• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
دراسات

سياسات القوى الآسيوية الكبرى تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية


تكتسب دراسة سياسات القوى الآسيوية الكبرى الصين والهند واليابان تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية أهميتها نظراً لأنها تقدم نماذج متعددة لأنماط السياسات الخارجية التي يمكن أن تتبعها القوى الكبرى في ظروف غير عادية كحالة الحرب، التي تحمل في طياتها مصادر تهديد ومخاطر مؤثرة على المصالح الاستراتيجية لهذه القوى، وفي ظل بيئة تتسم بدرجة واضحة من الاستقطاب الحاد، وهو ما يضيق من نطاق المناورة في نطاق حركة السياسة الخارجية لهذه القوى، ويفرض عليها تبنّي خيارات واضحة ومحددة تبتعد نسبياً عن الوسطية والتوفيقية بدرجة واضحة، ومثل هذه الخيارات تعد بمنزلة الخيارات الصعبة التي عادة ما يكون لها أعباء وتكاليف ينبغي تحديدها بحسابات دقيقة، وتعبئة موارد القوة اللازمة للتعامل معها كافة، وتوفير المتطلبات اللازمة لتوظيفها التوظيف الأمثل لتحقيق الأهداف والحفاظ على المصالح الاستراتيجية لكل من أطرافها.

وفي هذا الإطار سنعرض لسياسات هذه القوى على النحو الآتي:

أولاً – السياسة الصينية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية

ترتبط الصين بعلاقات ذات طبيعة متميزة مع روسيا، ويؤكد هذا البيان الصادر عقب القمة التي عقدت في بكين بين الرئيسين الصيني والروسي في الرابع من فبراير 2022 والذي حمل عنواناً لافتاً للانتباه، هو بيان مشترك حول العلاقات الدولية التي تدخل عصراً جديداً والتنمية المستدامة العالمية، وقد جاء شاملاً ومفصلاً لجوانب العلاقات الصينية الروسية كافة في ظل ما يمر به العالم من متغيرات هائلة، وتطور سريع وتحول عميق، ويكتسب هذا البيان أهمية خاصة في نطاق تحليل السياسة الصينية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية لأسباب عدة منها:

1– تم توقيع اتفاقيات ضخمة لتوريد النفط والغاز الطبيعي الروسي للصين بعده ففسر على أن الرئيس بوتين قد أوجد سوقاً بديلة لصادراته للاتحاد الأوروبي قبل بدء الحرب، تحسباً للعقوبات الأوروبية والأمريكية المتوقعة بفرض حظر على الصادرات الروسية من النفط والغاز .

2– اشتمل على تأصيل ووصف لطبيعة العلاقة بين البلدين فلا حدود للصداقة بينهما ولا توجد مجالات تعاون “محظورة”، وتعزيز التعاون الاستراتيجي الثنائي لا يستهدف دول ثالثة، ولا يتأثر بالبيئة الدولية المتغيرة والتغيرات الظرفية في بلدان ثالثة، ودعمهما المتبادل القوي لحماية مصالحهما الأساسية، وسيادة الدولة وسلامة أراضيها، ومعارضتهما تدخل القوى الخارجية في شؤونهما الداخلية، وتأكيد الجانب الروسي دعمه لمبدأ الصين الواحدة، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، ومعارضته لأي شكل من أشكال استقلال تايوان.

3- تضمن البيان العديد من المسائل التي يمكن أن تفسر السياسة الصينية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية منها الرؤية المشتركة للبلدين حول التغيرات التي يمر بها العالم وما تتطلبه من السعي إلى تعددية قطبية حقيقية، المخاوف المشتركة للدولتين تجاه أنشطة الأسلحة البيولوجية المحلية والأجنبية التي تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها، باعتبارها تمثل تهديداً خطراً للأمن القومي للبلدين، وقوف البلدين ضد محاولات القوى الخارجية لتقويض الأمن في المناطق المتاخمة المشتركة بينهما، ومواجهة تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للدول تحت أي ذريعة، ومعارضة الثورات الملونة، ومعارضة المزيد من توسيع الناتو، ودعوتهما للحلف إلى احترام سيادة الدول الأخرى وأمنها ومصالحها.

4 – كما تضمن البيان مواقف واضحة ومشتركة تجاه بعض القضايا منها رفضهما تشكيل هياكل كتلة مغلقة ومعسكرات متعارضة في منطقة آسيا والمحيط الهادي، واليقظة بشأن التأثير السلبي لاستراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادي على السلام والاستقرار في المنطقة، والقلق البالغ للدولتين إزاء الشراكة الأمنية الثلاثية بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة (AUKUS)، التي تنص على تعاون أعمق بين أعضائها في المجالات التي تنطوي على تهديد الاستقرار الاستراتيجي، وتعاطف الصين ودعمها المقترحات التي قدمتها روسيا لإنشاء ضمانات أمنية طويلة الأجل وملزمة قانوناً في أوروبا، ورفض العقوبات الأحادية الجانب، وتطبيق الولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية، وإساءة استخدام سياسات الرقابة على الصادرات.

ومن خلال ما تقدم فإن هذا البيان وضع مجموعة من الأسس التي يمكن من خلالها تفسير السياسة الصينية تجاه هذه الحرب وتشمل تعاوناً غير محدود يقوم على مساحة واسعة من التوافق حول القضايا الاستراتيجية ذات الأهمية المشتركة للصين وروسيا، والدعم المتبادل تجاه القضايا ذات الأهمية النسبية المرتفعة لكل منهما، والتقارب النسبي الواضح في المصالح، والشعور بالتعرض لنوعية من المخاطر والتهديدات الأمنية المشتركة، وهو ما ترجمته عملياً السياسة الصينية، مع ما شهدته هذه الحرب من تطورات يؤكد هذا الآتي:

ا – رفض الصين فرض أي عقوبات على روسيا وتشديدها على رفضها لأي قيود أحادية الجانب.

ب- بعد تصاعد التوترات وتحول الأزمة إلى صراع عسكري، دعت الصين إلى حوار مباشر بين روسيا وأوكرانيا وإلى حل الموقف الحالي عن طريق الحوار والتفاوض بين البلدين .

ج – رغم ازدياد الضغوط الأمريكية والأوروبية على الصين فإن الموقف الصيني اتسم بدرجة واضحة من الثبات، فقد واصلت بكين رفض إدانة روسيا، ورفض فرض أي عقوبات عليها، ووصفت الخارجية الصينية روسيا بأنها “الشريك الاستراتيجي الأهم للصين وأكدت على المحافظة على التركيز الاستراتيجي وتعزيز تنمية الشراكة الصينية – الروسية الشاملة في العصر الجديد .

د – اتجهت السياسة الصينية إلى مقاومة الضغوط الأمريكية والأوروبية، والالتفاف عليها وحاولت تفريغها من مضمونها، وذلك من خلال اتخاذ التدابير اللازمة للرد على العقوبات الأمريكية ضد روسيا والتي تضر بمصالح الصين، والتقليل من أهمية الالتفاف على العقوبات ولفت الانتباه إلى مشكلة أخرى تتمثل فيما تعرضت له الدول التي لها علاقات تجارية واقتصادية منتظمة مع روسيا، ومنها الصين من أضرار لا مبرر لها، التشكيك في قانونية هذه العقوبات من خلال التأكيد على أن 140 دولة من بين أكثر من 190 دولة عضو في الأمم المتحدة، لم تنضم إلى العقوبات أحادية الجانب ضد روسيا وهو ما يعني وفقاً للرؤية الصينية أن معظم دول العالم، تتخذ موقفاً حذراً ومسؤولاً بشأن قضية العقوبات.

وفي السياق ذاته دعا الرئيس الصيني العالم إلى دعم الحوار بين روسيا وأوكرانيا، منتقداً من يصبون الزيت على النار على حد قوله، مقترحاً على الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة والناتو “إنشاء آلية أمنية في أوروبا”.

بعد ذلك بلورت الصين شكلاً جديداً لموقفها بإعلانها أنها ليست طرفاً في النزاع الأوكراني موضحة دعمها المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، ودعت إلى عدم المبالغة في الدور الذي يمكن أن تلعبه في هذا النزاع، لأن مفتاح حل هذه المسألة ليس بيد الصين، بل بيد واشنطن وبروكسل وموسكو، فالأزمة مسألة تتعلق بأمن أوروبا، لذا على الأوروبيين أن يقرروا ماذا سيفعلون وذكرت أنه لطالما قال الأمريكيون إنهم يقفون مع الأوروبيين في أمنهم، لذلك ربما يمكنهم فعل شيء حيال ذلك، فإذا اتصل الرئيس الأمريكي بالرئيس الروسي وقال إن الناتو لن يتوسع، ولن يكون هناك نشر أسلحة استراتيجية، وإن أوكرانيا ستكون دولة محايدة، فقد يكون ذلك كفيلاً بحل المشكلة. كما استمرت في رفض المشاركة في الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة ضد روسيا مع تجنب امتدادها للصين بقدر الإمكان.

و– مهاجمة السياسة الأمريكية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية حيث طالبت الولايات المتحدة بإظهار التزامها بحل الأزمة في أوكرانيا من خلال رفع العقوبات المفروضة على روسيا، والتوقف عن تهديد موسكو، وتعزيز محادثات السلام الروسية – الأوكرانية، ووصفتها بأنها تستفيد من الفوضى، كما اتهمتها بأنها تتربح من الأزمة الأوكرانية على حساب حلفائها الأوروبيين، مبينة ما ستحققه من مكاسب سواء من خلال زيادة صادراتها من الغاز المسال للدول الأوروبية أو من خلال مبيعات الأسلحة لها التي أعلنت عن زيادات ضخمة في ميزانياتها الدفاعية ، ووصل الهجوم الصيني على السياسة الأمريكية إلى اتهام الولايات المتحدة بخداع الأوكرانيين ليكونوا رأس جسر لقمع جارتهم مقابل قبول الغرب لهم، الذي تبين أنه وعد فارغ، في حين رفضت تقديم ضمانات أمنية، وزرعت بذور الصراع العسكري في أوكرانيا.

ز- يدخل في نطاق السياسة الصينية تجاه الحرب الأوكرانية، التوجه الصيني لإصلاح العلاقات مع الهند، التي شهدت توترات شديدة نتيجة الصدامات التي وقعت على الحدود بين الصين والهند عام 2020، وتذكر إحدى الدراسات أن لدى الصين دافعين رئيسيين للانخراط مع الهند الآن، هما الوضع في أوكرانيا والحياد المشترك الموالي لروسيا بين بكين ونيودلهي، وتضيف: حدد الصينيون بوضوح فرصة لرأب الصدع بين الصين والهند – ليس لإصلاح العلاقات فقط، ولكن لبناء موقف مشترك ضد المطالب الغربية بأن يتخذ كلا البلدين إجراءات أكثر حزماً تجاه روسيا، وذهبت بكين إلى حد الإشارة إلى أن سلوك واشنطن قد جعل الهند والصين أقرب من خلال إحداث التغيير المطلوب من أجل إعادة الدفء في العلاقات بين البلدين.

وثمة اتجاهات عديدة في تفسير السياسة الصينية تجاه هذه الحرب منها مَنْ يرى أن هذه السياسة تحقق للصين مكاسب عديدة منها استفادة بكين من روسيا كمصدر لأمن الطاقة وخبرة موسكو في التكنولوجيا العسكرية، وقدرات الأسلحة النووية المتقدمة، وقوة التصويت في مجلس الأمن، حيث يمكن للمعاملة بالمثل من جانب روسيا تقوية الموقع الاستراتيجي طويل المدى للصين، في مواجهة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة على أربع جبهات هي تايوان ومنطقة المحيطين الهندي والهادي، وأوروبا، وإيران، والشرق الأوسط، والقطب الشمالي، كما أنها تعزز من موقف بكين المهيمن في ساق العلاقات الصينية – الروسية، هذا فضلاً عن إمكانية استخدام الصين الصراع في أوكرانيا لتقويض القيادة الأمريكية وزرع الانقسام في العلاقات عبر الأطلسي.

ويمكننا القول إن تماسك السياسة الصينية واستمراريتها تجاه هذه الحرب، يعود إلى أسلوب الإدارة الأمريكية للأزمة الذي اشتمل على توجيه تهديدات مباشرة إلى الصين بطريقة مستفزة، فحواها إمكانية تطبيق السيناريو نفس في العقوبات والحرب الاقتصادية والنفسية والديبلوماسية على الصين في حالة قيامها مثلاً بغزو تايوان أو القيام بأي تحرك في بحر الصين الجنوبي يهدد الدول التي لها حدود على هذا البحر، ومن ثم فقد دفع تعامل الغرب مع الأزمة الأوكرانية موسكو وبكين إلى مزيد من الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد التي تلتزم بإصلاح النظام العالمي ضد الهيمنة الأمريكية ، هذا فضلاً عن أن الكثير من الإجراءات التي تتخذها الأطراف الرئيسية في هذه الأزمة والإجراءات المضادة تصب في صالح الصين.

ثانياً – السياسة الهندية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية

 ترتبط الهند بعلاقات شراكة استراتيجية وثيقة وطويلة الأمد مع روسيا وهي علاقة تغطي مجالات متنوعة ومهمة بالنسبة إلى الجانبين، وقد تم اختبارها على مدى عقود وفي ظل ظروف ومتغيرات مختلفة ومتنوعة، ولكنها أثبتت صلابتها وقوتها ومن ثم استمراريتها، وقد تم تطويرها في الفترة الأخيرة، وهو ما يوضحه تفصيلاً البيان الصادر في السادس من ديسمبر 2021 عن لقاء القمة الهندي – الروسي في دلهي، الذي جاء بعنوان الشراكة من أجل السلام والتقدم والازدهار  ، وقد اشتمل البيان على عناصر بالغة الأهمية بالنسبة إلى طبيعة العلاقات بين البلدين، وما ينتج عنها من أسس للسياسة الخارجية لكل منهما تجاه الآخر، ومن أهم ما جاء في البيان في هذا الشأن:

1 – التأكيد على التزامهما بالشراكة الاستراتيجية الخاصة والمتميزة والتي هي رمز للعلاقات طويلة الأمد والمُختبرة بينهما، والتي تتميز بالثقة المتبادلة واحترام المصالح الوطنية الجوهرية لكل منهما، وتشابه المواقف في مختلف القضايا الدولية والإقليمية.

2- استمرار تكثيف الاتصالات على المستويات جميعها بما في ذلك مستوى القيادتين والوزراء وعقد مشاورات وزارة الخارجية، والحوار الاقتصادي الاستراتيجي والمشاورات حول قضايا الأمم المتحدة، والقطب الشمالي، وتخطيط السياسات.

3- التأكيد على أهمية الحوار الأمني على مستوى وكالات الأمن القومي حول القضايا الثنائية والإقليمية والترحيب بالتفاعلات المنتظمة بينهما.

4- التعاون والتنسيق رفيع المستوى في بعض المجالات ذات الصلة المباشرة بالسياسة الهندية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية، وهي مجالات الاقتصاد والطاقة والتعاون في المنتديات الأممية والمتعددة الأطراف، وتنظيم وتوسيع نطاق أوجه التعاون والعمل المشترك في الصحة والنقل والاتصال، والطاقة النووية المدنية والفضاء، والتعاون العسكري، والعسكري الفني، والعلوم، والتكنولوجيا، والتعليم، والثقافة، والسياحة.

من خلال ما تقدم يمكن القول بوجود إطار فكري و مؤسسي قوي ومتماسك وشامل، تنتظم من خلاله تفاعلات الشراكة الهندية – الروسية، وهو ما يمكن الاستناد إليه في تفسير السياسة الهندية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة أن هناك عناصر ذات صلة مباشرة ببعض القضايا المثارة بشأن هذه السياسة، وواقعياً شكّلت الحرب في أوكرانيا تحدياً للسياسة الهندية لاتجاهها على مدار السنوات الماضية لتأسيس شراكة مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين عبر “تحالف كواد”، ولكن واقعياً أعطت الهند الأولوية لالتزاماتها في إطار الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، فامتنعت عن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، واتجهت لتعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع موسكو، هذا فضلاً عن امتناعها عن التصويت في الأمم المتحدة بإدانة روسيا .

ويأتي هذا الموقف رغم ما تشير إليه بعض التقارير من حاجة الهند إلى دعم مجموعة “كواد” في مواجهة تنامي النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

ويمكن القول إن السياسة الهندية تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية قد تشكلت في ظل تعرض الهند لمجموعة من الضغوط، من حلفائها في تجمع كواد، والاتحاد الأوروبي، وكل من روسيا والصين، يؤكد هذا النشاط الدبلوماسي المكثف الذي شهدته الهند، خلال شهري مارس وابريل 2022، وقد سعى حلفاؤها في كواد إلى ضمان مشاركتها في إجراءات عقابية ضد روسيا، بما في ذلك الحد من اعتمادها على المعدات العسكرية الروسية وواردات النفط الروسية، وهو ما لم يتحقق.

في حين هدفت الزيارات التي قام بها وزيرا خارجية الصين وروسيا إلى الحفاظ على موقف الهند المحايد والالتفاف على العقوبات الغربية، من خلال آلية مدفوعات الروبل الروبية المقترحة، كما تحدث وزير الخارجية الروسي عن الشراكة الأوروبية – الآسيوية المتجذرة في رؤية عالمية مشتركة من قِبل موسكو وبكين ونيودلهي، في تطوير نظام عالمي متعدد الأقطاب والتعاون من خلال المبادرات الإقليمية، مثل مجموعة “البريكس”، ومجموعة الصين والهند وروسيا الثلاثية، وكذلك التعاون من خلال “منظمة شنغهاي”.

وتتعدد الآراء بصدد تفسير السياسة الهندية تجاه هذه الحرب فهناك من يرى أنها نتاج لطبيعة العلاقة الرسمية التي توصف بأنها شراكة استراتيجية خاصة، فموسكو شريك استراتيجي للهند ولا يوجد بين البلدين أي مجالات خلاف كبيرة، وهما يشتركان في مصلحة أساسية في توازن القوى متعدد الأقطاب في أوراسيا.

من ناحية أخرى يشير بعض المحللين إلى أن أحد الشواغل الرئيسية للسياسة الخارجية الهندية تتمثل في كيفية تأثير الأزمة الأوكرانية، ونتائجها غير المتوقعة على علاقات روسيا مع الصين، لأن الهند ترى أن الفوضى الأمنية في أوروبا ونبذ الغرب لروسيا سيدفع موسكو أكثر نحو بكين، وإذا تعمق اعتماد روسيا على الصين واشتدت الإدانة الغربية لروسيا، فقد تكون “الشراكة المميزة” بين دلهي وموسكو في خطر جسيم.

وثمة اتجاه يرجع هذه السياسة لاعتماد الهند على روسيا في غالبية معداتها العسكرية المستوردة وتكنولوجيا الغواصات النووية، وبعض تقنيات ارتياد الفضاء الحيوية، ومن أبرز ما يميز التعاون الدفاعي بين البلدين صفقة بقيمة 5.43 مليار دولار أمريكي لنظام الدفاع الجوي (S-400)، التي بدأت روسيا في تسليمها في ديسمبر 2021، وتعد الأسلحة الروسية ضرورية لقدرة الهند على تحقيق التوازن في مواجهة الصين.

ومن خلال متابعة التفاعلات الجارية بين القوى الدولية الكبرى وتحليلها تجاه الأزمة الأوكرانية نستطيع القول إن السياسة التي تبنّـتها الهند تجاه هذه الحرب حققت لها بعض المكاسب الواضحة منها سعي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا لتقديم المزايا والحوافز للهند لاستمالتها، من خلال التلويح بإمكانية توسيع نطاق التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي، وتوفير احتياجاتها من الأسلحة، لدفعها لإحداث قدر مناسب من التعديل في موقفها تجاه هذه الحرب.

 في حين اتجهت روسيا إلى الإعلان عن استعدادها لإمداد الهند بأنواع الأسلحة الحديثة كافة البالغة التطور في الترسانة الروسية، وتوفير احتياجاتها من الطاقة بأسعار تفضيلية وما يؤكد ذلك فعلياً زيادة التعاقدات الهندية مع الروسية من النفط والغاز الطبيعي هذا فضلاً عن استمرار السعي الهندي للحصول على المزيد من احتياجاتها من السلاح المتطور، والواقع أن هذا المسار الهندي الحالي يحقق المصالح الهندية حيث يوفر لها احتياجاتها من السلع الاستراتيجية بأسعار منخفضة، كما أنه يحقق أهدافها الأمنية من حيث زيادة قدراتها الاستراتيجية على الردع ، كما أنه يساعدها على أن يكون لها ثقل استراتيجي في نطاق التفاعلات بين القوى الدولية الكبرى حيث تستطيع القيام بدور الموازن.

ثالثاً – السياسة اليابانية تجاه الأزمة الروسية – الأوكرانية

جاءت السياسة اليابانية تجاه الأزمة في إطار حركتها التقليدية المتسقة مع التوجه العام للسياسة الأمريكية، وفي نطاق التنسيق مع باقي الحلفاء، وذلك لتثبيت أركان وحدة التحالف الغربي في مواجهة روسيا، فقبل بدء العملية العسكرية الروسية قررت اليابان فرض حزمة عقوبات ضد روسيا على خلفية اعترافها باستقلال منطقتي دونيتسك، ولوغانسك، وذلك عقب إعلان الرئيس الأمريكي، أول حزمة عقوبات ضد روسيا، كما اتجهت السياسة اليابانية بعد ذلك إلى توظيف الأزمة الأوكرانية لإحياء مطالبها في الجزر المتنازع عليها مع روسيا من خلال الربط بين النهج الروسي في أوكرانيا والنهج السوفييتي الذي اتُبع في احتلال هذه الجزر وضمها بعد الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول إن السياسة اليابانية بعد بدء العملية العسكرية الروسية، قامت على المحاور الآتية:

1 – التوسع في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا بالتنسيق مع الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين والأستراليين

شملت العقوبات التي فرضتها اليابان على روسيا، العقوبات الشخصية لستة ممثلين للقيادة الروسية، وتم فرض عقوبات تصدير على 49 شركة ومؤسسة، بما في ذلك جهاز الأمن الفيدرالي ومديرية الاستخبارات العامة، وفرضت طوكيو حظراً على تصدير المنتجات ذات الاستخدام العام، التي يمكن أن يسهم توريدها في نمو الإمكانات العسكرية لروسيا، لاسيما أشباه الموصلات. ثم أعلنت، أنها ستجمد أصول أربعة مصارف روسية لديها علاقة وثيقة بالحكومة الروسية“، و ذلك بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن عقوبات على عدد من المصارف الروسية، وقال وزير المالية الياباني إن “اليابان تؤيد قرار الاتحاد الأوروبي وستنفذ العقوبات بحزم مع أعضاء مجموعة السبع الآخرين ، ثم أعلنت وزارتا خارجية اليابان وأستراليا عن حزمة جديدة إضافية من العقوبات ضد روسيا، شملت فرض حظر على تصدير معدات تكرير النفط إلى روسيا.

2 – التحفظ تجاه القرار الروسي بالتحول إلى قبول ثمن الغاز بالروبل أعلنت اليابان أنها تدرس القضايا المتعلقة بقرار موسكو تحويل مدفوعات إمدادات الغاز للدول “غير الصديقة” إلى الروبل، لأن طوكيو “ليس لديها فهم بعد لكيفية تنفيذ ذلك القرار عملياً مشيرة إلى أن الحكومة تناقش هذه المسألة مع الهيئات والشركات الوطنية الأخرى المعنية بقضايا الطاقة وإمدادات موارد الطاقة.

3 – تعديل قانون قواعد التعامل وتبادل العملات بما فيها المشفرة لمنع روسيا من سحب جزء من الأصول من تحت العقوبات: وضعت حكومة اليابان تعديلات على هذا القانون بحيث تمنع نقل جزء من الأصول إلى العملات المشفرة لسحبها من العقوبات بعد فصل عدد من البنوك الروسية عن نظام .SWIFT وتنص التدابير على فرض قيود على تحويل أموال العملات المشفرة للأفراد والمؤسسات الخاضعين للعقوبات إلى أطراف ثالثة.

4 – التقليل من أهمية المعاملات التجارية والاقتصادية مع روسيا بالنسبة إلى اليابان

في نهاية مارس 2022نشرت وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية بياناً تضمن قائمة للبضائع الموردة من روسيا، التي يمثل استبدالها مشكلة على المدى القصير، وذكرت أن هناك سبع بضائع من هذا القبيل، وهي النفط، والغاز الطبيعي المسال، والفحم، وفحم الكوك، والمواد بما في ذلك النيون المستخدم في تصنيع أشباه الموصلات، والبلاديوم، وكذلك السبائك الحديدية لإنتاج الفولاذ، والفولاذ المقاوم للصدأ، وفي الوقت نفسه ذكر البيان أنه “على الرغم من الاعتماد الجاد على روسيا في عدد من الأصناف المستوردة، فإنه “توجد إمكانية لاستخدام مواد بديلة وتغيير الدول الموردة وتم التأكيد على أن الحجم المطلق للواردات الروسية صغير وأن تأثيرها في الاقتصاد الياباني ضئيل”.

5 – التصويت لصالح القرارات الأممية التي تدين روسيا نتيجة عمليتها العسكرية في أوكرانيا وذلك باعتبار أن السلوك الروسي يمثل انتهاكاً لأحكام القانون الدولية ويمثل تهديداً مباشراً لوحدة وسلامة أراضي دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، مع التلويح بالمطالبة باستعادة اليابان لبعض الأراضي التي ترى أن موسكو قد اقتطعتها من اليابان كجزر الكوريل التي تطلق عليها اليابان جزر تشيشيما، وقد وصفت الخارجية اليابانية، في كتابها الأزرق عن الدبلوماسية اليابانية لهذا العام، جزر تشيشيما الجنوبية، بأنها أرض محتلة بشكل غير قانوني من جانب روسيا، وهو ما رفضته موسكو، قال المتحدث باسم الكرملين إن الجزر “أراضٍ غير قابلة للتصرف تابعة للاتحاد الروسي”.

رد الفعل الروسي تجاه السياسة اليابانية

قالت وزارة الخارجية الروسية إن اليابان تتصرف بشكل هدام فيما يتعلق بمصالحها الوطنية من خلال انضمامها إلى التيار الغربي للعقوبات ضد روسيا . ومع استمرار اليابان في تصعيد العقوبات أصدرت الخارجية الروسية بياناً جاء فيه أنه “نظراً للطابع غير الودي الواضح للتقييدات الأحادية التي فرضتها اليابان ضد روسيا على خلفية الوضع في أوكرانيا”، تتخذ روسيا عدداً من الإجراءات:

 ا – وقف المحادثات مع اليابان حول معاهدة سلام نظراً لاستحالة مناقشة توقيع وثيقة تأسيسية حول العلاقات الثنائية مع دولة تقف مواقف غير ودية بشكل واضح وتسعى إلى الإساءة لمصالح بلادنا.”

ب – وقف رحلات المواطنين اليابانيين من دون تأشيرات على أساس الاتفاقية الموقعة عامي 1991و1999 حول تبادل الرحلات من دون تأشيرات بين جزر الكوريل واليابان، والتي تطلق عليها اليابان جزر تشيشيما.

ج – أعلنت موسكو خروجها من الحوار مع اليابان حول تطوير أنشطة اقتصادية مشتركة في هذه الجزر، ونيتها منع تمديد وضع اليابان كشريك لمنظمة التعاون الاقتصادي في منطقة البحر الأسود.

د – أجرى الجيش الروسي مناورات في هذه الجزر، وقالت وزارة الدفاع الروسية: إن أكثر من ألف عسكري يجرون تدريبات بإطلاق قذائف مدفعية وأنظمة صواريخ مضادة للدبابات وهو ما يعد رسالة من موسكو إلى طوكيو فحواها أن الرد الروسي على العقوبات الاقتصادية يمكن أن يكون عسكرياً.

والواقع أن هناك العديد من العوامل التي يمكن الاستناد إليها في تفسير السياسة اليابانية المتشددة تجاه روسيا في الأزمة الأوكرانية، منها أنه من الناحية الرسمية مازالت في حالة حرب مع روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، فلم توقع الدولتان أي اتفاقية سلام لإنهاء حالة الحرب بينهما، ومن ثم فإن هذه البؤرة من بؤر التوتر في العلاقات اليابانية – الروسية يمكن للإدارة اليابانية توظيفها في سياق التفاعلات الصراعية الأمريكية – الروسية، وهو ما يعطي اليابان ثقلاً على هذا المستوى بالنسبة إلى شركائها ، يؤكد هذا المخاوف الروسية من أن الولايات المتحدة تخطط لإنشاء قواعد بحرية في نهاية المطاف في هذه الجزر، ما يجعل موسكو تزُعم أن واشنطن هي التي تدفع طوكيو لإعادة تأكيد سيادتها على المنطقة المتنازع عليها، كما أن استمرار شدة هذه الضغوط وزيادتها تعوق الخطط الروسية المعلنة في الاستثمار الاقتصادي في هذه الجزر بالتعاون مع الصين وروسيا، وهو ما يتوافق مع المصالح اليابانية.

الخاتمة

تباينت سياسات القوى الآسيوية الكبرى تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية نسبياً تبعاً للعديد من العوامل منها :

1 – مستوى العلاقة التي تربط بين كلٍّ منها، وكلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ومدى تأثير هذه الحرب على مصالحها الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة .

2- رؤية كل منها لطبيعة الصراع الاستراتيجي الروسي مع حلف شمال الأطلسي الناتجة عن التمدد المستمر للحلف باتجاه الحدود الروسية، وإمكانية توسع الحلف باتجاه منطقة المحيطين الهادي والهندي (الإندوباسيفيك)، التي ترى بعض القوى الآسيوية أنها تدخل في نطاق مصالحها الحيوية في المستقبل، حيث تتوافر مجموعة من المؤشرات الأولية التي تدل في جوهرها على تنامي الاهتمام الأوروبي بهذه الدائرة المهمة، التي اعتمدتها الولايات المتحدة وعدد من شركائها في المنطقة كمفهوم وكوحدة استراتيجية واحدة ليصبح بديلاً لمفهوم آسيا-المحيط الهادي، ومدى تأثير ذلك في مصالحها الاستراتيجية.

3- تقديرها للآثار المحتملة لهذه الحرب على النظام الدولي القائم ومدى توافق السيناريوهات المتوقعة لهذه الآثار أو تعارضها، مع رؤية كل منها لطبيعة النظام الذي يمكن أن تحقق من خلاله مصالحها الاستراتيجية.

4- أوضاعها الداخلية ومستوى الاستقرار السياسي الذي تتمتع به وما يفرضه من قيود ودوافع على سياساتها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالأزمات الساخنة كالحرب.

5 – العامل الأيديولوجي الذي عاد ليؤثر من جديد في هذه السياسات بدرجة واضحة وهو ما برز في مواقف هذه القوى بمحتويات متعددة منها، الترويج لفكرة أن هذه الحرب وفقاً للرئيس الأمريكي جو بايدن، هي حرب بين النظم الديمقراطية والنظم السلطوية، أو هي حرب على النظام الدولي الليبرالي من أجل القضاء عليه وبناء نموذج آخر لنظام جديد لا يعكس قيم الليبرالية الغربية، في حين برزت على الجانب الآخر فكرة أن تدخل الولايات المتحدة وحلفاؤها بهذه الكثافة في هذه الحرب وممارستها الحرب النفسية والاقتصادية على روسيا، ما هي إلا لشعورها بانتهاء حقبة هيمنتها الفعلية على النظام الدولي القائم، الذي يواجه أزمات عديدة بفعل المتغيرات الجديدة التي تتطلب تطويره باتجاه نظام متعدد الأقطاب، ومن ثم فهي تسعى إلى إعاقة هذا التطوير المطلوب لأقصى فترة زمنية ممكنة كما أنها تسعى إلى استنزاف قدرات القوى الدولية الأخرى الصاعدة التي ترى أنه قد آن أوان تغيير هذا النظام وتطويره بما يتلاءم ووقع علاقات وتوازنات القوة الجديدة والفعلية، وذلك في سياق توجهها الأيديولوجي للحفاظ على الوضع القائم.