من الحظر الذي تفرضه ألمانيا على تصدير الأسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع، أعلنت الحكومة الألمانية، في 27 فبراير/شباط 2022، أنها بصدد تسليم أوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات و500 صاروخ "ستنجر" من مخزون الجيش الألماني. واتجهت لتعزيز قواتها المنتشرة شرقًا في إطار حلف شمال الأطلسي، لاسيما في سلوفاكيا. ولا يقتصر الأمر في هذا التحول الاستراتيجي على نظرة ألمانيا لذاتها، ولكن أيضًا على نظرة الأوروبيين للقوة الألمانية، ففي عام 2011، قال رادوسلاف سيكورسكي، وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا: إن خوفي من قوة ألمانيا أقل كثيرًا من خوفي من بقاء ألمانيا في حالة من الخمول". لكن غزو بوتين لأوكرانيا يمثِّل اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها أوروبا تشعر بالارتياح تجاه القوة العسكرية الألمانية.

وتكمن المعضلة الأمنية الأوروبية في كون الارتدادات العكسية الناتجة عن فرض العقوبات على روسيا كبيرة، مقارنة مع ارتداداتها على واشنطن بحكم الارتباطات الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية والأمنية. ومن ثم، إذا كانت الأزمة الأوكرانية قد تحقق لواشنطن العديد من الأهداف الاستراتيجية، مثل تأزيم العلاقات بين موسكو ودول الاتحاد الأوروبي، وإعادة تقييم العلاقات الروسية-الأوروبية، ووضع حدٍّ لطموحات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في التمدد الخارجي والهيمنة على أوروبا عبر استراتيجية دبلوماسية الغاز، فإن هذه الأزمة يمكن أن تشكِّل منعطفًا فاصلًا للأمن الأوروبي، وتؤدي إلى تغيير جذري في الاستراتيجيات الأمنية الأوروبية. وكلما طال أمد الأزمة واستمر تدفق اللاجئين الأوكرانيين إلى دول الاتحاد الأوروبي، استمر استنزاف موارد وقدرات الاتحاد الأوروبي، خاصة أن أوروبا ليست مستعدة لتداعيات استمرار الحرب في مجالي الطاقة والاقتصاد وكذلك اللاجئين.

4. الحرب الروسية-الأوكرانية ومأزق الشرق الأوسط

تمثِّل الحرب الروسية-الأوكرانية في أحد أبعادها تعبيرًا عن تنافس بين إمبراطوريتين، الأولى تفكَّكت (الاتحاد السوفيتي) وتخشى وريثتها (روسيا الاتحادية) من استمرار التفكُّك، والثانية تتراجع (الولايات المتحدة)، وكل منهما تسعى لتوظيف الأقاليم الجيوستراتيجية لصالحها: رُوسِيًّا، لمنع استمرار التفكُّك في الداخل، وأميركيًّا، لمنع تسارع التراجع وتعزيز الحضور في أوروبا.

ولكن في المقابل، يتنامى الشعور بين النظم السياسية في إقليم الشرق الأوسط بتراجع السياسة الأميركية، كما برز في الخطة الاستراتيجية لإدارة جو بايدن، 2021، ومن شأن استمرار الأزمة الأوكرانية تعميق هذا التراجع، مما سيؤثر على علاقات الوحدات داخل الإقليم، وكذلك على درجة استجابة بعض هذه الوحدات للمطالب الأميركية بخصوص الأزمة الأوكرانية.

وإذا كان هذا بشأن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة في المنطقة، فإن السياسة الروسية تواجه تحديًا من نوع مختلف، يتمثَّل في مدى قدرتها على التوفيق بين تناقضات الأطراف الإقليمية في الشرق الأوسط، ومن ذلك "التناقض بين المصالح الروسية والمصالح الإيرانية والإسرائيلية"، و"التناقضات الخليجية-الإيرانية"، و"المتطلبات الأمنية الإسرائيلية، والمتطلبات الأمنية السورية"، و"الالتزامات الروسية تجاه فلسطين وإسرائيل".

هذا بجانب التناقض في خريطة العلاقات الروسية-العربية، فالدول العربية، من حيث هذه العلاقات، تتوزع إلى مجموعتين: الأولى هي تلك الدول الأكثر استيرادًا للسلع المدنية الروسية (وهي بالترتيب: مصر، والمغرب، والإمارات، والسعودية، وتونس، والأردن، وقطر)، والثانية هي الأكثر استيرادًا للسلع العسكرية الروسية (وتأتي سوريا على رأس قائمة الدول المستوردة للسلاح الروسي بنسبة 95% من أسلحتها، تليها الجزائر بنسبة 81%، ثم العراق بمعدل 44%، تليها مصر 41%، ثم الإمارات العربية المتحدة بنسبة 3%). ويبلغ حجم مبيعات الروس من السلاح للدول العربية بين 2017-2021 نحو 21% من إجمالي مبيعاتها، وإذا كانت العقوبات الاقتصادية على روسيا ستشمل السلع المدنية أكثر من السلع العسكرية، فإن حاجة روسيا للدول العربية المستوردة للسلع المدنية ستكون أكبر من حاجتها للدول المستوردة للسلع العسكرية، وهو ما قد يؤثر على بعض توجهاتها المستقبلية في المنطقة.

3. المسارات المستقبلية للنسق الدولي بعد الحرب الروسية-الأوكرانية

يمكن التمييز في إطار هذه المسارات بين مجموعة مستويات أساسية، بناء على الأركان الأربعة التي يقوم عليها النسق الدولي (الوحدات الدولية، البنيان الدولي، المؤسسية الدولية، العمليات الدولية):

أولًا: الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل الوحدات الدولية

جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لتضع مستقبل روسيا أمام العديد من الاحتمالات، فعلى الرغم من الخسائر الواسعة التي تلحق بها بسبب قرار الرئيس بوتين التدخل في أوكرانيا، فإن احتمال سقوط النظام الروسي، رغم أنه قائم، قد يكون صعبًا في المدى القصير لاستبعاد الإطاحة بـبوتين بانقلاب في القصر، ولصعوبات إزاحة النخبة الحالية بالاحتجاجات الجماهيرية، في ظل السياسات القمعية التي تبناها بوتين داخليًّا وخارجيًّا في دعم حلفائه في بيلاروسيا وكازاخستان وسوريا.

ومن ناحية ثانية، عن روسيا الدولة وليس النظام، يرى جون ميرشايمر (John Mearsheimer) أن روسيا قوة عظمى، وبالرغم من أنها منحازة الآن إلى الصين، فمن المحتمل أن تُحوِّل جانب الانحياز مع الوقت وتتحالف مع الولايات المتحدة، لأن قوة الصين المتزايدة، تعتبر أعظم تهديد لروسيا نظرًا لتقاربهما الجغرافي. وإذا ما ذهبت موسكو وواشنطن إلى صياغة علاقات متقاربة، بسبب خوفهما المتبادل من الصين، فسيتم إدماج روسيا على نحو سهل في النظام المحدود الذي تقوده الولايات المتحدة. أما إذا ما استمرت موسكو في الحفاظ على علاقات ودية مع الصين بسبب خوفها من الولايات المتحدة أكثر من خوفها من الصين، فسوف يحدث إدماج روسيا على نحو سهل في النظام المحدود الذي تقوده الصين. ولكن يبقى احتمال آخر يتمثَّل في أن روسيا لن تصطف إلى أحد الطرفين وتبقى على الهامش، وتعمل على الاستفادة من تنافسهما معًا في اكتساب نقاط تعزز من قدراتها التنافسية والتفاوضية معهما معًا، سعيًا نحو استكمال بنيتها القطبية.

هنا، سيكون من المهم التفكير في سيناريو نظام عالمي تسيطر فيه روسيا بشكل فعال على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وتسيطر الصين على جزء كبير من شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. وسيتعين على الأميركيين وحلفائهم في أوروبا وآسيا أن يقرروا، مرة أخرى، ما إذا كان هذا العالم مقبولًا، لأن هذا يعني نهاية النظام العالمي الحالي و"بداية حقبة من الفوضى والصراع العالميين؛ حيث تتكيف كل منطقة في العالم بشكل غير مستقر مع التكوين الجديد للقوة".

وفيما يتعلق بمسارات مستقبل الدور الروسي، تبرز قضية موقع روسيا في مجلس الأمن، بعد أن هدَّد الغرب بتجريدها من عضويتها الدائمة في مجلس الأمن. وإذا كان طرد روسيا أو تجميد عضويتها في مجلس الأمن أو حقها في التصويت يواجه صعوبات حقيقية، فإن هناك مسارات بديلة لا تعني بالضرورة تجميد عضويتها، منها إمكانية الطلب من روسيا الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن، لأنه متعلق بعدوانها.

وقد أشارت أوكرانيا إلى أن الجمهوريات المكوِّنة لاتحاد الجمهوريات السوفيتية أعلنت في عام 1991 أن الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودًا، وكان ينبغي أن يكون معها الحق القانوني لأي من هذه الكيانات، بما في ذلك روسيا، في الحصول على المقعد وليس فقط روسيا. ولم يُعرض على الجمعية العامة أي قرار بالسماح لروسيا بعضوية مجلس الأمن. ولم يجرِ تعديل ميثاق الأمم المتحدة أبدًا بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي. ولا تزال المذكِّرة تشير إلى الاتحاد السوفيتي، وليس روسيا، كأحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وبالنسبة لأوكرانيا، باعتبارها أهم الوحدات الدولية، المرتبطة بهذه الأزمة، فإن أحد المسارات المستقبلية المطروحة لها هو التقسيم، ويقوم هذا المسار على استمرار العملية العسكرية وتصعيد الهجمات، والتفاوض حول تقسيم أوكرانيا أو تغيير نظام الحكم لـ"حكم فيدرالي"، واقتطاع مدن استراتيجية لضمها لدونباس، مثل مدينتي ماريوبول في أقصى الجنوب على بحر أزوف، ومدينة أوديسا على البحر الأسود، لأنهما -وفق القناعة الروسية- جزء من التقسيم الإداري لإقليم دونباس.

وبالنسبة لمستقبل أوروبا، يرى ميرشايمر أنه من المرجَّح أن تصير أغلب البلدان في أوروبا، لاسيما القوى الأساسية، جزءًا من النظام المحدود بقيادة الولايات المتحدة، رغم أنه من غير المرجَّح أن تلعب دورًا عسكريًّا جديًّا في احتواء الصين. فليس لها القدرة على تصدير قوة عسكرية جوهرية تجاه شرق آسيا، كما أن الصين لا تُمثِّل تهديدًا مباشرًا لأوروبا، ولأن الأمر يبدو أكثر منطقية بالنسبة لأوروبا في ترحيل المسؤولية إلى الولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين إلا أن صنَّاع السياسة الأميركية سوف يريدون الأوروبيين داخل نظامهم المحدود لأسباب اقتصادية وأمنية واستراتيجية؛ حيث تحرص الولايات المتحدة على منع البلدان الأوروبية من بيع التكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج للصين والمساعدة في فرض ضغوط اقتصادية عليها حينما يتطلب الأمر ذلك. في المقابل، سوف تبقى القوات العسكرية الأميركية في أوروبا، محافظة على الناتو حيًّا ومستمرة في العمل باعتبارها صانع السلام في المنطقة.

ثانيًا: الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي

جاءت الأزمة الأوكرانية، 2022، وسط صراع متعدد الجبهات عبر العديد من الأقاليم، سعت فيه روسيا إلى إعلان تحدي الغرب والتصدي لاستراتيجية الناتو في شرق أوروبا، ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية، لتعزيز مكانتها في ظل إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق، مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل مركز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث خلال العقد الأخير نحو تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي، وخاصة مع مركزية دور الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.

وقد ذهب ميرشايمر إلى أنه من المرجَّح أن تكون هناك ثلاثة أنظمة واقعية مختلفة في المستقبل المنظور: نظام دولي هزيل ونظامان محدودان قويان، أحدهما يُقاد من طرف الصين، والآخر يُقاد من طرف الولايات المتحدة. وسوف يكون النظام الدولي الهزيل مهتمًّا أساسًا بالإشراف على اتفاقيات الحد من التسلح وجعل الاقتصاد العالمي يعمل بفعالية، ويمنح اهتمامًا جديًّا بمشكلات متعلِّقة بالتغيُّر المناخي، وسوف تركِّز المؤسسات التي تشكِّل النظام الدولي بتسهيل التعاون البيني بين الدول.

وسوف يكون هناك ملمحان أساسيان للعالم الجديد متعدِّد الأقطاب يشكِّلان على نحو عميق الأنظمة الصاعدة:

- الملمح الأول: أنه بافتراض استمرار الصين في صعودها، فإنها ستنخرط في منافسة أمنية شديدة مع الولايات المتحدة، وسيكون ذلك بمنزلة السمة المركزية للسياسة الدولية على مدار القرن الحادي والعشرين، وسيقود هذا التنافس إلى خلق أنظمة محدودة يُهيمَن عليها من طرف الصين والولايات المتحدة. وستكون التحالفات العسكرية المركَّب المركزي لهذين النظامين، وهما الآن بصدد التشكُّل وسيشبه ذلك النظامين اللذين قادهما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة خلال مرحلة الحرب الباردة. إلا أن الصين والولايات المتحدة سوف يكون لهما في بعض الأحيان أسباب تدفعهما للتعاون في مسائل عسكرية بعينها، وهو مسعى سوف يقع في نطاق اختصاص النظام الدولي، كما كان من قبل أثناء الحرب الباردة؛ حيث سيكون التركيز بالدرجة الأولى على اتفاقيات الحد من الأسلحة، وستنخرط روسيا في هذا المسعى كما ستفعل الصين والولايات المتحدة. ومن المرجَّح أن تظل المعاهدات والاتفاقيات الموجودة التي تتعامل مع مسألة الانتشار النووي في مكانها، نظرًا لأن كل القوى العظمى الثلاث تريد الحد من انتشار الأسلحة النووية. لكن سيكون على الأطراف الثلاثة التفاوض على معاهدات جديدة تحد من ترسانتهما العسكرية، مثلما فعلت القوتان العظميان أثناء الحرب الباردة.

- الملمح الثاني: وجود قدر ضخم من التواصل الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة، وبين الصين وحلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا، كما أن الصين والولايات المتحدة أيضًا تُتاجران وتستثمران عبر كل أنحاء العالم. وليس من المرجَّح أن تُقلِّص المنافسة الأمنية بين النظامين المحدودين هذه التدفقات الاقتصادية، فالمكاسب المتأتية من التجارة المستمرة مهمة ومطلوبة، حتى لو حاولت الولايات المتحدة الحد من تجارتها مع الصين، فبإمكان الأخيرة أن تُعوِّض ذلك من خلال تجارتها مع الشركاء الآخرين.

لذلك، ذهب ميرشايمر إلى القول: إنه من المرجَّح أن يشبه المستقبل الوضع في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى؛ حيث كان هناك تنافس أمني شديد بين الحلف الثلاثي (النمسا-المجر وألمانيا وإيطاليا) والوفاق الثلاثي (بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا)، لكن كان هناك قدر هائل من التفاعل الاقتصادي بين هذه البلدان بشكل عام.

والنتيجة النهائية أن التنافس بين النظامين المحدودين اللذين تقودهما الصين والولايات المتحدة، سوف يُورِّط كليهما في منافسة اقتصادية وعسكرية تامة، مثلما كانت الحال مع النظامين المحدودين اللذيْن هيمنت عليهما موسكو وواشنطن أثناء الحرب الباردة. ويكمن الاختلاف الكبير هنا في أن النظام الدولي سوف يكون منخرطًا بعمق في إدارة جوانب التنافس في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا أثناء الحرب الباردة.

ثالثًا: الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل المؤسسية الدولية

كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن العديد من نقاط الضعف في النظام الدولي القائم، وخاصة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودوره في الإشراف على النظام الدولي القائم؛ حيث أظهرت الأزمة الأوكرانية أن حق النقض للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن يمثِّل عائقًا كبيرًا أمام السلام، وكان منذ البداية عقبة رئيسية أمام استكمال الهيئة لمهمتها. وذلك راجع لكون الدول الخمس غالبًا ما تنقسم إلى كتل جيوسياسية متنافسة، فيمارس عضو في كتلة واحدة حق النقض (الفيتو) على العديد من القرارات الحاسمة. ففي سياق الصراع الحالي في أوكرانيا، يعني حق النقض الروسي في مجلس الأمن أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يمكنهم فرض عقوبات إلا من خلال "تحالف الراغبين". صحيح أن كُبر عدد البلدان وانتشار نظام المدفوعات القائم على الدولار خارج الحدود الإقليمية لأميركا يمنح العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة نفوذًا هائلًا. ومع ذلك، في هذه الحالة كما في حالات أخرى، سيزيد نظام العقوبات العالمية الذي يفرضه مجلس الأمن من تقويض الاقتصاد الخاضع للعقوبات.

ومن جانب آخر، إذا كان مجلس الأمن يقع في قلب النظام متعدد الأطراف اليوم، فإنه يواجه تحديات حقيقية، بالنظر إلى النطاق المتزايد للتهديدات التي يواجهها السلام والأمن. ولا تقتصر هذه التهديدات على الأعمال العدوانية التقليدية من النوع الذي يشهده العالم في أوكرانيا، والتي يمكن أن تتصاعد إلى تبادلات نووية، بل تشمل أيضًا التهديدات الأمنية الأخرى التي تشكِّلها التقنيات الجديدة. لذلك يبرز -ضمن مقترحات تغيير طريقة عمل مجلس الأمن- اقتراح إمكانية ردِّ حق النقض لعضو دائم عن طريق إضافة بند إلى المادة (27) من شأنه أن يسمح بأغلبية كبيرة، تمثِّل ثلثي البلدان الأعضاء، تتجاوز حق النقض.

رابعًا: الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل العمليات الدولية

بناء على التداعيات التي أفرزتها الحرب الروسية-الأوكرانية، تبرز عدة مسارات مستقبلية لأنماط العمليات الدولية، من بينها:

1ـ تعزيز الوحدة بين جانبي الأطلسي

فقد عمل الغرب على توظيف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واستفاد منه جماعيًّا على عدة مستويات؛ منها:

أ- تذكير طرفي الأطلسي بأهدافهما المشتركة: فقد ساعدت العملية الروسية في أوكرانيا على تذكير الولايات المتحدة وأوروبا بأهدافهما العالمية المشتركة، وبلورة هذه الأهداف مجددًا في إطار إعلاء القيم الديمقراطية، التي مثَّل التدخل الروسي تحديًا لها، وهو ما كان حافزًا لمظاهر عدة من التضامن بين القوى الغربية والدولية. وجاء في إطار ذلك موافقة ألمانيا على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتعهُّد اليابان بقبول اللاجئين الأوكرانيين، وتحرُّك بريطانيا لإخضاع ثروات المغتربين من الأوليغارشية الروسية لرقابة جادة. وعملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جنبًا إلى جنب لفرض عقوبات متصاعدة على روسيا.

ب- تحفيز الغرب على حماية قواعد النظام الدولي: كان التدخُّل سببًا كذلك لتحفيز الغرب، وبشكل فعَّال، على الدفاع عن قواعد وقيم ومؤسسات نظام الحرب العالمية الثانية، التي عرَّف بوتين نفسَه بأنه معارض لها؛ ذلك أن التدخُّل الروسي مثَّل تحديًا لنظام الأمم المتحدة التي يقوم ميثاقها على احترام السيادة، وتحديًا لأوروبا التي يسعى بوتين إلى إعادة ترسيم حدودها، وتهديدًا لحكم القانون.

ج- اتجاه "الناتو" نحو تعزيز جناحه الشرقي: فتدخل روسيا في أوكرانيا دفع الحلف إلى الاتجاه نحو تقوية جناحه الشرقي؛ ونظرًا إلى أن تدخل بوتين في دولة مستقلة ذات سيادة لم يكن متوقعًا من قبل؛ ومع احتمال تحول مركز الأزمة مستقبلًا من أوكرانيا إلى دول البلطيق، وكذلك إلى بولندا والدول الأخرى التي ستشكِّل الحدود الجديدة للغرب في مواجهة روسيا، فسيمثِّل ذلك حافزًا للولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو" على إرسال المزيد من القوات والمعدات العسكرية إلى تلك الدول الواقعة على خط المواجهة.

د- التضامن لتوثيق "جرائم الحرب" المحتملة: حيث أطلقت إدارة جو بايدن حملة جديدة لتوثيق "جرائم الحرب" المحتملة التي ارتكبتها القوات الروسية التي دخلت أوكرانيا، ونجحت في إطار ذلك في تحقيق التوافق بين 45 دولة من أصل 57 دولة عضوًا في "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" (OSCE) ضد روسيا وحليفتها بيلاروسيا، عندما جرت الموافقة، في 3 مارس/آذار 2022، على خطط لإرسال فريق من خبراء المنظمة لتوثيق جرائم الحرب المحتملة. وهذا العدد الكبير يمثِّل توافقًا لم يسبقه مثيل؛ فعدد الدول التي دعمت إنشاء هذه الآلية بعد الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في بيلاروسيا، في أغسطس/آب عام 2020، كانت 17 دولة، وشكَّل ذلك حينها توافقًا كان هو الأكبر، ومن ثم فإن الانتقال من 17 إلى 45 يوضح مدى انعزال روسيا وبيلاروسيا على المسرح الدولي.

2.  بناء المنظومة الأمنية الأوروبية

إن الحرب في أوكرانيا تُظهِر أن تحمُّل أوروبا مسؤولية أكبر عن أمنها ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل ممكنًا أيضًا. لقد كانت الحرب بمنزلة جرس إنذار للأوروبيين الذين اعتقدوا أن نشوب حرب كبيرة في قارتهم أصبح مستحيلًا بسبب القواعد ضد الغزو والمؤسسات الدولية والاعتماد الاقتصادي المتبادل والضمانات الأمنية الأميركية. إن تصرفات روسيا تمثِّل تذكيرًا بأن القوة التي لا تُقهر لا تزال شديدة الأهمية، وأن دور أوروبا الذي تنسبه لنفسها باعتبارها "قوة مدنية" ليس كافيًا، غير أن استجابة الحكومات الأوروبية بقوة للدفاع عن أمنها يدحض التنبؤات بأن التنافر الاستراتيجي داخل أوروبا قد يمنع القارة من الاستجابة على نحو فعَّال للتهديد المشترك.

إن أوروبا يمكنها التعامل مع التهديد الروسي المستقبلي بمفردها، ولدى أعضاء الناتو الأوروبيين إمكانات قوة كامنة تفوق التهديد الذي يواجه شرقهم، ولديهم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان روسيا وأكثر من 10 أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي. وحتى قبل الحرب، كان الأعضاء الأوروبيون في الناتو ينفقون بين ثلاثة وأربعة أضعاف ما تنفقه روسيا على الدفاع كل عام. ومع الكشف عن قدرات روسيا الحقيقية، يجب أن تزداد الثقة في قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها زيادة كبيرة. لذلك تُعد الحرب في أوكرانيا لحظة مثالية للتحرُّك نحو تقسيم جديد للعمل بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وأيضًا لحظة تكرِّس فيها الولايات المتحدة اهتمامها لآسيا بينما يتحمل الشركاء الأوروبيون المسؤولية الأساسية في الدفاع عن أنفسهم. لذا يجب على الولايات المتحدة التخلي عن معارضتها طويلة الأمد للاستقلال الأوروبي، ومساعدة شركائها على تحديث قواتهم، وأن يكون القائد الأعلى لحلف الناتو القادم جنرالًا أوروبيًّا، ويجب على قادة الولايات المتحدة ألا ينظروا إلى دورهم في الناتو على أنهم أول المستجيبين، ولكن باعتبارهم خط الدفاع الأخير.

مع لزوم تسليم مسؤولية أمن أوروبا إلى الأوروبيين تدريجيًّا، وعلى المدى الطويل، ستسعى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي أيضًا إلى بناء نظام أمني أوروبي -قد لا يستبعد روسيا- لتعزيز الاستقرار في أوروبا ولإبعاد موسكو عن الاعتماد المتزايد على الصين. وينتظر هذا التطور وجود قيادة جديدة في موسكو

3. أولوية التركيز الأميركي على الصين

إن حرب روسيا في أوكرانيا ستُغيِّر التصورات الجيوسياسية أكبر بكثير من تغييرها للواقع الجيوسياسي، وفي حين أن روسيا تحت حكم الرئيس، فلاديمير بوتين، تُشكِّل تحديًا قصير المدى، ستظل الصين تمثِّل التهديد الكبير على المديين المتوسط والطويل. فالتهديد القادم من الصين جذري، لأن الصين تعمل على تضييق فجوة القوة مع الولايات المتحدة، وستحاول الصين التصرف باعتبارها دولة أكثر مسؤولية حتى في الوقت الذي تتقرب فيه من روسيا، وقد تؤكد الصين أنها ليست دولة خارجة عن القانون، مثل روسيا، بينما تضاعف من جهودها في إنشاء مجال نفوذ من خلال الإكراه غير العسكري، كما تفعل في الواقع.

وفي الوقت الذي يجب أن تعطي فيه الولايات المتحدة الأولوية لمواجهة الصين، يجب كذلك أن تهتم بالجبهة الأوروبية في مواجهة محاولة روسيا إعادة إنشاء دائرة نفوذها من خلال استخدام القوة، وليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى مواجهتها بالقوة. وحتى أوروبا، التي حاولت الابتعاد خلال السنوات الماضية عن الولايات المتحدة، أعادت اكتشاف حقيقة أن القوة الأميركية لا يمكن الاستغناء عنها.

وإذا كانت الولايات المتحدة لا تملك حاليًّا القدرات العملياتية لالتزام كامل طويل الأمد بقضيتين كبيرتين في مواجهة روسيا والصين، فإن الواقع الجيوسياسي يفرض عليها ذلك، ولن يكون أمام حلفائها وشركائها على جبهتي أوروبا والهند والمحيط الهادئ خيار سوى إلزام أنفسهم بنشاط أكبر في إدارة هاتين القضيتين، وخاصة في ظل وجود دعم مشترك بين الصين وروسيا لإعادة رسم الخرائط الإقليمية وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي بدلًا من العمل على كسب النفوذ من داخل المؤسسات القائمة.

وإذا كانت واشنطن تواجه الآن تحديات صينية وروسية، فإنه يجب عليها بالضرورة تمكين حلفائها وتجديد ترتيبات تقاسم الأعباء في آسيا وأوروبا. وتساعد استراتيجية إدارة بايدن الكبرى على القيام بالأمرين من خلال تركيزها الخاص على بناء العمل الشبكي للشراكات المرنة والمؤسسات والتحالفات ومجموعات الدول؛ حيث طوَّرت الولايات المتحدة تشكيلات (خمسة- أربعة- ثلاثة- اثنان) في آسيا بدأت بتعزيز التحالف الاستخباراتي "خمس أعين" (FVEY) إلى نشر الحوار الأمني الرباعي، وتوقيع الاتفاقية الأمنية الثلاثية "أوكوس" (AUKUS) ثم تعزيز التحالفات العسكرية الثنائية تعزيزًا للعمل الشبكي لإدارة بايدن في آسيا.

وإذا كانت الأطراف الآسيوية والأوروبية لا تستطيع تحقيق التوازن في مواجهة الصين وروسيا بمفردها في المستقبل المنظور، فإنها تساعد في تعزيز الدعم السياسي المحلي للولايات المتحدة من أجل استمرار الالتزام العسكري في المنطقتين. ومن خلال تعزيز دور أكبر لحلفائها وزيادة تفعيل موقفهم السياسي، يمكن لواشنطن بناء توازنات إقليمية دائمة للقوى في آسيا وأوروبا، مدعومة بالقوة العسكرية الأميركية. وهذا قد يجبر بكين وموسكو على تبنِّي نهج أكثر منطقية مع جيرانهما.

خاتمة

في إطار المحاور التي تناولتها الدراسة، وفي ظل تطورات ومعطيات وسياقات الأزمة الأوكرانية 2022، يمكن الوقوف على عدد من الخلاصات الأساسية:

أولًا: فيما يتعلق بالوحدات الدولية، كشفت الأزمة الأوكرانية عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النظام الحالي، مثل روسيا الاتحادية التي حركت الأحداث وكانت المبادر بالفعل في الكثير من تحولاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب. وفي المقابل، برز دور الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ حيث وجدت في الحرب تهديدًا كبيرًا للكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري، بل وفي مرحلة من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديدًا حقيقيًّا لوجود العديد من الدول والأطراف في المعسكر الغربي، وفي مقدمتها دول أوروبا الشرقية سواء التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي، 1991.

وفي إطار الوحدات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول: إن هناك احتمالات قوية بظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل الأزمة، وقد نشهد اتجاهًا نحو بناء تحالفات جديدة قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخاصة بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) التي قامت بتفعيل المادة (4) من ميثاق حلف الناتو فيما بينها، أمام ما وجدته من تهديدات وجودية لأمنها واستقرارها.

ثانيًا: فيما يتعلق بالبنيان الدولي، قد تدفع تداعيات الأزمة إلى تغير جذري في بنية النظام الدولي الراهن، ولكن من وجهة نظر الباحث، باتجاه نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية، في ظل الأضرار الكبيرة التي ستطول روسيا وحلفاءها في المواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا. فالعقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا يمكن أن تعود بها لما كانت عليه عام 1999، ولن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، أهم مصادر دخلها القومي، في ظل العقوبات المفروضة عليها، من الدول والشركات العملاقة والمؤسسات المالية والاقتصادية الضخمة. ولا يعتقد الباحث أن الصين يمكن أن تتورَّط في تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا، في حال تمددت الحرب خارج المسرح الأوروبي، لأنها أكثر حرصًا على الحفاظ على مقدراتها وتأمين نموذجها على الأقل مرحليًّا، حتى تحتوي التداعيات المباشرة للأزمة الأوكرانية.

ثالثًا: فيما يتعلق بالمؤسسية، سواء التنظيمية أو القانونية والمعيارية، واتساقًا مع الملاحظة السالفة، يُمكن القول: إن العالم بعد الأزمة الأوكرانية، سيتجه نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية، وهذا ما اتضح جليًّا في الأزمة؛ حيث تحركت معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية بل والصحية والرياضية والشركات الفنية والإعلامية -بدرجة كبيرة من التنسيق في توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها- ضد روسيا وسياساتها وحلفائها. وجرى حشد الأغلبية العظمى من الهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية في مواجهة السياسات الروسية، وكان في مقدمة هذه المؤسسات منظومة الأمم المتحدة، والناتو والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمؤسسات المالية الدولية، بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية لمعظم النظم السياسية في العالم، بتحديد مواقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا.

رابعًا: فيما يتعلق بالعمليات الدولية في مرحلة الأزمة الأوكرانية وما بعدها، فإنها تقوم على الجمع بين أقصى أشكال التعاون داخل المنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات)، وأقصى أشكال الصراع بين المنظومة الغربية ومن يدور في فلكها من ناحية، وروسيا الاتحادية ومن يدور في فلكها من ناحية ثانية. وستستمر هذه الثنائية (التعاون+الصراع) عدة سنوات حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من الاستقرار المؤقت قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع بقايا روسيا الاتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز على قمة النظام الدولي.

خامسًا: التأكيد على أن التحولات والتطورات التي تحدث في بنية النظام الدولي تنعكس بالتبعية، سلبيًّا وإيجابيًّا، على كل الأنظمة الإقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النظام، ومن بينها النظام الإقليمي للشرق الأوسط. وهذا يرتبط بطبيعة الحال بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي والإقليمي، بل والدولي والمحلي في العديد من الأزمات الإقليمية، كما يرتبط بأنماط التفاعلات التي تربط بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وطبيعة هذه التحالفات ومتانتها، والأطر والضوابط الحاكمة لها. وهو ما يعني إمكانية تعرُّض بعض الأطراف الإقليمية لضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية إذا حاولت أو فكرت في تجاوز الأدوار الوظيفية المرسومة لها سلفًا من جانب الولايات المتحدة، والمستقرة من عقود واقعًا.