• اخر تحديث : 2024-12-27 22:39
news-details
تقارير

سياسة الإعدام الميداني للشهود على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي


تكشف عملية اغتيال مراسلة الجزيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، شيرين أبو عاقلة، ظروف الرَّصد والترصُّد التي أحاطت بجريمة الإعدام الميداني التي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد أبو عاقلة أثناء ممارسة نشاطها الإعلامي؛ حيث استهدفها رصاص القناصة في مقتل أسفل الأذن، وهي منطقة لا تغطيها الخوذة التي كانت ترتديها. ويُوثِّق الفيديو، الذي بثَّته قناة الجزيرة، مشهد إطلاق الرصاص ضد الصحفيين، والذي كان مباشرًا ومستمرًّا ومتعمَّدًا، كما روت الصحفية شذا حنايشة، التي كانت أحد الشهود على جريمة الإعدام الميداني لأبو عاقلة، وهو ما ذكره أيضًا الصحفي علي السمودي، المنتج بقناة الجزيرة والمرافق لشيرين أبو عاقلة، في تغطية اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين بالضفة الغربية، وقد أصيب هو الأول برصاص القناصة في ظهره.

تثير ظروفُ اغتيال مراسلة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، سؤالين مباشرين وسط سيل من الأسئلة عن سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين خارج القانون والمعاهدات الدولية ودون أية مساءلة للسياسات الإسرائيلية أو محاسبة مرتكبي جرائم القتل والاعتداء على الصحفيين: لماذا أقدمت قوات الجيش الإسرائيلي على عملية الإعدام الميداني لأبو عاقلة وهي تمارس عملها الصحفي بشكل قانوني؟ ولماذا يصر جيش الاحتلال الإسرائيلي على انتهاك القانون الدولي الإنساني الذي يكفل حماية الصحفيين من أشكال الهجوم المتعمد؟

للإجابة على هذين السؤالين لا يكفي في جريمة الإعدام الميداني لأبو عاقلة -والصحفيين الذين لقوا حتفهم قبلها وهم يؤدون عملهم المهني- النظر إلى سجل علاقة الاحتلال الإسرائيلي بالمؤسسات والشبكات الإعلامية الدولية التي تغطي الشأن الفلسطيني وسياسات الاحتلال، وتحاول نقل الرواية الفلسطينية للمتلقين في أرجاء المعمورة، وإبراز أشكال الانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بل نحتاج أيضًا إلى النظر في سياسات الاحتلال الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية وجميع الأنشطة والأعمال المؤثرة في مساراتها وصيرورتها. ويساعدنا ذلك في فهم المنظور الإسرائيلي وتعامله مع المؤسسات الإعلامية والصحفيين العاملين فيها، باعتباره السياق الأشمل الذي تندرج فيه كل سياسات الاحتلال بما ذلك سياسته تجاه الإعلام. كما يسمح ذلك بفهم سياسات الاحتلال في التعامل مع قطاعات مجتمعية ومجالات أخرى. في هذا السياق، سيركز التعليق على ثلاثة محاور ترتبط بسياسات الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الإعلام وعمليات اغتيال الصحفيين، واستهداف الخطاب الإعلامي لقناة الجزيرة، ثم إشكالية حماية الصحفيين المدنيين في مناطق الصراع والنزاع.

السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الإعلام

يشير سجل الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية، التي استهدفت الصحفيين العاملين في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال العقدين الماضيين، إلى الجمع بين أشكال مختلفة من الاعتداءات (الضرب والاعتقال والقتل وقصف وتدمير مقار وسائل الإعلام...). وعلى الرغم من التنافر الظاهر بين هذه الانتهاكات، فإنها تكشف خصوصية السياسة الإسرائيلية ومنظورًا ناظمًا للتعامل مع وسائل الإعلام؛ حيث تشير الشواهد والحالات التي تُوثِّقها تقارير المراكز الفلسطينية والمنظمات الدولية، وكذلك الوقائع التي جرت في الحروب المتتالية على غزة بما في ذلك الحرب الأخيرة التي شنَّها الاحتلال على القطاع، في مايو/أيار 2021، إلى ثلاثية المنظور الذي تَنْبَنِي عليه هذه السياسة، وهو يشمل: الإرهاب، والترهيب، والردع. كيف ذلك؟ وما الحدود الفاصلة والواصلة بينها؟

ليست هناك أدلة وبراهين أكثر وضوحًا في بيان المرتكز الأول لـ"إرهاب السياسة الإسرائيلية" ضد وسائل الإعلام والصحافيين العاملين فيها -ضمن ثلاثية المنظور الذي أشرنا إليه- من عمليات القتل والإعدام الميداني للصحفيين والإعلاميين بعد الرَّصد والترصُّد، وأيضًا حالات الاستهداف المباشر المؤدي إلى عاهة مستديمة أثناء أداء نشاطهم وعملهم المهني. وتضج تقارير المنظمات الفلسطينية والدولية بالمتابعة اليومية لأشكال الإرهاب المادي للصحفيين كما ذُكِر آنفًا، وقد قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى اليوم بقتل 55 صحفيًّا فلسطينيًّا خلال ممارسة نشاطهم الإعلامي منذ انتفاضة الأقصى عام 2000. وفي العدوان الإسرائيلي على غزة فقط -الذي استمر 50 يومًا صيف 2014- قتل القصف الإسرائيلي 16 صحفيًّا فلسطينيًّا.

يجب أن نلاحظ هنا أن سياسة الإرهاب التي تستهدف التصفية الجسدية والإعدام المادي للآخرين ليست منهجًا مخصوصًا في التعامل مع وسائل الإعلام والمجتمع الصحفي، ولا هي نزعة شاذة في التعامل مع هذا القطاع المجتمعي، بل تُعد ركيزة أساسية وعنصرًا مكوِّنًا لجوهر السياسة الإسرائيلية في دعم ركائز الاحتلال وتوطين أساساته وأركانه؛ ما يجعل سياسة الإرهاب عملًا مُمَأْسَسًا ومُنَظَّمًا ومُعَبِّرًا عن كيان الدولة التي تبذل وسعها لإلغاء وجود كل ما تراه مناقضًا لوجودها. وهذا ما يشير إليه واقع الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، حيث القتل والإعدام الميداني اليومي للنساء والشيوخ والشباب والأطفال دون أن يشكِّل هؤلاء أي خطر على قوات الاحتلال.

وتمتد هذه السياسة لتشمل قطاعات مجتمعية مختلفة وبعض المجالات والأنشطة المؤثرة في مسارات القضية الفلسطينية، مثل الاستهداف المباشر للمشاركين في حركات التضامن المحلية والدولية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويمكن أن نشير هنا إلى مقتل 9 من الناشطين الأتراك في عملية اقتحام القوات الإسرائيلية لسفينة "مافي مرمرة" التي حاولت كسر الحصار على غزة، في مايو/أيار 2010. وقبل هذه الحادثة تعرضت الناشطة الأميركية، راشيل كوري، لإعدام ميداني خارج القانون بعد أن دهستها إحدى جرافات الاحتلال الإسرائيلي، في مارس/آذار 2003، خلال محاولتها منع هدم بيوت المواطنين في مدينة رفح بقطاع غزة.

يشكِّل "الترهيب" المرتكز الثاني في ثلاثية المنظور الإسرائيلي وتعامله مع وسائل الإعلام؛ إذ يحاول بشتى الوسائل أن يُحدِث أيضًا حالة نفسية عامة وسط المجتمع الصحفي يسودها الخوف والفزع والذعر، في محاولة لخلق حالة نفسية هشة ومترددة تُعطِّل قدرات الصحفي على التَّكيُّف مع واقعه وأداء نشاطه المهني. وتتعدد الوسائل التي تعتمدها السياسة الإسرائيلية في تكوين وإنشاء هذه الحالة النفسية، سواء عبر الملاحقة أو التحقيق أو الاحتجاز أو الاعتقال أو اقتحام منازل الصحفيين، أو مصادرة وتحطيم ممتلكات ومعدات للصحفيين أو التهديد بإطلاق النار والقتل...إلخ.

يُسْنِد الاحتلال منظوره وسياسته في "إرهاب" و"ترهيب" وسائل الإعلام والصحفيين العاملين فيها بالدعامة الثالثة والأساسية، وهي الردع، التي يجمع فيها بين استراتيجيتي الإرهاب والترهيب عبر إجراءات وآليات تكاد تكون سمة وعلامة خاصة بالاحتلال الإسرائيلي قد لا نجدها في تاريخ وسجل الاحتلال الأجنبي. ولعل أبرز معالم سياسة الردع ما كشفته الحرب الإسرائيلية على غزة في مايو/أيار 2021، حيث قصفت قوات الاحتلال الأبراج التي تضم مقرات المؤسسات الإعلامية ومكاتب الفضائيات والشبكات الدولية. وهي السياسة التي تجمع كما ذكرنا بين مكوِّنَي الإرهاب والترهيب في خطوة واضحة لدفع المؤسسات الإعلامية للانكفاء والاستسلام كما كانت الحال في قصف برج الجلاء الذي انهار أمام عدسات الصحافة العالمية. ويُعد ذلك القصف الاستهدافَ الأبرز للمقرات الإعلامية، فقد كان البرج يضم 8 مؤسسات إعلامية، منها مكاتب وأستوديوهات قناة الجزيرة ومقر وكالة الصحافة الأميركية "أسوشيتد برس". كما قصف الاحتلال برج الشروق الذي كان يضم 6 مؤسسات إعلامية، منها فضائية وإذاعة الأقصى وقناة فلسطين اليوم.

محاولات إعدام الخطاب الإعلامي للجزيرة

تشير حالة الإعدام الميداني للصحفية شيرين أبو عاقلة من قِبَل قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى المنظور الإسرائيلي لقناة الجزيرة التي ظل يعتبرها قناة مناصرة للقضية الفلسطينية، يستعدي خطابُها الإعلامي الوجودَ الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويُحرِّض عليه. بل يرى أن القناة تبث خطاب الكراهية ضد قوات الاحتلال. ولطالما احتجت إسرائيل على تغطية الجزيرة للحروب الإسرائيلية على غزة واعتبرتها "منحازة" و"متعاطفة" مع حركات المقاومة، وتحاول التعمية على "أكاذيب حماس" واستخدامها للأطفال دروعًا بشرية.

قد لا يسمح المجال هنا برصد جميع الانتقادات الإسرائيلية لقناة الجزيرة وعملها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن الواضح من السياسة الإسرائيلية -كما لاحظنا آنفًا- هو العمل المؤسسي/الممنهج في إدارة الاحتلال لعلاقته وتعامله مع الإعلام، والصحفيين العاملين في المؤسسات والشبكات الإعلامية الدولية، عبر المنظور الثلاثي المذكور. لذلك، فإن الجهد الحربي والسياسة الإسرائيلية ضد الإعلام لا يرتكزان على حجب الخطاب الإعلامي والحقائق الكاشفة لانتهاكات وخروقات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، و"فَلْتَرَة" الرسائل الإعلامية وما يجب أن يصل منها للمتلقي أو ما لا يصل إليه، وإنما تسعى هذه السياسة إلى قتل الشهود أنسفهم (الإرهاب) ثم خلق حالة من الترهيب والردع في الجسم الصحفي للوصول إلى أهدافها السياسية والنفسية التي تسمح لها بدعم الرواية الإسرائيلية وإعدام ما سواها، وأن تجعل الحقل الإعلامي خالصًا لتلك الرواية. وقد حاولت قوات الاحتلال الإسرائيلي، باستمرار وفي أحداث مختلفة، منع طاقم الجزيرة من العمل بحرية في تغطية الشأن الفلسطيني، لأنها تتحسَّب لخطابها الإعلامي أكثر مما تتحسَّب لفاعلين آخرين. وتُدرك تأثير ذلك الخطاب في تعبئة الرأي العام العربي والدولي، لاسيما أن محتوى الجزيرة شكَّل في كثير من المناسبات وثيقة لتتبُّع جرائم الاحتلال وانتهاكاته ضد المواطنين الفلسطينيين. وهذا ما يُفسِّر لجوء الاحتلال إلى أساليب مختلفة أيضًا للحدِّ من تأثير القناة عبر عرقلة نشاط صحفيي الجزيرة والتضييق على عملهم المهني، وسحب بطاقات الاعتماد الصحفي، ومنع مراسليها من حضور المؤتمرات والأنشطة الحكومية، وقطع وسائل اتصال القناة بالأقمار الاصطناعية، والتجسس على الهواتف والحواسيب الشخصية الخاصة بالصحفيين لمعرفة المعلومات المتعلقة بهم وعرقلة نشاطهم الإعلامي، وقد كشف برنامج "ما خفي أعظم" الذي بثته الجزيرة، في ديسمبر/كانون الأول 2020، جزءًا من تلك الممارسات.

حماية الصحفيين في مناطق النزاع والأزمات

رغم الجهود الدولية والمبادرات التي تقوم بها المؤسسات والشبكات الإعلامية لحماية الصحفيين العاملين في مناطق النزاع والأزمات والحروب، لا يزال واقع الممارسة المهنية يُشير إلى المخاطر الكبيرة التي تكتنف ظروف العمل الإعلامي في تلك المناطق. وتُثِير حالة الإعدام الميداني للصحفية شيرين أبو عاقلة مرة أخرى سؤالًا إشكاليًّا في غرف التحرير بالقنوات والفضائيات الدولية والمؤسسات الإعلامية حول كيفية حماية الصحفي لممارسة نشاطه الإعلامي بحرية في مناطق الحروب والأزمات لتأمين تغطية إخبارية ذات مصداقية لما يجري في ميادين الصراع.

وليست المشكلة هنا في المواثيق والإعلانات الدولية -فما أكثرها!- التي تحث الدول على الالتزام بحقوق الصحفيين وحرياتهم وكفالة حق الحياة، وتُقِرُّ بمسؤولية الدول عن حماية الصحفيين من الانتهاكات ومنح العون لهم، والتزام الدول بضمان حرية التعبير والإعلام وتعزيز مناخ آمن للصحفيين وعدم إخضاعهم لقيود غير قانونية، وتقديم مرتكبي الانتهاكات بحقهم إلى العدالة...إلخ. لكن المشكلة في أن هذه المواثيق والإعلانات الدولية تفتقد للقوة الإجرائية التي تسمح بمساءلة ومحاسبة الجهات التي تخرق بنودها كما هو الشأن في حالة الإعدامات الميدانية والمباشرة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حق الصحفيين. فقد تجاوز ضحايا السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع وسائل الإعلام 50 صحفيًّا فلسطينيًّا -كما ذُكِر سابقًا- ولم نسمع محاكمة واحدة لجندي من قواتها أو أحد قنَّاصتها، بل كانت إسرائيل دائمًا تجد المبررات الواهية لجرائم القتل والإعدامات الميدانية، بل تدافع عنها. لذلك، فإن المواثيق الدولية تحتاج إلى آليات دولية تنفيذية ناجزة لمحاسبة مرتكبي الجرائم.

خلاصة

تؤكد حالة الإعدام الميداني لمراسلة قناة الجزيرة الصحفية، شيرين أبو عاقلة، أن سياسة قوات الاحتلال الإسرائيلي في تعاملها مع وسائل الإعلام والصحافيين العاملين في المؤسسات الإعلامية والشبكات الدولية لا تنفصل عن السياسات العامة في إرهاب وترهيب وردع المواطنين الفلسطينيين، وهو المنظور ثلاثي الأبعاد الذي يحاول الهيمنة على الأرض والإنسان والرواية الفلسطينية وإحلال روايته دون سواها. لذلك تمعن قوات الاحتلال في ممارسة كل الانتهاكات والخروقات ضد الصحفيين في محاولة للردع وخلق حالة نفسية دائمة تُفْقِد الصحفي قدراته على التَّكيُّف مع واقعه ونقل الحقائق الكاشفة للاحتلال. ولا تجد قوات الاحتلال الإسرائيلي ما يمنعها من أن يكون صحفيو الجزيرة مثالًا للردع، لكن المسيرة المهنية للقناة وهويتها تجعلان ذلك مستحيلًا.