مع استطالة الحرب الروسية على أوكرانيا، ونتائجها القاسية على الأرض، لم يعد الموقف الإسرائيلي الرمادي والمتردد، مقنعا لأي من طرفي الحرب الرئيسين، ولا لحلفائهما وبخاصة للحلف الدولي الواسع الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا، حيث تواصل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حشد مزيد من الحلفاء، وتستعد لفرض سلسلة جديدة من العقوبات ضد روسيا. وسط هذه الأجواء المتوترة والمشحونة جدا، جاءت أزمة العلاقات الروسية- الإسرائيلية والتي كان أبرزها حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لقناة تلفزيونية إيطالية والتي ألمح فيها إلى وجود جذور يهودية للزعيم الألماني النازي أدولف هتلر ما أثار عاصفة لم تهدأ بعد من التنديد في إسرائيل، ودعا كثيرا من وسائل الإعلام العالمية إلى النبش في الخلفيات التاريخية لحديث لافروف.
جزء من أزمة واسعة
لم يقصد لافروف من تصريحه هذا بالتحديد التعرض لإسرائيل وسياستها بقدر ما كان يقصد الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي مشيرا إلى أن الأصل اليهودي لهذا الأخير لا ينفي تعاونه مع من تسميهم روسيا "النازيين الجدد" في أوكرانيا، والعاصفة خفّت حدتها بشكل جزئي بعد الإعلان من قبل مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل به هاتفيا لتهنئته بـ"يوم الاستقلال"، واعتذر له عما بدر من وزير خارجيته لافروف في تصريحاته المثيرة للجدل. ولكن.. حتى هذا الاعتذار ظل محلّ تساؤلات وشكوك، ويبقى الأهم أن مجمل حكاية الدم اليهودي والضجة التي أثيرت حولها ليست مجرّد سحابة صيف، بل هي الجزء الظاهر من أزمة باتت تتراكم وتتجمع في سماء العلاقات الروسية- الإسرائيلية، وسببها الجوهري هو الانتقال الملحوظ من موقف السير على خيط الحياد الرفيع إلى الانحياز الواضح للموقف الأميركي - الأوكراني.
جاءت تصريحات لافروف المثيرة للجدل بشأن الأصول اليهودية لهتلر خلال حواره مع البرنامج التلفزيوني الإيطالي "زونا بيانكا"، وكان يردّ على سؤال حول ادّعاء روسيا بأنها تقاتل في أوكرانيا من أجل اجتثاث النازية، في حين أن الرئيس زيلينسكي هو يهودي، وقال لافروف "الحقيقة لا تنفي وجود عناصر نازية في أوكرانيا، كان لهتلر دماء يهودية". وأضاف "إن بعض أسوأ المعادين للسامية هم من اليهود".
كلام لا يغتفر!
أقسى ردود الفعل الإسرائيلية جاءت على لسان وزير الخارجية يائير لبيد الذي وصف تصريحات لافروف بأنها "كلام فاضح لا يغتفر، وخطأ تاريخي فظيع"، وقال لبيد "اليهود لم يقتلوا أنفسهم في الهولوكوست" معتبر أن اتهام اليهود أنفسهم بمعاداة السامية هو ضرب من العنصرية.
أما رئيس الحكومة نفتالي بينيت فكان حذرا في تصريحاته التي نقلها موقع ( آي 24) متمسكا بالموقف التقليدي الإسرائيلي بأنه لا يوجد في التاريخ ما يشبه الكارثة (الهولوكوست)، داعيا إلى تجنب استخدام الكارثة وذكراها في أي هجوم سياسي. وعقّب بينيت على تصريحات لافروف بالقول "أعتبر أن هذه التصريحات خطيرة، ولا تمت بأي صلة للحقيقة والغرض منها خاطىء"، وقال إن هذا النوع من الأكاذيب يهدف إلى إعفاء أعداء إسرائيل من المسؤولية.
بينما رئيس الدولة إسحق هرتسوغ كان أكثر حذرا ودبلوماسية، وقال في تصريحات نشرتها صحيفة "هآرتس" إن تصريحات لافروف لن تدمر العلاقات بين روسيا وإسرائيل، معربا عن أمله بأن يقوم وزير الخارجية الروسي بسحب تصريحاته.
اعتذر أم لم يعتذر؟
ويبدو أن إسرائيل لم تكن في حاجة لمثل هذه المشكلة مع روسيا، فقد أعلن مكتب رئيس الحكومة أن الرئيس بوتين اعتذر عن تصريحات وزير خارجيته لافروف، وأن بينيت قبل اعتذار بوتين وشكره على توضيح موقفه "بشأن الشعب اليهودي وذكرى المحرقة".
أوردت المصادر الروسية الخبر بشكل مختلف دون أن تؤكد أو تنفي فكرة الاعتذار، حيث ذكر بيان رسمي روسي أن الطرفين شددا على أهمية التاسع من أيار وهو اليوم الذي تحيي فيه روسيا الذكرى السنوية للانتصار على النازية، والذي سيتيح هذا العام تكريم ذكرى كل ضحايا الحرب العالمية الثانية بمن فيهم ضحايا المحرقة.
لم تنطلق تصريحات لافروف من الفراغ فقد سبقتها ورافقتها مواقف روسية صريحة وأخرى مبطنة بأن إسرائيل تدعم من تسميهم موسكو النازيين في أوكرانيا والمعروفين باسم "قوات آزوف"، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاراوفا: "سوف أقول ما لا يرغب الساسة الإسرائيليون في سماعه، ولكن ربما سيهتمون به: هناك مرتزقة إسرائيليون الآن في أوكرانيا ويخوضون المعارك جنبا إلى جنب مع عناصر آزوف"، ومن أبرز المواقف التي انطوت على إشارات روسية سلبية تجاه إسرائيل، تلك النكتة التي رواها الوزير لافروف خلال حواره مع قناة "العربية"، وانتشرت على نطاق واسع، منتقدا ازدواجية المعايير تجاه ما يجري في أوكرانيا وفلسطين، حيث دعا من لا يطيقون سماع الأنباء المؤسفة عن أوكرانيا إلى تخيّل أن أوكرانيا هي فلسطين ، وأن روسيا هي الولايات المتحدة الأميركية.
سبق لوزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد أن أطلق تصريحات عدة مهاجما روسيا وعملياتها في أوكرانيا، فيما بدا انه تباين في مواقف أقطاب الحكومة الإسرائيلية، وسط حرص رئيس الحكومة نفتالي بينيت على إظهار موقف محايد وتقديم نفسه كوسيط محتمل بين الطرفين، وهو الذي سبق له أن التقى الطرفين لهذه الغاية ولكن من دون جدوى.
المشكلة في الحياد
ليس هذا التباين في المواقف سوى تعبير عن مدى حرج ودقة الموقف الإسرائيلي الذي يريد الحفاظ على العلاقات القوية والمتشابكة مع روسيا من جهة، من دون إغضاب واشنطن وحلفائها بمن فيهم قادة كييف، والحرص على إظهار إسرائيل في مكانها الطبيعي وضمن حلفائها الغربيين الذين تجمعها معهم قيم "الديمقراطية وحقوق الإنسان" كما يردد صحافيون وكتاب وبعض الساسة الإسرائيليين.
أطلق يائير لبيد تصريحات قاسية في السابع من نيسان الماضي دان فيها ممارسات القوات الروسية في أوكرانيا ووصفها بأنها "جرائم حرب"، وقال في تصريحات نقلتها مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية أن غزو القوات الروسية لأراضي دولة مجاورة هو أمر غير معقول وغير عادل، وفي إثر ذلك استدعت وزارة الخارجية الروسية السفير الإسرائيلي في موسكو أليكس بن تسفي لتوبيخه وإبلاغه احتجاج روسيا، ولم تكتف الخارجية الروسية بذلك فأصدرت بيانا خاصا لإظهار انزعاجها الشديد من الموقف الذي جاء في سياق دعم إسرائيل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتعليق عضوية الاتحاد الروسي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقد أعربت الخارجية الروسية عن أسفها لكون خطاب لبيد مليئا بلغة عدوانية.
وكان لبيد نفسه قد أكد في بداية الحرب، وتحديدا في مطلع نيسان، أن إسرائيل سوف تلتزم بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب على روسيا، ولن تكون طريقا للالتفاف على هذه العقوبات، وقال لبيد من العاصمة السلوفاكية براتيسلافا إن إسرائيل "تعمل بتنسيق كامل مع حليفتنا الولايات المتحدة ومع شركائنا الأوروبيين لوقف الحرب وإنهاء هذه المأساة العنيفة في أسرع وقت ممكن".
علاقات متشابكة
سبق لموقع المشهد الإسرائيلي الصادر عن مركز (مدار) أن خصص أكثر من مادة وبحث عن صعوبة الموقف الإسرائيلي وحساسيته تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، بسبب تردد إسرائيل بين انحيازها الطبيعي لحليفتها الرئيسة وداعمتها الأولى الولايات المتحدة الأميركية، التي مارست ضغوطا كثيفة على عدد من الدول لضمان تأييدها للموقف والعقوبات الأميركية والغربية على روسيا، وبين خوف إسرائيل من تبديد المنجزات التي راكمتها والعلاقات الوثيقة التي بنتها مع روسيا خلال الثلاثين عاما الماضية أي منذ استئناف العلاقات بين الجانبين في العام 1991، وهذه العلاقات تشمل التعاون في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، ولعل أبرز مجالات هذه العلاقات هي تلك التفاهمات التي تسمح فيها روسيا لإسرائيل باستباحة الأجواء السورية، وضرب بعض الأهداف التي غالبا تعلن إسرائيل في الغالب أنها إيرانية أو إمدادات أسلحة لحزب الله، كما شمل التعاون بين البلدين الاهتمام الروسي بوجود أكثر من مليون وربع المليون إسرائيلي من أصل روسي ومن دول الاتحاد السوفييتي السابق (نحو خمس هذا الرقم يشمل المهاجرين القادمين من أوكرانيا التي كانت مركزا مهما من مراكز الانتشار اليهودي في أوروبا الوسطى والشرقية)، إلى درجة أن الرئيس بوتين اعتبر إسرائيل من الدول الناطقة بالروسية. وتشير بعض المصادر إلى أن عددا ممن تسميهم المصادر الغربية بالأوليغارشية الروسية، من كبار الأثرياء الروس المحيطين بالرئيس فلاديمير بوتين، هم من اليهود الروس الذي يتنقلون بين روسيا وإسرائيل ويحظون بالجنسية الإسرائيلية إلى جانب جنسيتهم الأصلية الروسية مثل الملياردير المزدوج الجنسية رومان أبراموف.
ومع أن إسرائيل تتصرف وكأن الولايات المتحدة في طريقها لتخفيف حضورها وتدخلاتها في الشرق الأوسط، تزامنا مع تعزيز الحضور الروسي في سورية وباقي دول الإقليم، إلا أنه لا يمكن مقارنة علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة بعلاقتها مع روسيا، فالعلاقات الإسرائيلية- الأميركية تصنف بأنها علاقات "فوق استراتيجية" وتمثل ارتباطا عضويا لصيقا بالدور الوظيفي الموكول لإسرائيل، وليست مجرد علاقات مميزة كما هي الحال مع روسيا.
مواقف لم ترض أحدا
بررت إسرائيل موقفها الرمادي الأقرب للحياد بأن روسيا أصبحت جارة مباشرة لإسرائيل بسبب وجودها العسكري الكثيف في سورية، ثم أنها سعت إلى التغطية على هذا الموقف من خلال تقمص دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، وهو دور لم يصمد طويلا بسبب عمق وتعقيدات المشكلة الأوكرانية واتساع الأعمال الحربية. كما أن من المتوقع موافقة واشنطن على منح إسرائيل هامشا للتحرك في هذه الأزمة بما يتناسب مع مصالحها وحساباتها، ولكن حتى هذا الهامش بدأ يضيق بالتدريج مع استمرار العمليات العسكرية من دون أن تلوح أي بارقة أمل لنهاية قريبة للحرب، ثم انزعاج واشنطن من محاولات بعض الدول الصغيرة في أوروبا مثل جمهوريتي هنغاريا والتشيك (وهما أقرب الدول الأوروبية لإسرائيل ومواقفها) التملص من العقوبات المفروضة على روسيا بحجة أنها تتعارض مع المصالح الوطنية لهذه الدول.
مواقف إسرائيل الضبابية لم ترض أحدا، لا روسيا ولا أوكرانيا ولا حتى بعض الإسرائيليين، فروسيا تجاهلت تصويت عشرات الدول ضدها ولصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وركزت على تصويت إسرائيل ضد روسيا، حيث ذَكَّرت وزارة الخارجية الروسية إسرائيل بأنها تواصل مخالفة قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال الاحتلال غير القانوني والضم المتواصل لأراضي الفلسطينيين.
أما أوكرانيا فانتتقدت إسرائيل في مناسبات عديدة أبرزها ما قاله الرئيس فولودومير زيلينسكي في خطابه الموجّه للكنيست في العشرين من آذار الماضي، والذي قلل فيه من شأن "الوساطة غير الفعالة" التي تقوم بها إسرائيل مع روسيا، داعيا إسرائيل إلى الانضمام للعقوبات الغربية وتزويد أوكرانيا بالسلاح، وأظهر الرئيس الأوكراني استياء حكومته من الازواجية والحياد الذي تبديه إسرائيل بحجة عدم استفزاز روسيا.
يشار إلى أن خطاب زيلينسكي عمّق الفجوة بين بلاده وإسرائيل، حيث أظهر رئيس الحكومة بينيت امتعاضه من الخطاب، فيما انتقد عدد من أعضاء الكنيست الخطاب بشكل صريح بسبب تشبيه زيلينسكي الجرائم الروسية في اوكرانيا بالجرائم النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
ومن الانتقادات الأوكرانية اللافتة للموقف الإسرائيلي، ما ورد على لسان يفغين كورنتشوك، السفير الأوكراني في تل أبيب، مطلع شهر آذار، الذي انتقد المعاملة المذلة والتمييزية التي يلقاها اللاجئون الأوكرانيون لدى وصولهم إلى إسرائيل.
كما انتقد كورنتشوك مماطلة وتأخير الكنيست في منح الرئيس زيلينسكي فرصة لمخاطبته في بداية الأزمة، وخاطب السفير الإسرائيليين قائلا: "لا أعرف ما الذي تخشونه ومم تخافون؟"، وكان يشير إلى تباطؤ قيام إسرائيل بتقديم مساعدات إنسانية ولوجستية لأوكرانيا، وهي التي رفضت قبل ذلك إمداد أوكرانيا بمنظومة "القبة الحديدية".
كما اتهم وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا شركة الطيران الإسرائيلية (إلعال) بالتحايل على العقوبات المفروضة على روسيا، وقبول مدفوعات من النظام المصرفي الروسي (مير)، وقال في تغريدة له إنه في الوقت الذي يفرض العالم عقوبات على روسيا بسبب فظائعها الوحشية، يفضل البعض جني أموال غارقة بدماء الأوكرانيين، واعتبر أن سلوك شركة (إلعال) يمثل ضربة للعلاقات الأوكرانية- الروسية. يشار إلى أن شركة إلعال نفت هذه الاتهامات، وادّعت أنها ألغت قبول الدفع بواسطة بطاقات مير منذ أواخر شباط الماضي.
مواقف ضارّة
كما أن استمرار الموقف الإسرائيلي المحايد سبب مزيدا من الضرر لإسرائيل في الأوساط الليبرالية الغربية وتحديدا في اوروبا التي تتوقع من إسرائيل مواقف تنسجم مع مواقف الاتحاد الأوروبي وتقاليده في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض الغزو الروسي لدولة اوروبية مستقلة.
ومن السهل العثور على امتدادات لهذه المواقف الأوروبية وسط الكتاب والمثقفين الإسرائيليين، كما فعل المحلل عاموس هرئيل في مقاله بجريدة "هآرتس" بتاريخ 30/4/2022 حين وصف الحكومة الإسرائيلية بأنها "كمن يمشي على البيض"، مشيرا إلى أن المواقف الحازمة للإدارة الأميركية في موضوع العقوبات تثير أسئلة قاتمة حول موقف إسرائيل وسياستها. وقال هرئيل إن بينيت لم يضبط نفسه في إظهار الاستجداء لبوتين، مثل سلفه بنيامين نتنياهو، ولكنه أيضا لم يتماشَ مع الخطوات الأميركية. وأضاف أن وقتا طويلا قد مرّ قبل ان تُسمع من إسرائيل أصوات ومواقف تندد بجرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو يعتبر بأن الحجة الرائجة بأن روسيا قوية ومهمة ولا ينبغي استفزازها أو إغضابها للحفاظ على حرية عمل الطائرات الإسرائيلية في سورية لم تعد مقبولة.
وينتقد هرئيل عدم مشاركة وزير الدفاع بيني غانتس في اللقاء الذي دعا له وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في ألمانيا في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، حيث أوفد غانتس رئيس المكتب السياسي الأمني لمكتبه العميد درور شالوم، ويرى أن على إسرائيل أن تبث رسائل كثيرة وتشارك في الجهود الدولية لكبح العدوان الروسي. يذكر أن غانتس شدد بعد تصريحات لافروف بأن التعاون الروسي- الإسرائيلي سوف يبقى قائما في اتفاق ضمني يسمح بتوجيه ضربات للقوات الإيرانية.